من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)
أنا سيدة نشأت بين أبوين منفصلين فعشت مع أمي حتى وافاها الأجل المحتوم ..ثم عدت إلى أبي لأعيش في بيته مع زوجته وأبنائه منها وتركز كل هدفي في الحياة في الحصول على شهادتي الجامعية ..لأعمل وأشق طريقي معتمدة على نفسي وفي سنواتي الأخيرة بالجامعة تعرف بي شاب مجتهد وعلى خلق وطلب أن يرتبط بي بعد التخرج وصارحني بأنه لا يملك حاليا شيئا سوى المسكن الذي يقيم فيه مع أمه نظرا لسفر إخوته للخارج ..
وأحسست بالارتياح لصراحته وصدقه وجديته ولباقته فعاهدته على الارتباط به والكفاح معه إلى أن يبني حياته وتمت خطبتي له ..وتركز أمله في السنة الأخيرة من دراسته في أن يحصل على تقدير عال يرشحه لوظيفة مرموقة يحلم بها خريجو كليتنا النظرية,
ووقفت إلى جواره فساندته بكل قواي حتى حقق الله له أمله وتخرج بتقدير عال , ورشح للوظيفة المرموقة وبعد تعيينه بها تزوجنا وانتقلت إلى مسكنه وبدأنا حياتنا الزوجية بهيجة واعدة بتحقيق كل الأماني ووضعت لنفسي هدفا هو أن أصل إلى قلب أم زوجي لأضمن سلام بيتي ..لأني عشت عمري كله ممزقة بين أبي وأمي وعانيت في بيت أبي ما لا مفر منه من تفرقة بين الإخوة غير الأشقاء ..ووفقني الله في اكتساب محبتها فاطمأن جانبي وتفرغت بكليتي لزوجي الذي أحببته من أعماقي وبادلني حبا بحب , ومضى عامان من عمر زواجنا في لمح البصر .
وفي العام الثالث أنجبت طفلتي الوحيدة وجاءت إلى الحياة ضعيفة فأعطيتها كل عنايتي واهتمامي ولقلة خبرتي بالحياة ولعدم وجود أم بجواري تعطيني من خبرتها ..أسرفت في الاهتمام بابنتي فلم أستطع تحقيق التوازن الضروري بين واجبي كزوجة وواجبي كأم , ولم أشعر بذلك إلا حين تنبهت فجأة إلى أن زوجي قد أصبح كثير الشرود والوجوم والصمت ويفتعل المشاكل معي ليقاطعني بعدها بلا سبب ..
وتحركت دوافعي العميقة للحرص عليه فحاولت أن أعرف سر تغيره وطالبته بأن يصارحني بما يريد لأعمل به .. فلم يجبني سوى بأني تسرعت في الإنجاب وأن هذه الطفلة سوف تكون فيما يبدو سببا في انفصالنا !
فانهمرت دموعي ..وأكدت له أنه لو كان قد طلب مني تأجيل الإنجاب لفعلت بلا تردد , وأن ظروف طفلتي الصحية هي التي فرضت علي الالتصاق بها لأن أمه سيدة مسنة ولا تستطيع رعايتها ..ومع ذلك فالفرصة لم تضع بعد وإني على استعداد لأن أعود كما كنت فنخرج معا ونسهر معا ونزور الأهل والأصدقاء كما كنا نفعل في العامين الأولين ورجوته بل وتوسلت إليه أن يسامحني وأن يعطيني فرصة أخرى
فسكت ولم يجب وانتهت جلسة المصارحة ولم يغمض لي جفن بعدها طوال الليل ومرت الأيام وأنا مسهدة لا أنام إلا ساعة أو ساعتين كل يوم وأصبحت لا أجده إلى جواري في أي وقت من اليوم فهو طوال النهار في العمل ..فإذا انتهى منه التقى بأصدقائه أو زار أقاربه ..أو زار أبي وأمي وأمضى في بيتهما أوقاتا طويلة .
واستمر الحال هكذا عدة شهور ولم أدخر جهدا خلالها في محاولة استعادته واسترضائه بلا جدوى , وبغزيرة المرأة أدركت أن اهتمامي بطفلتي لا يمكن أن يكون وحده هو سر هذا التباعد وأنه لابد أن هناك امرأة أخرى , لكني لم أعرف من هي وواصلت حياتي صابرة أنتظر المصير المحتوم كل لحظة ..
وكلما مر يوم أحسست أني أقترب منه , ويزداد إشفاقي على حبي الذي يضيع من بين يدي وعلى طفلتي التي رجوت الله ألا تعيش نفس حياتي ممزقة بين أبوين منفصلين إلى أن حم القضاء الذي لا مفر منه ..وجاء يوم طلب مني فيه زوجي مغادرة البيت إلى بيت أهلي ..فعدت إليه ذليلة منكسرة ألمح حولي علامات تثير الشك لكنني لا أجرؤ على المواجهة بها خوفا من أن أطرد من بيت أبي فلا أجد مأوى لي ولا ابنتي ..وقضيت ستة أشهر أنتظر كل يوم أن يعود زوجي ليصطحبني إلى بيته بلا فائدة ..وبعد شهور أخرى فوجئت به يرسل لي ورقة الطلاق وصعقت حين اكتشفت أنه طلقني طلاقا بائنا لا رجعة فيه ! ..
وبعد شهور أخرى بدأت ألاحظ في بيت أبي استعدادات تجري ومشاورات تتم وعرفت أن أختي غير الشقيقة التي تصغرني بـ 12 سنة سوف تتزوج قريبا ..وأن أمها تبذل كل جهدها لإتمام الزواج في موعده ..وحاولت في البداية أن أكذب ظنوني ..
لكنها كانت الحقيقة العارية بلا أي التواء والتي لن تصدقها ..نعم يا سيدي لقد تزوجت أختي غير الشقيقة من زوجي السابق وأب طفلتي الوحيدة ..ليتوجا معا قصة بدأت منذ حين ولم يعد هناك وقت للتعجب أو التشكك فهو كما قيل لي سيتزوج وكلاهما قد وجد في الآخر بغيته ..وهو طلقني طلاقا بائنا فلا بأس إذن بأن يتزوج أختي مادام سوف يتزوج أي فتاة ذات يوم وكان هذا المنطق العجيب يا سيدي منطق زوجة أبي ..
ووافقها عليه أبي راضيا أو مرغما لا أعرف .. ولم يستطع أن يخفي الواقع المر وهو أن القصة بدأت منذ وقت طويل وقبل طلاقي وراقبت أختي سامحها الله وهي تروح وتجيء وتشتري الفساتين وتتشاور مع أمها وابتسامة التحدي فوق شفتيها كأن شيئا لم يكن ..وتزوجت زوجي السابق لي ونظرت في المرآة وسألت نفسي ! ..
لماذا أستحق كل هذا العذاب يا ربي وماذا قدم لي هذا الجمال الذي يثني عليه كل من يراني وقد عجز عن أن يحميني من لسعة النار التي أحسها في أحشائي ..وحاولت أن أتشاغل عن همومي فخرجت للعمل بشهادتي ووجدت عملا خاصا براتب لا بأس به ..
ومضت الأيام تحمل لي كل يوم ما لا طاقة لبشر بتحمله وتشاغلت بعملي وبرعاية طفلتي التي كتب عليها أن تشرب من نفس الكأس التي شربتها طوال عمري كله .
ومضى عام وعامان على محنتي ومازلت صامدة وبلغت ابنتي سن الحضانة فألحقتها بمدرسة راقية وأسعدني أنها ذكية و محبوبة من زميلاتها فتمنيت لها من أعماقي أن يكون حظها في الحياة أفضل من حظي .. ومازالت الحياة تمضي والآن تسألني ما هي المشكلة بعد أن جرى ما جرى .. ولم يعد يجدي البكاء على الأطلال وأقول لك أن مأساتي لم تنته عند هذا الحد .
فهناك مشكلة قائمة منذ اليوم الأول لزواج أختي من مطلقي وهي أنا !
فأنا أقيم مع أبي في مسكنه ولا مأوى لي ولطفلتي غيره والعروس الجديدة تريد أن تذهب وتجيء مع عريسها إلى بيت أمها الذي أقيم فيه وهما يتحرجان والحمد لله حتى الآن من ذلك .. والعروسان يودان أن يقضيا بعض الأمسيات العائلية مع أسرة العروس ..وأنا لا مأوى لي غير هذا البيت فأين أذهب يا سيدي ..وإلى من أتجه وراتبي لا يسمح لي بالحصول على غرفة في أي مكان من القاهرة ..وإلى متى سوف أستطيع أن أتحمل الحياة هكذا ؟ هل عندك ما تقوله لي .
ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :
لا يا سيدتي ليس عندي ما أقوله لك .. ولو أردت ما استطعت فلقد كرهت الأحبار والأقلام والكلمات وأنا أقرأ رسالتك هذه وضاعف من ضيقي بها أني قرأتها بعد قليل من قراءتي الرسالة الأخرى المنشورة إلى جوار رسالتك ..فضاق صدري بهما معا .. يا إلهي ! ماذا جرى للدنيا وللروابط الأسرية السليمة ..وللقيم الإنسانية في أيامنا الشقية هذه ؟ .
إنني أعرف أسرا ترفض شبانا ممتازين لمجرد أنهم سبق لهم الزواج من بعض بنات الأقارب وتحرص على علاقاتها العائلية بأكثر مما تحرص على زوج يستطيع أن يتزوج من أخرى .. وتستطيع فتياتهن أن يتزوجن من غيره .. لأن هذا هو الأصل في العلاقات الإنسانية .. وما حدث لك هو الاستثناء البشع الذي يصدم مشاعرنا بقسوة ولولا حرصي على مساعدتك على الخروج من سعير الجحيم الذي تعيشين فيه ما نشرت رسالتك أصلا .. لو استطعت معاونتك في حل مشكلتك بغير نشرها لحجبتها عن قراء البريد مع ما أحجبه أحيانا من رسائل مشابهة تعرض علينا بعض نوازع النفس البشرية في أبشع أحوالها ..
لكنها الحياة التي لا مفر أمامنا من الاطلاع على كل جوانبها والاستفادة بدروسها المريرة حتى لو شعرنا بالغثيان ونحن نسمع معك لهذا المنطق الحجري المزيف الذي برروا به اهلك هذا الغدر بك وبطفلتك من أقرب الناس إليك كأنما لم يعد في الدنيا رجال غير هذا الرجل ..ولم يعد في الدنيا وفاء ولا رحمة ولا حياء .
على أية حال : هذه السيدة الجريحة في حاجة إلى عمل يكفل لها ولابنتها المأوى ..فمن أراد أن يطفئ بعض لهيبها ويعيد إليها ثقتها بالبشر فليتصل بي .. وشكرا له مقدما .
- من أرشيف جريدة الأهرام
- نشرت سنة 1989