من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)
لا أعرف هل من حقي أن أوجه إليك هذا السؤال الذى يشغلني الآن أم لا .. لكنى أشعر على الرغم من ذلك برغبة شديدة فى الحديث إليك بشأنه والتحاور معك, وقبل أن أوجه لك السؤال الحائر, أريد أن أشرح لك مقدماته وأسبابه, فأقول لك فى البداية :
إنني إنسان على مشارف الأربعين من العمر, وقد نشأت ابنا وحيدا لأب يعمل موظفا بإحدى الهيئات, ولم ينجب سواى, ولم يمهله العمر لكى يرى غرسه ينمو ويكبر أمام عينيه, فرحل عن الحياة, وأنا طفل فى التاسعة من عمري, وتفتحت مداركي فوجدت أمي, هى محور حياتي وحياة أسرتنا الصغيرة, وأدركت – حين تقدم بى العمر – أن هذه السيدة الريفية البسيطة, قد أقدمت على اختيار صعب, هو ألا تتزوج بعد أبى ؛ لكى تكرس حياتها كلها لتربيتي وتوفير كل ما تملك من جهد وإمكانيات لتعليمي, مع أنها كانت فى الخامسة والثلاثين من عمرها, حين رحل أبى عن الحياة, وعلى الرغم من معارضة أهلها لوحدتها فى مثل هذه السن .
وبمعاش أبى المحدود, واجهت أمي أعباء الحياة بصلابة وإصرار, وباعت حين تقدمت فى مراحل الدراسة ميراثها القليل من الأرض الزراعية .. وأنفقت ثمنه على تعليمي, وحرمت نفسها من كل شئ فى الحياة, ووفرته لى كى أتعلم .. وانتقلت بنا الأيام من مرحلة فى التعليم إلى مرحلة أخرى, وليس لى فى الحياة سواها .. وليس لها سواى أملا وعزاء وأنيسا لوحدتها .
ومن جانبي .. فإني لم أخيب آمال هذه السيدة العظيمة فى ابنها الذى كرست له حياته .. وواصلت تعليمي بتفوق كبير, وكلما أحرزت نجاحا جديدا, سعدت به أمي أضعاف سعادتي به؛ حتى تخرجت فى كليتي العملية متفوقا كعادتي وعملت معيدا بالكلية نفسها, ولعلى لا أكون مغاليا إذا قلت لك إننى قد فرحت لها بنجاحي وتفوقي بأكثر مما فرحت به لنفسي, لأننى قد رددت لها بعض دينها على ..
واستقبلنا معا مرحلة جديدة فى حياتنا, وترطبت حياتنا ببعض اليسر المادي لأول مرة, وانتقلنا إلى منزل أفضل, ثم حصلت على الماجستير, ورشحت لبعثة للحصول على الدكتوراه من إنجلترا, وكنت قد قاربت الثلاثين من عمري, وبدأت أفكر فى الزواج, وأتلفت حولى باحثا عن شريكة حياة , فكان مطلبى الوحيد, هو أن يوفقنى الله سبحانه وتعالى إلى فتاة , تقبل بوجود أمي فى حياتي, ولا تعترض على إقامتها معنا فى مسكن واحد .
ومن بين طالباتى, راقبت فتاة محجبة, شعرت بأنها يمكن أن تكون شريكة حياتي التى أبحث عنها , واقتربت منها, ووجدت لديها استعداد لقبولي وقبول ظروفي العائلية ففاتحتها برغبتي وصارحتها بأنها إذا قبلت بالارتباط, فإن أمى سوف تعيش معنا, حيث نقيم سواء فى مصر أو فى الخارج, لأننى لا أستطيع أن أتخلى عنها, تحت أي ظرف من الظروف, ولم تبد فتاتى اعتراضا على ذلك, وتقدمت لأسرتها, وحدثت والدها عن هذه الظروف نفسها, فوجدت لديه ترحيبا بها, وتقديرا صادقا لبرى بأمي,
وتمت الخطبة على عجل لاقتراب موعد السفر, وبعد قليل تم عقد القران, ثم أزف موعد الرحيل إلى إنجلترا, فسافرت وحيدا, وانتقلت أمى من مسكنى للإقامة مؤقتا فى بيت شقيقها, وكانت رغبة زوجتي فى البداية هى ألا تلحق بى فى إنجلترا .
وأن تنتظرني ثلاث سنوات حتى أحصل على درجتي العلمية, وأرجع للاستقرار فى مصر, ونتزوج .. لكنى أقنعتها بأن تلحق بى, وأن نتزوج هناك على الفور .
وبدأت فى ترتيب إقامتي فى إنجلترا, والانتظام فى الدراسة, وكنت خلال الأسابيع الأولى من غربتي, أطلب من زوجتي أن تذهب إلى بيت خالي؛ لاصطحاب أمي معها إلى بيت أسرتها لكى أتحدث إليها هناك, لعدم وجود تليفون ببيت خالي, فكانت خطيبتي تفعل ذلك, وتصطحبها معها فى موعد الاتصال التليفوني, وأتحدث إليها وإلى خطيبتي,
ثم استقرت أحوالي فى الغربة بعد شهور, فطلبت حسب الاتفاق السابق بيننا من زوجتي أن تلحق بى حيث أقيم, وأن تصطحب معها أمي, التى حصلت على تأشيرة إقامة لها بوصفي ابنها الوحيد, ففوجئت بزوجتي ترفض سفر أمي معها, وتصر على الحضور وحدها, وتبرر ذلك بأنه من الأفضل أن تأتى إلينا أمي فيما بعد, ولم أملك تغيير موقفها, فحضرت زوجتي بالفعل, وبدأت حياتنا الزوجية معا فكان حوارنا أو خلافنا الوحيد من اليوم الأول –
إلى جانب بعض المشكلات الصغيرة, بسبب اختلاف الطباع .. ومؤثرات الغربة والمجتمع الجديد – هو أمي, فزوجتي لا تريد لها الحضور إلينا مع أنني قد وفرت مسكنا مناسبا يتسع لنا جميعا فى راحة .. وكان خلافي معها هو كيف تحتمل أمي وحدتها وإقامتها المؤقتة فى بيت شقيقها لأربع سنوات أخرى, وقد تزيد على ذلك, إذا أتيح لى أن أعمل لبعض الوقت فى كليتى نفسها بإنجلترا .
واستغرق هذا الحوار ستة شهور, منذ بداية حياتنا معا, وأصرت زوجتي على موقفها فى عدم إحضار أمي إلينا حتى النهاية, ويئست نهائيا من محاولة إقناعها بذلك, فخطر لى أن أضعها أمام الأمر الواقع, لعلها تقبل به ولو بعد حين, فرتبت إحضار أمي إلى بغير علم زوجتي, وأدهشني أن تقدر سلطات الجوازات الإنجليزية رغبتى فى إحضار أمى لتعيش معي؛
لأنها أرملة وحيدة ولا سند لها سواى , فى الوقت الذى لا تقدر فيه زوجتي هذه الظروف نفسها, ورتبت كل شئ بالفعل, وأحضرت أمي إلى حيث أقيم, فما أن علمت زوجتي بأنها قد ركبت الطائرة فى طريقها إلينا, حتى هجرت بيت الزوجية, غاضبة إلى بيت خالتها المهاجرة مع أسرتها إلى إنجلترا, منذ سنوات طويلة !
وجاءت أمي لتعيش معي, وحدي فى الغربة , وظلت زوجتي ترفض العودة للبيت, إلا إذا رجعت أمى لمصر أولا؛ وتعجبت لذلك كثيرا, وتساءلت ماذا فعلت بها أمى؛ لكى تتخذ منها هذا الموقف المتشدد, وهى التى لم تعاشرها يوما واحدا من قبل, فلا أجد جوابا سوى أنها حين كانت تذهب إليها لتصطحبها إلى بيت أسرتها فى موعد الاتصال التليفوني, كانت تقول كذا أو تفعل كذا من سفاسف الأمور التى لا تصمد لأي مناقشة .
وحاولت المستحيل مع زوجتي, لكى ترجع إلى بيتها ونحن فى الغربة, ولكن العناد كان قد ركبها إلى النهاية فلم تجد معها أية محاولة, وبعد ستة شهور من إقامتها لدى خالتها, رجعت إلى مصر واستقرت فى بيت أسرتها ووضعت طفلنا الوحيد؛
فحاولت من جديد إعادة الشمل بعد مجئ الطفل إلى الحياة, وقطعت بعثتي, ورجعت فى إجازة لمصر للتفاهم مع زوجتي والعودة بها لإنجلترا, فكان شرطها الوحيد لذلك هو ألا تسافر أمى إلى هناك, وزاد من صلابة زوجتي أن صهري, الرجل الطيب , الذى كان يقدر موقفي من أمي قد مرض مرضا شديدا, ولازم الفراش خلال ذلك, فأصبحت الكلمة النهائية فى الأمر لزوجتى وأمها التى ساندتها فى موقفها, وبعد محاولات عديدة, وصلنا إلى الطريق المسدود, وتم الطلاق بيننا, ورجعت آسفا إلى بعثتي ..
وانتهت سنوات البعثة بخيرها وشرها, وحصلت على الدكتوراه, وعملت بعدها لمدة عامين فى الكلية نفسها, التى حصلت منها على درجتي العلمية, ثم اخترت الاستقرار فى بلدي, ورجعت إلى مصر وتسلمت عملي مدرسا بكليتي .. أما زوجتي السابقة وأم طفلي الوحيد .. فلسوف تعجب حين تعرف أنها قد رجعت إلى إنجلترا, واستقرت هناك منذ سنوات مع زوج آخر سواى, وأن هذا الزوج الجديد هو ابن خالتها , التى كانت قد لجأت للإقامة لديها لعدة شهور, حين أحضرت أمى للإقامة معى !
وقد كانت رغبة زوجتي السابقة فى البداية هى أن تصطحب معها طفلنا الوحيد؛ للإقامة معها فى المهجر, ولكنى تداركت ذلك فى الوقت الملائم, واستخدمت حقي المشروع كأب فى منع سفر ابني الطفل للخارج دون موافقتي, واستقر الطفل فى النهاية عند جدته لأمه منذ ثلاث سنوات, وبعد بضع مشكلات صغيرة فى البداية حول رؤيتى له, أصبحت أراه الآن بانتظام, وإن كنت مازلت أشعر ببعده عنى نفسيا وعاطفيا, ربما تأثرا بإقامته لدى جدته ..
والآن يا سيدى أسالك السؤال الذى دفعنى, لأن أحكى لك هذه القصة, وهو أين جوائز السماء التى تبشر بها – كثيرا فى كتاباتك – الصابرين على أنواع الحياة وتصاريف القدر, ومن يلتزمون بالطريق القويم فى حياتهم , ومن يبرون أبائهم وأمهاتهم ويحرصون على صلة الرحم , ويتعاملون مع الحياة بأمانة ؟
لقد منحتنى الحياة – والحمد لله – الصحة والعمل الممتاز والمركز المرموق والدخل المعقول, ولكنها لم تمنحنى بعد السعادة الشخصية, والزوجة التى أسكن إليها وتسكن إلى, وتشعرنى بما حققت لنفسي بكفاحي واجتهادي, والتى تربت على كتفى حين أكون مهموما , وتسعد بما أحققه لنفسي ولأسرتي من نجاح ؟.. وتشاركني بها فرحتي إذا فرحت ؟
ولقد أتيحت لى وأنا فى الغربة فرص عديدة للارتباط والزواج, ولكنى أحجمت عن الإقدام عليها كلها؛ لأنى خشيت أن أشرب كأس التعاسة الزوجية والفشل مرة أخرى للسبب نفسه, وهو أننى لا أريد أن أتخلى عن أمى, أو أقابل عطاءها وتضحيتها من أجلى بالجحود .
وأمي ترانى الآن والعمر يتقدم بى حتى شارفت الأربعين, وهى تتحسر لوحدتي , وتنبهنى إلى أن العمر يجرى بى, وأن شبابى يذوى يوما بعد يوم, ولا بد لى من شريكة حياة قبل فوات الأوان, فإذا كانت هى العقبة الوحيدة فى سبيل ذلك فإنها كما – تقول لى دائما – تستطيع أن تعيش وحيدة مع شغالة فى شقة صغيرة, أو أن تدخل إحدى دور المسنين, وأنا الآن أستطيع ماديا بالفعل أن أوفر لها سكنا آخر على عكس الحال فى زواجى الأول , لكن هل يكون هذا هو حقا رد الجميل لمن قدمت لى كل حياتها وترملت, وهى شابة , ورفضت الزواج من أجلى ؟ .. وهل يكون هذا هو الوفاء .. والعطاء لمن أعطتنى كل شئ ؟
إن حاجة أمى ليست فقط حاجة مادية أو حاجة خدمية , تستطيع شغالة أو ممرضة فى دار للمسنين أن تقدمها لها, وإنما حاجتها إلى حاجة عاطفية ونفسية وأعمق كثيرا من ذلك, فهى تحتاج إلى حبى لها وحنانى بها واهتمامي بأمرها, وأنا أشعر بأنني أؤدى لها بعض دينها على حين أطعمها بيدى, وحين أساعدها على تغيير ملابسها, وحين أحنو عليها كما حنت على العمر كله .. فهل هذا خطأ يقضى على بالحرمان من شريكة حياة عطوف إلى النهاية ؟
لقد كان هاجسى, وأنا فى الغربة وأمى فى مصر قبل أن أستقدمها .. هو ماذا يحدث لها لو وافاها الأجل, وأنا غائب عنها فى بلاد بعيدة .. ومن الذى سوف يواريها الثرى .. ويكرم خاتمتها, ومن أجل هذا الهاجس أيضا, فضلت العودة والاستقرار بمصر لتعيش فى بلدها, وبجوار من تبقى لها من أهلها بدلا من الغربة .. فهل هذا خطأ يا سيدى .. وهل تنصحني بتكرار التجربة مرة أخرى ؟ .. إذا كان هذا هو رأيك فكيف أتخلص من ” الخوف ” من الفشل مرة أخرى .. الذى يكاد يشل إرادتي, كلما فكرت فى الارتباط من جديد ؟
ولكاتب هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :
جوائز السماء فى أفق حياتك كثيرة يا سيدى .. وأجلهن الصحة والتوفيق فى الحياة العملية والعلمية , لكن العين تثبت دائما على ما ينقص الإنسان, وهى طبيعة بشرية, لا حيلة لكثيرين فيها , ولا بأس من الاستجابة لها من حين لآخر, كحافز للسعى باعتدال إلى نيل ما ينقصنا بالسبل المشروعة , إذا كان متاحا أو مأمولا فيه .
أما إذا حجبت عنا هذه الطبيعة البشرية الإحساس, بما أجزلت لنا فيه الأقدار العطاء فى الجوانب الأخرى من حياتنا, أو إذا استدرجتنا إلى هاوية السخط وجحود نعمة الخالق .. ونسيان الشكر عليها , فلابد من وقفة مع النفس, ومع هذه الطبيعة البشرية الظمأى, دائما للمزيد من العطايا, بحيث تعيدنا هذه المراجعة إلى جادة الصواب والعدل مع الحياة ومع أنفسنا , فنحسن تقدير ما سخت علينا به المقادير, ونشكر الواهب الأعظم عليها .. وقد نرجوه بعد ذلك – إن لم نستح من المزيد من الطلب – أن يتم علينا نعمته بما تهفوا إليه أنفسنا وتتلهف .
وبهذا المنطق فدعنى أعيد صياغة تساؤلك الحائر , فأتمثلك تقول : إن جوائز السماء قد انهمرت عليك فى موعدها الملائم جزاء وفاقا لبرك بأمك, وأمانتك مع الحياة , وكفاحك الجاد فيها , فمتى يتم الله نعمته عليك بالجائزة الكبرى, وهى السعادة الشخصية مع من تسكن إليها, وتسكن إليك, وتقدر فيك برك بأمك , وتعينك عليه , وليس العكس ؟
ولا عجب فى أن تكون هذه هى الجائزة الكبرى التى يترقبها الإنسان ويهفو إليها قلبه, إذ ما معنى النجاح والمال والمكانة الاجتماعية .. إن لم يسعد الإنسان فى حياته الخاصة بمن يطمئن إليه جانبه , ويقاسمه حياته وأفراحه وأحزانه وانتصاراته الشخصية وعثرات طريقه, ويشعر بوقع أنفاسه على وجهه , حتى وهو بعيد عنه ؟
لقد قال أحد أعاظم المفسرين فى تفسيره للآية الكريمة ” ومنهم من يقول ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ” , إن ” الحسنة ” المقصودة فى طلب الدنيا هى الزوجة الصالحة, التى يسعد بها الإنسان ويطمئن إليها خاطره , وهى بالتالى بمفهوم المخالفة الزوج الصالح بالنسبة للمرأة , وبغض النظر عن اتفاق البعض أو اختلافهم مع هذا التفسير ..
فإنه يكفى فى حد ذاته للدلالة على الفهم الراقى لأهمية السعادة الخاصة فى حياة الإنسان, وكيف أنها غاية الحياة , التى تستحق أن يشقى الإنسان لبلوغها .
وجوابا لهذا التساؤل ” المعدل ” .. فإنى أقول لك : إن هذه الجائزة قد تهبط عليك فى أية لحظة من حياتك , وأن العمر مازال ممدودا أمامك بإذن الله؛ لكى تحقق لنفسك كل ما تستحق من سعادة ومن أمان , فإذا كانت هذه ” الجائزة الكبرى ” قد انحرفت عنك فيما مضى من حياتك ,
فليس فى أفق السماء ما يقطع بأنها سوف تتخطاك فى قادم الأيام , ومن واجبنا دائما ألا نفقد الأمل فى جدارتنا بنيل كل ما نستحق من جوائز السعادة الشخصية والسلام النفسى, حتى لو أبطأت عنا بعض الشئ , بل وحتى أيضا لو باءت بعض محاولاتنا الأولى للبحث عنها بالفشل والخسران ؛
فالسعادة ليست حكرا فى النهاية على صنف سعيد دون غيره من البشر, وإنما يصيب كل إنسان منها ما شاءت له المقادير وبجرعات متفاوتة , وبحيث تتساوى غالبا أقدارنا من أسبابها المختلفة فى النهاية, وبغض النظر عما يناله بعضنا أكثر من غيره من هذه الأسباب دون تلك .
ومن واجبنا أيضا ألا نغالى فى الإحساس ” بالمفقود ” على حساب الموجود , وألا نغالى فى تضخيم بعض مشكلاتنا ؛ لكيلا يستعصى علينا طلب حلها , لأن مغالاتنا فى تقدير حجمها قد تعجزنا حتى عن محاولة التماس الحلول لها .
كما أنه من الحكمة أن نعترف لأنفسنا دائما بأن الحياة نجاح وفشل وهزائم وانتصارات , وأن المهم دائما هو ألا يدير الانتصار رءوسنا ؛ فنتوهم فى أنفسنا ماليس فيها , وألا يحبطنا الفشل فنبخس أنفسنا قدارها .. ونعجز عن تكرار المحاولة وطلب النجاح .
وخير ما نفعل إزاء ما يعترض طريقنا من عثرات , هو أن ننظر إليها .. كما ينظر الإنسان إلى تعاقب فصول السنة الذى نسلم به ولا ننزعج له ؛ لأنه من حقائق الحياة , وليس أمرا خارقا بمألوف الطبيعة , وأن نتطلع إلى النجاح بعد الفشل , كما نتطلع إلى الربيع بعد الشتاء .. ونسعى إليه بلا يأس , مؤمنين بأنه لا يقهر الفشل إلا الأمل فى النجاح والسعادة والسعى الجاد الدءوب إليهما .
ولو نظرت إلى حياتك بهذا المنطق لسلمت بأنك إذا صادفت فشلا وحيدا فى حياتك الموفقة حتى الآن , حتى ولو كان هذا الفشل مؤلما , وله ضحايا هو الطفل البرئ , وهذا الفشل قد تكون له أسبابه الموضوعية , التى لو استطعت تفاديها فى تجربة أخرى , فإنه قد يسلمك إلى السعادة والأمان بإذن الله .
وعلى الرغم من حدة موقف زوجتك السابقة من والدتك ورفضها المتشدد العجيب , لأن يجمع بيت واحد بينهما ولو ليوم واحد , فلست أتصور أن هذا الموقف اللا إنسانى من جانبها كان وحده السبب الوحيد لانهيار حياتك الزوجية معها , وإنما يخيل إلى أن بذور الفشل , قد تكون أعمق من ذلك وأعمق غورا فمما لاشك فيه أن تعجل الاختيار بها , تحت ضغط اقتراب موعد السفر فى البعثة , قد أسهم فى ارتباطك بمن لم تختبر جديا حقيقة شخصيتها , وعمق استعدادها للمرونة والتفاهم معك , حول وضع والدتك فى حياتك ,
كما أن الفترة القصيرة التى عشتما فيها حياتكما الزوجية فى الغربة لم توطد بينكما من الروابط العاطفية والإنسانية ما يهيئ كلا منكما للاستعداد للتضحية ببعض اعتباراته الشخصية إرضاء للآخر وحرصا عليه , ولقد شهدت أنت بأن هذه الفترة لم تخل يوما واحدا من المشاكل الصغيرة , وفسرتها باختلاف الطباع وظروف الحياة الزوجية الجديدة ومؤثرات الغربة النفسية .
وأيا كان التفسير , فإنه يشير فى النهاية إلى أن الوفاق لم يتحقق بينكما أولا لأسباب شخصية , ثم أسهمت أنت بعد ذلك – ورغم إدانتى لموقف زوجتك السابق الرافض لوالدتك على هذا النحو اللا إنسانى – فى تعقيد المشكلة من حيث لا ترغب , حين دبرت استقدام والدتك إلى حيث تقيم فى الخفاء , وكأنك تدبر جريمة بالليل , وليس عملا إنسانيا مشروعا ,
لم يكن ينبغى أن تتخفى به على أحد , فكان خطؤك الأكبر هو تفضيل محاولة فرض الأمر الواقع على شريكة حياتك , على اختيار طريق المواجهة والإقناع والتفاهم , ولقد كان ذلك فى مقدورك فى هذه الظروف ..
وكان فى مقدورك تخييرها , بين أن تتفهم دوافعك لذلك وتقبل به وتعينك عليه , أو أن ترفضه فى المواجهة والعلن , وتتصرف فى حياتها على ضوء ما اختارت لنفسها , وينفصل كل منكما عن الآخر فى سلام , وبلا خسائر إضافية أو ضحايا من الأطفال . ولو أنك كنت قد اخترت المواجهة بدلا من التدبير فى الخفاء , لربما الانفصال قد تم , قبل أن تحمل زوجتك فى أحشائها ثمرة هذا الزواج المتعجل وتتفاقم المشكلة أكثر , ولكن آفة الإنسان أنه قد لا يختار فى بعض الأحيان التوقيت الصحيح للاعتراف بالهزيمة والفشل , والتصرف فى حياته على أساس ذلك مع أن التسليم بالهزيمة فى بعض الأحيان قد يكون أكرم له وأرحم به من نطح الصخر , ثم التسليم بالفشل الذى لا مفر منه فى النهاية .
ولم يكن ” الصخر ” المقصود فى قصتك كما تتصور , هو وجود والدتك فى حياتك وحرصك على أن تعيش معك ؛ حيث تقيم , فكل ذلك مما يشرفك ويزيد من قدرك وليس العكس , إنما كان ” الصخر ” المقصود هو موقف زوجتك الأولى الرافض لذلك , رفضا لا تجدى معه محاولة للتفاهم أو الإقناع ,
فكانت المحاولة معها منذ البداية عبثا من العبث , وكان الحل الأمثل هو الانفصال قبل الإنجاب فى هدوء , مادامت قد تنكرت لما قبلت به أو لم تعترض عليه بوضوح قبل الزواج , وما أكثر من يرين فى حدبك عليها فضلا , يحسب لك وليس عليك .
ولكن متى أتيح للإنسان على أية حال أن يتفادى أخطاء الحياة قبل وقوعها , وكل ما نتمناه دائما هو أن نتعلم من بعض أخطائنا , وألا نكررها فى قادم العمر, لكيلا نصبح كمن وصفه الأديب الفرنسى مونتانى بأنه ” كالملاح الذى يطوف موانئ العالم ؛ فيحسب الآخرون أن أسفاره قد جعلت منه إنسانا مجربا حكيما , فإذا به يرجع من أسفاره كما كان قبلها ولم تفده تجاربه وأخطاؤه شيئا ” .
وخلاصة القول أن وجود والدتك فى حياتك , ليس هو العقبة فى طريق نيلك لسعادتك المشروعة بإذن الله , ولن يكون كذلك , حين تجمع الأقدار بينك وبين من ترحب بذلك , وترعى فيها حقوق ربها , كما أنى أؤيدك تماما فى ألا تتخلى عن والدتك فى مثل ظروفك هذه , وألا تقبل بما تعرضه هى عليك من أن تودعها إحدى دور المسنين , أو توفر لها سكنا آخر , وترتب لها من يخدمها فيه ؛ لأن هذا العرض حتى ولو كررته عليك والدتك كل يوم ..
فإنه لن يكون معبرا أبدا عن حقيقة نفسها وآمالها فى الحياة , بالنظر لكل ما أحاط بحياتها من ظروف وأحزان , ذلك أنه عرض من نوع ما , قد يتقدم به الإنسان أحيانا لمن يحب بهدف إبراء الذمة وتذليل العقبات أمام سعادته .. فيؤذيه قبوله أو حتى عدم الاعتراض الجدى عليه , بأكثر مما يؤذيه شئ آخر , وهو العرض الذى يسعد صاحبه برفضه .. ويحزن لقبوله , مع أن أحدا لم يرغمه على تقديمه , ولكنها النفس البشرية المليئة بالخفايا ونقاط الضعف الإنسانى والأسرار , فلا تقبله على أية حال يا صديقى ..
ولا تقصر فى ” الانزعاج ” من مجرد طرحه , وإذا كانت هناك كثيرات قد يتخوفن من مشكلات الحياة المشتركة مع الزوج , خاصة من يكون ابنا وحيدا , لأم كرست له كل حياتها على هذا النحو , فإن هناك كثيرات أيضا , تهديهن فطرتهن الإنسانية السليمة وطبيعتهن المتدينة إلى الرفق بمثل هذه الأم الوحيدة والترحيب بها والحدب عليها .
شئ واحد فقط ينبغى لك ألا تقصر فى توضيح نفسك فيه بأفصح لسان , وهو أن تشرح لمن ترتبط بها هذه الظروف بلا خفاء وبغير اعتذار لأحد عن هذه الظروف , لأن وجود والدتك فى حياتك – وأنت الابن الوحيد لها – ليس فيه ما يدعو للاعتذار عنه لأحد , ومن يشاء فليقبل بنا على هذا النحو الصريح , ومن يشاء فليرفض منذ البداية بلا عتاب ,
فالغموض فى هذه النقطة قبل الارتباط , قد يصبح سبب المشكلة فى المستقبل , ومن المؤسف حقا أن يصبح بر ابن بأمه وحرصه على أداء واجبه الإنسانى تجاهها مجالا للاعتذار , أو طلب التضحية بالقبول له , فإذا كنت قد تجرعت مرارة الفشل فى زواجك الأول , فإن وجود صخرة واحدة فى مياه النهر , ليس دليل على تعذر الملاحة فيه .
وإذا كان ابنك الطفل مازال بعيدا عنك عاطفيا ونفسيا , فلعل له من صغر سنه .. والظروف غير الملائمة المحيطة به بعض العذر فى ذلك , فلقد حرم من حنان أمه .. ولم يسعفه عقل الطفل فيه بأن يدرك مشروعية حقك فيه أو حرصك عليه , وإنما ارتبط حرمانه من أمه فى وجدانه الصغير بسبب وحيد , هو أن أباه قد منعه من السفر معها ! غير أن الأيام لن تلبث أن تعلمه مالا يعلم من حقائق الحياة , ولن يطول به العهد ؛ حتى يستشعر حاجته الإنسانية إليك , ويقترب منك , و” يعفو ” عن الظروف المؤلمة التى فرقت بينه وبين أمه ..
أما قمة ” الدراما ” فى قصتك العجيبة هذه حقا نفسه, فهى فى عودة زوجتك السابقة إلى ” المهجر ” الذى غادرته غاضبة , وهى تحمل ثمرة زواجكما فى أحشائها , ثم زواجها من ابن خالتها المقيم هناك , فلعل خطوط هذه النهاية الدرامية العجيبة قد بدأت خلال فترة الشهور الستة التى قضتها فى بيت خالتها , احتجاجا على وجود والدتك , فى بيت الزوجية فى الغربة .
وما أعجب ما تنسج خيوط الحياة من قصص وغرائب فى بعض الأحيان , وما أضيق العيش , لولا فسحة الأمل دائما فى أن ننال ذات يوم كل ما نستحق من سعادة وأمان .. ولولا قدرة هذا الأمل على أن يخطو بنا فوق مواقف الفشل , العابر فى حياتنا ؛ لكى نواصل ” التنقيب ” , بلا كلل عن السعادة المفقودة .. والبحث عنها .
من أرشيف جريدة الأهرام
نشرت سنة 2001