أجمل رسائل بريد الجمعةقصص وعبرقضايا وأراء

البشرى القديمة ‏!‏! .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

سيدي والله إني لا أدري ما الذي دفعني للكتابة إليك لأروى لك قصتي مع الحياة، كما لا أعرف إذا ما كان فيها ما يستفيد به الآخرون أم لا؟ . لكني رغم ذلك أشعر برغبة ملحة في أن أحكيها لك. 

نشأت في أسرة طيبة بإحدى مدن الوجه البحري ولأب يُعدّ من الأعيان لأنه يملك 50 فداناً، لكنه في الواقع من متوسطي الحال لأن الأرض كلها كانت مؤجرة ولا يتقاضى عنها إلا إيجاراً زهيداً.

وحين بلغت المرحلة الثانوية بدأ تعثري في الدراسة، ورسبت سنتين متتاليتين في الثانوية العامة، فقررت أسرتي أن ترسلني للإقامة مع خالٍ أعزب يُقيم بالقاهرة لألتحق بإحدى مدارسها وأخضع لإشرافه خاصة لأن شخصيته كانت جبارة وصارمة. 

وشاءت الظروف أن تتكرر نفس الظروف مع ابنة إحدى خالاتي التي حصلت على الإعدادية بمجموع ضعيف لا يؤهلها للالتحاق بالثانوي العام، ولم يكن في بلدتنا مدرسة ثانوية خاصة فرأت أسرتها أن ترسلها أيضاً إلى خالي الصارم بالقاهرة لتلتحق بمدرسة خاصة تحت رعايته.

وهكذا جمعتنا الدراسة في شقة خالي الأعزب تخدمنا سيدة مسنَّة ويتابع خالنا بشدّته المعروفة انتظامنا في الدراسة وتحصيلنا الدراسي، وفي ظروف الغربة عن أهلنا.. والشكوى من شدة خالي وصرامته وجدنا نفسيْنا أنا وبنت خالي نتبادل الحب في هذه السن الصغيرة.. ولا أعرف هل كان حباً حقيقياً أم حب مراهقة، لكننا رغم ذلك تعاهدنا على الزواج وتعاملنا مع هذا الأمر الخيالي بجدّية غريبة، ومضى العام الدراسي ونجحتُ في الثانوية العامة بما يشبه المعجزة وبمجموع ضعيف، ونجحت ابنة خالتي أيضاً وتيسَّر نقلها إلى المدرسة الثانوية ببلدتنا فانتقلت إليها وعادت لتقيم مع أسرتها.

أما أنا فقد التحقت بالمعهد العالي للتربية الرياضية واجتزتُ الاختبارات الرياضية بالتوصية والواسطة لأني لم أمارس أية لعبة رياضية، وانتظمت في الدراسة ومن حين آخر أزور أسرتي في بلدتنا .. وأجدّد العهد مع ابنة خالتي على الزواج إلى أن وصلت إلى السنة الثالثة بالمعهد ووصلت فتاتي إلى الثانوية العامة.. وكثُر خطَّاب فتاتي وتعدّدوا فهي جمال وأسرة ومال،

وكلما تقدم لها خاطب رفضته انتظاراً لي، إلى أن تقدم لها خاطب ممتاز من كل الجوانب فأرغمتها الأسرة على قبوله، وحاولت هي الاعتراض بكل وسيلة فلم تثمر محاولاتها سوى تأجيل القران إلى ما بعد أدائها لامتحان الثانوية العامة. وواجهنا الكارثة التي تهددنا بالفراق حتى نهاية العمر.. وتشاورنا فيما نفعل فيها وحدثتنا عقولنا ونحن في هذه السن الصغيرة إلى قرار خطير هو أن نضع الأسرتين أمام الأمر الواقع، وأقدمنا على ما نويناه رغم الأهوال التي تنتظرنا وصارح كل منا أهله بأنه لن يتزوج سوى الآخر مهما حدث ولو دعانا ذلك إلى ارتكاب أي حماقة يتصورونها.. وانهال علينا اللوم والسباب والإهانة وبعد خفوت العاصفة اجتمعت الأسرتان وقررتا تزويجنا تجنباً لاتساع المشكلة مع مقاطعتنا في نفس الوقت.

وكان الحل الذي توصلت له الأسرتان هو أن نرحل عن البلدة ونقيم في شقة صغيرة بالقاهرة تنازل لنا عنها أحد أقاربنا، وأن يعطيني أبي مبلغ عشرة جنيهات فقط كل شهر ويعطي والد فتاتي ابنته عشرة جنيهات مماثلة لنعيش بهذا الدخل البسيط في القاهرة ونتحمل مسئولية حياتنا و “إجرامنا” في حق الأسرتين!

وتم الزواج وكان الفرح كالمأتم الحزين وسعدنا بذلك رغم الإهانات والاحتقار فالكل فيه مقطّب ومتجهِّم في وجهينا.. وأنا وفتاتي مترددان بين الابتهاج باجتماع الشمل وبين الحزن لما نحسه من رفض الأهل وازدرائهم لنا.

وانتقلنا إلى الشقة التي تم تجهيزها في أضيق الحدود مراعاة لظروف أبي المالية وواجهنا واقعنا الجديد كعروسين مغضوب عليهما من الأهل ومحرَّم عليهما العودة إلى البلدة إلى أجل غيرمسمى، وبدخل شهري يأتينا بالبريد أو مع أحد الأقارب قدره عشرون جنيهاً لا غير.

ومع ذلك فلقد سعدنا باجتماع شملنا.. ولم تمض أسابيع حتى دب جنين الحب واندفاع الشباب في أحشاء زوجتي وفكرت في مستقبل هذا الجنين ونحن لا نكاد نستطيع أن نلبِّي حاجاتنا من الطعام. وقررت مع زوجتي أن نبيع ذهبها وأشتري به سيارة أجرة مستعملة وأتعلم القيادة لأعمل سائقاً عليها بعد الدراسة في المعهد، واشتريناها وبدأت أعمل عليها بعد الظهر وفي أيام الأجازات، وقررت مع زوجتي أن نتوقف عن قبول المساعدة الشهرية من أبي وصهري.. لكي نستعيد بعض احترامنا في أعين الأهل الذين احتقرونا. وتحسنت أحوالنا بعض الشيء.. ووضعت زوجتي حملها فإذا به توءم من ولدين بدلاً من ولد واحد.. وترددت لحظات بين الفرحة بهما وبين استثقال مؤنتهما لكني طردت الهواجس على الفور وسعدت بهما سعادة طاغية..

وبعد شهرين من مجيئهما للحياة حملت زوجتي مرة أخرى واستقبلت عامي الأخير بالمعهد وقبل أن تعلن نتيجة البكالوريوس وضعت زوجتي حملها الثاني فإذا به توءم ومن ولدين أيضاً.. ولله في خلقه شئون وتخرجت وعملت مدرساً بمدرسة بإحدى المحافظات القريبة من القاهرة وعمري 24 سنة وزوج وأب لـ 4 أطفال ذكور! وحين كان زملائي بها يسألونني عن حالتي الاجتماعية وأجيبهم بالحقيقة كانوا يندهشون ويتعجبون كيف أواجه مسئولية أسرتي الكبيرة بمرتب لا يزيد وقتها عن 23 جنيهاً، لكني كنت أجيبهم بأنني أكافح لإعالة أسرتي بعد العمل بسيارة أجرة.. وتهون كل مصاعب حياتي حين أعود إلى بيتي الدافئ بالحب وأجد فيه “أم العيال” بنت العشرين! شيء واحد كان ينغّص علينا حياتنا هو أن الأهل ظلوا على موقفهم منا رغم استغنائنا عن معونتهم.

رائج :   ألم الحقيقة‏‏ ! .. رسالة من بريد الجمعة

وحملت زوجتي للمرة الثالثة ولم أكن راغباً هذه المرة في حملها ولا هي أيضاً لكنها إرادة الله ونحن صغيران لا ندري الكثير عن أمور الحياة ولم تكن وسائل تنظيم الأسرة شائعة كما هي الحال الآن، ولو كانت شائعة لما عرفنا عنها الكثير فأنا أدور في طاحونة من السادسة صباحاً حتى منتصف الليل وكذلك زوجتي، ولا أعرف حتى الآن كيف كنت أقوم بتدبير نفقات الولادة ولبن الأطفال.. والمهم أن زوجتي قد وضعت حملها الثالث ولو ساورك الشك فيما سأرويه لك عذرتك لكن هذه هي الحقيقة التي لا أملك لها تبديلا.. فقد وضعت زوجتي للمرة الثالثة توءماً أيضاً ومن ولدين،

وأصبحت أنا وزوجتي وأطفالنا الستة حديث الأقارب وموضع إشفاق بعضهم، ورغم كل ذلك فقد استمرت الأسرتان في موقفهما منّا وهو موقف يمثل شبه مقاطعة وخاصة معي أنا بالذات.
وضاعف من عناء حياتنا أن تأجيل تجنيدي كان قد انتهى، فتقدمت لأداء الخدمة العسكرية بعد حرب أكتوبر وانقطع جزء كبير من دخلي من السيارة لكني تحملت مع زوجتي كل شيء وانتهت فترة الخدمة بعد عناء شديد ووجدت العبء قد أصبح ثقيلاً على كاهلي.. وأنا أتكبد نفقات السفر بالأتوبيس كل يوم إلى المدرسة التي أعمل بها وأعود متأخراً منها فأستريح ساعة واحدة في البيت للغداء ثم أخرج بسيارتي الأجرة لأكسب رزق الأسرة الأساسي حتى منتصف الليل وأرجع لأنام مرهقاً وأنهض من نومي في السادسة صباحاً، وزوجتي التي نشأت في العزّ ولم تعرف الفقر أصبحت تفصل من فساتينها القديمة ملابس للأطفال الرضّع. وبدأت ملابسها التي جاءت بها من أسرتها “تدوب” من كثرة الاستعمال ولا تستطيع شراء غيرها.

وقد اخشوشنت يداها من غسيل ملابس الأطفال الرضع كل يوم عدة مرات وخدمتهم الشاقة طول النهار.. والطهو والكنس والنظافة الخ.. ولكما أشفقت عليها مما تتحمله من عناء هوّنت عليَّ مصاعب حياتنا وبشَّرتني بالبشرى التي مازلت أعجب حتى الآن كيف كانت قادرة على إمكان تخيُّلها وسط ظروفنا اليائسة تلك، فلقد كانت تقول لي إنني سوف أصبح “أحسن واحد” في الأسرة، وسوف تثبت الأيام لكل من ازدرونا واحتقرونا أنها اختارت الاختيار الصحيح! فأدعو لها بالصحة وطول العمر جزاء محاولتها رفع روحي المعنوية. والمهم أنني وجدت نفسي عاجزاً عن الاستمرار في العمل كمدرس في تلك المحافظة لما أتكبده من نفقات في السفر إليها فقدمت لمسابقة لتعيين مشرفين رياضيين بإحدى جامعات القاهرة..

ولم أكن أفضل المتقدمين ولا أحسنهم، لكن الله سبحانه وتعالى أراد لي النجاح ربما لأنني وأنا أتقدم بالطلب استحضرت في خيالي عيون زوجتي وأطفالي الستة حين أرجع إليهم بالنتيجة وتسألني زوجتي بلهفة عما فعلت، فلم يشأ الله أن يخذلها وعينت مشرفاً رياضياً بالجامعة واتسعت أمامي ساعات العمل على سيارة الأجرة.. وتخففت من بعض متاعب حياتي.

لكن “الأولاد” كبروا سريعاً يا سيدي وزادت نفقاتهم ومطالب الحياة والمدارس.. ولم أجد مخرجاً لي من ظروفي سوى التعلق بالأمل في العمل في الخارج، وكلما جاء موسم الإعارات أو أعلن عن مسابقة للعمل في الخارج أتقدم بطلبي فلا يكون لي نصيب فيها، وأعود لمواصلة حياتي وزوجتي تطالبني بالصبر إلى أن تقدمت عقب إعلان للعمل برعاية الشباب بإحدى دول الخليج وتحقق الأمل الصعب وتم اختياري وسافرت مع زوجتي وأطفالي الستة إلى هناك بعد أن بعت سيارتي الأجرة،

واستقرت حياتنا هناك وتفانيت في عملي الجديد ثم حدث بعد فترة أن كنت في أحد مطارات هذه الدولة لأركب الطيران الداخلي عائداً إلى مقر إقامتي فتصادف جلوسي بجوار شخص مصري قادم في زيارة، فطلب مني أن أعطيه بعض عملة الدولة المحلية لأنه فقد ما كان معه منها مقابل أن يعطيني قيمتها مما بقي معه من الجنيهات المصرية، فقدمت له ما أرد ورفضت أن آخذ منه مقابلها المصري مؤجلاً ذلك إلى حين أن أرجع لمصر في أجازتي السنوية، فنظر إليَّ شاكراً ثم أعطاني بطاقة باسمه وعنوانه وخلال انتظارنا للطائرة روى لي أنه توجد قطعة أرض مبانٍ بالهرم تباع بألف وخمسمائة جنيه للقيراط وأوصاني بالشراء منها عند عودتي لمصر لأنها فرصة طيبة لي، وجاءت الطائرة وذهب كل منا إلى حال سبيله،

رائج :   سنوات الحرمان .. رسالة من بريد الجمعة

ثم جاءت الأجازة الصيفية بعد شهور وعدت لمصر.. وتوجهت إلى عنوان هذا الشخص فاستقبلني بترحاب كبير وسدَّد لي ما أخذه مني، ثم اصطحبني إلى صاحب الأرض التي حكى لي عنها وقمت بشراء قطعة ممتازة بمبلغ ستة آلاف جنيه، وأصبحت مالكاً لقطعة أرض للمرة الأولى في حياتي! وبعد أيام من إقامتنا في شقتنا القديمة بالقاهرة التي شهدت أيام العناء الطويلة استخرت الله وقررت أن أسافر إلى بلدتي التي لم أدخلها منذ أكثر من عشر سنوات لأصالح أبي وأمي وأسترضيهما خاصة بعد أن أصبحت أنا وزوجتي أسرة من ثمانية أفراد وذهبت واسترضيت أبي وأمي وسألتهما العفو عن اندفاع الشباب والرضا عني، وفعلت نفس الشيء مع أسرة زوجتي طالباً الصفح عن كل ما كان.

وعُدنا من بلدتي إلى القاهرة راضين وسعداء.. وانتهت الأجازة سريعاً وعدنا لمقر عملي.. فلم تمض شهور حتى جاءني نبأ وفاة أبي فحزنت عليه وحمدت الله كثيراً أن مات صافحاً عني، وفي نفس العام أيضاً مات والد زوجتي وكان تاجراً كبيراً فتعجبت من حكمة القدر، وفي صيف العام التالي عُدْنا إلى مصر في الأجازة فوجدنا ثروة كبيرة تنتظرنا أنا وزوجتي من ميراثي وميراثها وتذكرت أيام الحرمان والشقاء وليالي الضيق الطويلة التي لم يخففها عنا سوى حبنا وتعجبت من تغير الأحوال ولم أملك إلا أن أشكر ربي على نعمته.

ولقد مضت سنوات العمر بعد ذلك يا سيدي وبلغتُ الآن الثامنة والأربعين من عمري ومازلت أعمل في الخارج.. وقد حدثت تطورات مهمة في حياتي فحصل التوءم البكر على الثانوية العامة معاً والتحقا بكلية الطب فعادت معهما زوجتي لترعاهما.. وبقيت أنا مع الأولاد الأربعة الآخرين لرعايتهم، وفي العام التالي نجح التوءم الأوسط والتحقا أيضاً بكلية الطب وانضما إلى فرع الأسرة في القاهرة وبقيت أنا مع التوءم الأصغر حتى يحصل على الثانوية العامة.. وقد حصلا عليها أيضاً والحمد لله بعد عامين وعادا لمصر والتحقا بكلية الهندسة وأصبحت أعود إلى مصر مرتين في السنة لأرى أولادي وزوجتي وأعيش معهم أجمل أيام عمري، وقد أصبح لنا والحمد لله بيت جميل تم بناؤه على قطعة الأرض التي اشتريتها في الهرم والتي تضاعف سعرها بعد ذلك أضعافاً مضاعفة وكان شراؤها توفيقاً من الله.

وفي العام الماضي زوَّجت التوءم البكر لمن أحبا رغم صغر سنهما ولم أفكر في الاعتراض أو التأجيل ما دمت قادراً على تكاليف زواجهما وقد وفرت لهما كل شيء، وفي الصيف القادم إن شاء الله سوف أزوِّج التوءم الأوسط، وفي العام الذي يليه سيأتي دور التوءم الأصغر بإذن الله.. فأولادي يعتبرونني المثل الأعلى لهم.. وتحققت نبوءة زوجتي أو بشارتها فأصبح وضعي المالي بين الأسرتين.. في القمة والحمد لله لكن الأهم منه أنني وزوجتي على وفاق وفي قمة السعادة والرضا والحمد لله ولم أنس حقوق والدتي عليَّ وكذلك لم تقصر زوجتي في حقوق والدتها عليها رغم ما قدمته لي من إساءة بالقول والفعل.. كما لم أنس أيضاً حقوق الضعفاء فيما أنعم الله عليَّ به ولا أستطيع إلا أن أقول في النهاية إنه سبحانه “يرزق من يشاء بغير حساب” .

ولكاتب هذه الرسالة أقول: *أعرف حتى الآن إذا كان ما فعلته وأنا شاب صغير خطأ أم صواباً وأولادي لا يعرفون شيئاً صريحاً عن كيفية زواجي بأمهم، لكنهم يعرفون فقط أننا تزوجنا صغيرين جداً فهل تنصحني بأن أحكي لهم كل شيء بالتفصيل، أم بأن أتجاهل الأمر أيضاً؟ .. إنني بعد كل هذه السنين مازلت واقعاً في غرام أمهم هذه التي مازلت أراها في خيالي حتى الآن وهي بزي المدرسة الثانوية فماذا تقول في هذا الشأن .. وفي قصتي كلها؟

ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

قصتك يا صديقي جرت كلها منذ البداية ضد كلِّ ما يقضي به العقل والحكمة وتجارب الحياة، ورغم ذلك فلقد أثمرت ثماراً طيبة يندر أن تثمرها أية قصة مماثلة لها في تفاصيلها، لهذا فأفضل ما يقال عنها هو ما يقوله الفقهاء عادة عن غريب الرأي في بعض الفتاوى حين يخالفونها بأدب ويحترمون علم أصحابها في نفس الوقت لصائب اجتهادهم في فتاوى أخرى فيقولون عن ذلك :” يبقى الشاذُ من الفُتيا كما هو.. ولا يُقاس عليه” !.

أو ما يقوله بعض المؤرخين حين يرصدون بعض التحركات أو القرارات التي تعتبرخاطئة بالمقاييس المتعارف عليها، لكنها رغم ذلك قد أدت إلى نتائج لم تكن متوقعة فيقولون عن أمثالها: لقد كان القرار خاطئاً بكل المقاييس.. لكن نتائجه.. جاءت باهرة!

ولأن الاستثناء مهما تعددت حالاته لا يصلح أبداً لأن يصنع قاعدة أو أن يُقاس عليه، فإني أقول لك إن ما حققه حب المراهقة في حياتك من تحولات ونتائج يستحق أن يقال عنه إنه كان “الخطأ” الذي جاءت نتائجه باهرة بحق. فحبُّ المراهقة يا صديقي ليس حباً حقيقياً يصمد للزمن، كما أنه لا يعبر غالباً عن شخصية الإنسان الذي ستصاحبه إلى نهاية العمر، وإنما هو غالباً عاطفة مشوشة مغلفة بالأحلام معرضة للتقلب والتغير مع تغير المزاج النفسي للإنسان الرشيد وتخلصه من مزاج المراهقة المتقلب.

رائج :   النظرية الأولى .. رسالة من بريد الجمعة

ولهذا فإن أكثر من 90% من حالات زواج المراهقين الذين يتحدون الأهل في أوربا وأمريكا ويتزوَّجون رغما عنهم وهم دون العشرين أو حولها تنتهي إلى الفشل والانهيار بعد بضع سنوات، خاصة بعد إنجاب الأطفال وتزايد صعوبات الحياة عليهم. لكن زواج المراهقين قد نجح في حالتك وصمد وأثمر ثماره الطيبة رغم الصعوبات والأهوال التي واجهتكما. 

وحين فكرتطويلاً في أسباب نجاحه وصموده رغم الصعوبات والتحديات لم أجد سبباً مقنعاً لثبات مشاعر المراهقة المتقلبة وتحولها إلى حب حقيقي يتحدى الزمن إلا في هذه الصعوبات والتحديات نفسها!، فالصعوبات قد استثارت فيكما إرادة التحدي والكفاح للحفاظ على الأسرة التي تحملتما هذا العناء لتكوِّناها. ونبذ الأهل وازدراؤهم لكما وتوقعهم الفشل المدوي لكما بعد أعوام قليلة قد استنفر فيكما أيضاً كل ملكات الإرادة والرغبة في النجاح تجنباً لشماتة الشامتين!

أما أكبر العوامل المؤثرة في ذلك بغير شك فيتمثل في هذه القبيلة الصغيرة العجيبة التي تكونت لديكما سريعاً خلال ثلاث سنوات فقط، وضمت 6 أطفال صغار لا يزيد فارق العمر بين كل “زوج” منهم على عام واحد!.

لقد صهرتكما هذه القبيلة من الصغار في بوتقة واحدة، وأذابت معكما كل نظريات علم النفس عن المراهقة وتقلباتها فيها! فستة أطفال صغار متقاربو الأعمار بهذا الشكل العجيب كفيلون بكل تأكيل بأن يصرفوا الإنسان عن أي شيء آخر في الحياة سوى الحفاظ على هذه الثروة الإنسانية ..والوصول بها إلى بر الأمان.

ومشاكل الإنسان كثيرة يا سيدي.. لكن أكثرها نبلاً بلا منازع هو عناؤه لأن يوفر لأبنائه وأعزائه غداً أفضل من يومه هو نفسه أو أمسه، وهو حين يسعى إلى ذلك مخلصاً وعارفا ً يكون أحد ثلاثة ” حقٌ على الله عونهم” كما جاء في مضمون الحديث الشريف، لهذا فلا غرابة في أن تُختار أنت للعمل كمشرف رياضي بالجامعة مع أنك لم تكن أفضل المتقدمين لهذا العمل كما تقول، ولا في أن تأتيك فرصة العمل في الخارج في الوقت المناسب بعد أن شقيت سنوات طويلة من السادسة صباحاً حتى منتصف الليل لكي تريحك من هذا العناء ولا في أن تتخلص من متاعبك المادية وتعرف الرخاء والوفرة والقدرة على طول العناء.. لأنك قد دفعت ضريبة الكفاح كاملة وأخلصت الودَّ لمن أخلصته لك وتحملت معك هذه الرحلة البطولية.. ثم.. وهو الأهم.. لأنكما في النهاية قد صححتما أخطاء اندفاع الشباب واسترضيتما أبويكما فرحلا عن الحياة صافحْين عنكما.

إنك تقول لي إنك لا تعرف لماذا تروي لي قصتك.. وأنا أصدقك في ذلك وتفسيره عندي أنه يعكس رغبة الإنسان الغريزية في الإفضاء بما يطوى عليه صدره لمن يشاركه الاهتمام به. وليس من الضروري أن يكون ما يريد الإنسان أن يفضي به للآخرين آلاماً وهموماً فحسب ، وإنما قد يكون ذلك أيضاً تأملات أو مراجعة لمشوار الحياة ودروسها أو إنجازاً يريد المرء أن يسجله ويعتز به أو يتأكد من صوابه أو يعيد تقييمه.

وأنت تسألني بعد ذلك هل من الحكمة أن تصارح أبناءك بكل تفاصيل قصة زواجك من أمهم.. ورأيي أنك لست في حاجة لأن تروي لهم أي تفاصيل قد تُسهم في خلق الانطباع لديهم بأن نموذج تحدّي الأهل والخروج على طاعتهم في سن الشباب المبكر أو المراهقة يمكن أن يثمر مثل هذه الثمار الباهرة من أبناء متفوقين مهذبين مثلهم وزوجيْن متحابيْن ومتعاونين على رحلة السنين مثلكما!!

كما أنك لست في حاجة بالطبع لأن تروي لهم أية تفاصيل قد تمس بوعي أو بغير وعي رمز الأم أو رمز الأب في مخيّلتهم، وخاصة مما عميت عليه في رسالتك، وإنما يكفي فقط أن تروي لهم إجمالاً عن الصعوبات التي واجهتكما كزوجين صغيرين شابين لم يتوقع لهما كثير من الأقارب أن ينجح زواجهما لكنهما تحملا ظروف حياتهما بصبر ودأب وتعاون على أنواء الحياة حتى وصلا معاً إلى أكث مما كانا يحلمان به ومازال الحب والاحترام المتبادلان يجمعان بينهما، وبهذا يتحول الخطأ القديم إلى “مثال” إيجابي يحث على الكفاح وإعلاء قيم الحب والصبر.. والتعاون في أذهانهم وليس العكس.

مع صادق تمنياتي لك بدوام السعادة والهناء ومع رجائي لأبنائك الأعزاء بألا يكرروا نموذج القبيلة سريعة التوالد هذه في حياتهم الخاصة حتى لا تجد أنت نفسك بعد بضع سنين جداً لـ 36 حفيداً دفعة واحدة.. وشكراً لك على رسالتك والسلام.

Related Articles