أجمل رسائل بريد الجمعة

آثـــــار الزمــن ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

أنا شاب أبلغ من العمر37 عاما, ملتزم وناجح في عملي وصريح إلي حد كبير. بعد أن فشلت في أكثر من خطبة لأسباب مادية سافرت للعمل في دولة خليجية, وهناك تعرفت علي سيدة مصرية مطلقة تعمل هناك, تكبرني بعشرين عاما كاملة, لكنها كانت تبدو أصغر من عمرها الحقيقي, بالرغم من أنها أم لأربعة أبناء,

وبفعل الغربة والوحدة والوحشة أو كأثر لفشلي في مشاريع زواجي السابقة ـ وجدت نفسي مندفعا نحو هذه السيدة, بعد فترة قصيرة وجدتني أعرض عليها الزواج بدون علم أهلي في مصر الذين ما إن علموا بذلك حتي أسقط في يدهم وأرسلوا إلي يستنكرون اختياري, ووافقت السيدة علي الزواج وعارضه أهلها في البداية,

لكنني وبعد تفكير عميق حاولت أن أتراجع عن إتمام الزواج وأن أنسحب من حياتها لفارق السن الكبير بيننا ولأنها أيضا لا أمل لها في الانجاب ولست أتصور ألا يكون لحياتي معني أو قيمة بدون أن يكون لي طفل تقر به عيني, لكنه قضاء الله وقدره أو ربما كانت هي أكثر مهارة مني, فقد قالت لي إن الله بعثني إليها لكي أعوضها عما مضي من حياتها! وأشياء أخري ضعفت أمامها, فقلت في نفسي ولم لا؟ فلأتزوجها إذن الآن وليفعل الله في المستقبل ما يشاء طالما أنني أتزوج في الحلال, وتزوجتها بالفعل,

وبعد عامين من زواجي منها, وعند عودتي إلي مصر في أول إجازة, رأيت أبناءها لأول مرة وشعرت بالخجل من نفسي, فأنا أبدو كواحد منهم, ناهيك عن بنتيها الاثنتين وإحداهما لديها ثلاثة أولاد والثانية في السنة النهائية في إحدي الكليات!

وكان أن طلبت منها ألا يتعرف أهلي علي أولادها, خاصة أنهم من مدينة أخري وقمت بزيارة أهلي بصحبة زوجتي فلاقت كل ترحيب منهم ربما لأن أسرتي تريد إرضائي ولا تريد خسارة ما أرسله لهم من هدايا.. المهم أنني وجدت نظرات الحسرة والحيرة والاستنكار في عيون كل من أعرفهم, خاصة أمي وأنا ابنها البكر, وعدت من إجازتي إلي عملي قاطعا الاجازة التعيسة وواصلت عملي وتدرجت في وظيفتي حتي وصلت إلي مركز مرموق وبعد مرور سبع سنوات علي الزواج تغير شكل زوجتي كثيرا, فقد دخلت عامها السابع والخمسين وبدأ جسدها يتخذ شكلا مختلفا, وأصبحت غير قادر علي الظهور بها في المجتمع, ولا أرغب في زيارة أحد أو أن يزورني أحد ليري زوجتي,

رائج :   الفراشـــة المتنقـلة ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

وأصبحت غير قادر علي العودة إلي مصر ومواجهة أهلي ومعارفي بل والمجتمع كله, وأريد أن أهرب من كل شيء, لقد أتعست حياتي بيدي.. أريد أن أتزوج الانسانة المناسبة التي تشعرني بمعني الأسرة وتشاركني طموحاتي وأحلامي الكبيرة وأن تكون لي وحدي وأكون لها وحدها.. كما أنني متأكد أنني لن أنجح في الجمع بين زوجتين في وقت واحد, أولا بسبب طبيعة زوجتي وغيرتها العمياء وكذلك بسبب ثقافتي أنا أيضا.. لهذا قررت أن أنسحب نهائيا من حياتها وأخبرتها أنني سوف أتزوج عليها لأمنحها الفرصة لتأخذ القرار بنفسها, وكنت آمل في أن تقرر الرحيل بهدوء أو تدعني أرحل بهدوء ويحتفظ كل منا للآخر بذكريات طيبة واحترام متبادل,

إلا أنها فاجأتني بأن وضعت شروطا كثيرة لزواجي الثاني لا أستطيع الوفاء بها, بل إنها حتي لو لم تضع أي شروط فلست مستعدا لأن أكون زوجا لامرأتين في وقت واحد, وأشعر أنني قد ارتكبت غلطة عمري بهذه الزيجة غير المناسبة, وأنني لابد أن أتخذ قرار النهاية بأقصي سرعة, أريد أن أعود إلي نفسي, فأرشدني بالله عليك كيف أطلق زوجتي.. هل أطلقها غيابيا ثم أرسل لها متعلقاتها؟ أم أترك الخليج كله وأعود إلي مصر برغم أنني مازلت محتاجا للبقاء هناك عدة سنوات أخري؟

ولكاتب هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

زواجك ممن تكبرك بعشرين عاما خروج علي قوانين الحياة الأولي بالاتباع.. وكل مخالفة لمألوف الحياة لا تنتهي غالبا إلا بالخسران لانها سباحة ضد التيار.. وتحد للزمن الذي لا قبل لأحد بمغالبته وتحديه, ومثل هذا الزواج إذا وقع كاستثناء نادر فإنه يستمد استمراره غالبا من أحد عاملين, إما الحب القاهر الذي يصمد لفوارق السن وآثار الزمن.. وإما المصلحة التي تعوض صاحبها عن بعض اعتباراته الخاصة وتغريه بالاستمرار بحوافز أخري لا علاقة لها بدوافع الزواج الطبيعية, وكلا العاملين ليس متوافرا في قصتك..

رائج :   قصة المثل (“موت يا حمار” )

فلقد أغراك بهذا الزواج غير المتكافيء ما كنت تستشعره في بداية اغترابك من إحباط ويأس لفشلك في أكثر من مشروع زواج.. إلي جانب قسوة ظروف الغربة في بدايتها والوحدة والإحساس بالوحشة وفقدان النصير في المجتمع الجديد, وكل ذلك مما يضعف من مقاومة الإنسان ويؤثر علي حسن اختياره لنفسه.. بل لعله في بعض المضاعفات قد يدفعه لأن يفكر في أمره بطريقة شبه عدمية..

والتفكير العدمي اتجاه فكري يري أن كل القيم والأخلاق والمعتقدات التقليدية لا أساس لها من الصحة, وأن الوجود كله لا معني له ولا قيمة وكل الأحوال في المجتمع البشري فاسدة, ولهذا فمن حق الإنسان أن يفعل أي شيء اذا وجد فيه ما يحقق له بعض راحته ولو بصفة مؤقتة وهو اتجاه فاسد كما تري يؤدي إلي الهدم وليس إلي البناء..

والبعض في حالات احباطهم ويأسهم قد تنعكس عليهم بعض ظلال من هذا التفكير العدمي الفاسد, ولقد أتصور أنك حين اتخذت قرار الارتباط بسيدة تكبرك بعشرين عاما لم تكن بعيدا عن مثل هذه الظلال.

وأيا كانت دوافعك لهذا الزواج فهي ليست سليمة ولا قادرة علي الصمود لعوامل الزمن وتحدياته.. والمؤكد هو أنك قد ظلمت هذه السيدة معك حين أغريتها بالزواج منك أو حتي حين استجبت لإغرائها لك بالزواج منها, ومهما تصورت هي خطأ أنها كانت الفائزة في هذا الارتباط, وعلي الرغم من أنه كان الاحري بها أن ترفض الزواج منك اهتداء بأحكام العقل, فإنه لا يحق لك الآن أن تلوم أحدا سواك, بل ولا يحق لك أيضا أن تنقم عليها شيئا, لأنها لم تخدعك ولم تخف عنك حقيقة عمرها وأوضاعها العائلية, ولم تعدك بالإنجاب لك ولم تتعهد لك بالصمود للزمن بحيث لا تظهر عليها آثاره بعد عدة أعوام.

وكل ما حدث هو أنك قد زهدتها بعد سبع سنوات من الزواج, وبعد أن تحسنت أحوالك المعنوية والاجتماعية وبدأت تشعر بأنك تستحق من هي أصغر منها سنا وأكثر شبابا وجمالا, ولأنه لم يكن يربطك بها حب حقيقي منذ البداية وإنما إشباع عاجل لاحتياجات نفسية مؤقتة في ظروف بداية الغربة والوحدة واليأس, فلقد أردت أن تطوي صفحتها من حياتك بلا مرارة ..

رائج :   الحصالة .. (اللهم أعطي منفقا خلفا وأعطي ممسكا تلفا)

وأملت في أن تجيء النهاية من جانبها حين تفاتحها برغبتك في الزواج من أخري.. فتعفيك هي بذلك من حرج التخلي والخذلان, لكنها خيبت توقعاتك وقبلت بمبدأ زواجك ووضعت لك بعض الشروط التي لا تغير من حقيقة الأمر شيئا, وهو أنها لا ترغب في مفارقتك حتي ولو تزوجت عليها.. وهي في ذلك منطقية مع نفسها, أو ربما كانت قد أخلصت لك الحب ورغبت في ألا تحرم نفسها منه ولو اضطرت لان تشرب عند الضرورة علي القذي, أو لعلها أدركت بنظرتها الواقعية للأمور,

ما أدركته بطلة رواية امرأة من روما للأديب الايطالي البرتومورافيا, حين قالت في ظروف مماثلة:

أسوأ ما في الحب بين امرأة وشاب يصغرها في السن بكثير أنه لا مكان للكرامة فيه!

وعلي أية حال فإن الوسيلة التي تختارها لوضع النهاية لهذه القصة ليست هي القضية.. وإنما القضية هي القرار نفسه.. فإذا كنت قد اتخذته.. ولست بقادر علي التجمل معها أكثر من ذلك فالأحري بك ألا تضاعف من أحزانها بالخداع والغدر.. وواجهها بما استقرت عليه نيتك تجاهها وتلطف بها في تعليل أسباب رغبتك في الانفصال عنها بما لا يجرح كرامتها.. ولا يعاقبها علي أمر لا حيلة لها فيه وهو آثار الزمن,

وكن كريما معها إلي أقصي ما تستطيع عسي أن تأسو بذلك بعض جراحها وتعينها علي تقبل أقدارها.. كما فعل الإمام الحسن بن علي رضي الله عنهما مع إحدي نسائه حين أوفد إليها صاحبا له بعشرة آلاف درهم وكانت تزيد كثيرا عن مؤخر صداقها وأبلغها بطلاقه لها, فقالت باكية: متاع قليل مهما كثر من حبيب مفارق! ورجع إليه صاحبه بما قالت.. فدمعت عيناه وقال:

لو كنت مراجعا امرأة طلقتها لراجعتها!

فهكذا يفعل الأصلاء مع من مازج عرقهم عرقهن وجمعت بينهم المودة والرحمة لفترة من الزمن حين تجيء النهاية.. وشكرا.

Related Articles