فكر و ثقافةقصص وعبر

الديكتاتورية .. نماذج من الطغاه (الجزء 6)

إذا كانت إفريقيا ليست كغيرها فى غرابة حكامها فإن آسيا أيضاً ليست كمثلها فى قسوة حكامها .. لا أحد يعلم السبب يقيناً فى كون طغاة آسيا يتمتعون بهذا القدر من اللامبالاه على مدار التاريخ .. فشعوبهم مجرد أرقام تزيد و تنقص و مهما قتل منهم فهم يبدون عدم إكتراث بما ألم بهم ..

حتى لا أطيل عليكم دعونا ندخل فى الموضوع مباشرة ..

على الرغم من وقوع روسيا جغرافياً ضمن قارة أوروبا بسبب وجود 40 % من مساحتها بالإضافة إلى عاصمتها موسكو ضمن نطاقها إلا أننى فضلت ذكر واحد من أشرس طغاتها ضمن طغاة آسيا .. جوزيف ستالين سيكون محور السطور التالية ..

قد تظن أن الحرب العالمية الثانية هى السبب الوحيد لضخامة أعداد ضحايا ستالين و التى تقدر بـ 28 مليون شخص حسب أقل التقديرات شيوعاً و 50 مليون حسب أكثرها .. الحرب العالمية كلفت الإتحاد السوفيتى حوالى 20 مليون قتيل بين عسكرى و مدنى .. بالطبع ستالين مسئول جزئياً عنهم و لكنه لا يعتبر طاغية أو مجرماً بسببهم ..

فإذا كان هذا العدد لا بجعله طاغية .. فما هى الجرائم التى تجعله مستبداً فى نظرنا ؟

بدأ كل شيىء مع الثورة البلشفية عام 1917 و سقوط النظام الملكى فى روسيا .. وصل فلاديمير لينين إلى رأس السلطة مدافعاً عن الثورة و معادياً لكل من يعاديها و لأجلهم خصيصاً أمر بإنشاء معسكرات الإعتقال

كانت فى البداية معتقلات عادية يقوم لينين بإرسال معارضيه السياسيين إليها و لكن بعد وفاة لينين عام 1924 و انتقال السلطة إلى الثلاثى ستالين و كامينيف و زينوفيف بدأت الأمور بالتغير تدريجياً حتى استطاع ستالين أن ينفرد بالسلطة تماماً عام 1930 و عندها تحولت معسكرات الإعتقال إلى معسكرات إعادة لتربية أو كما أطلق عليها إختصاراً الجولاج .. بدءاً من تلك اللحظة سيواجه الشعب السوفييتى أسوأ كوابيسهم ..

تضاعفت أعداد الجولاج بشكل كبير حتى وصلت إلى 476 معتقل وزعت على أقصى أطراف الدولة و اغلبها كان فى سيبيريا حيث تصل درجات الحرارة إلى 50 درجة تحت الصفر .. ستالين كان عنده هوس بالدول الصناعية الكبرى و كان يريد تحويل الإتحاد السوفييتى من مجتمع زراعى أغلبه من الفلاحين إلى جمهورية إشتراكية صناعية كبرى ..

كيف يحدث هذا ؟ ..

انت تملك الموارد الطبيعية فى أقصى أطراف الدولة و ينقصك فقط الأيدى العاملة و لكنهم لن يذهبوا بإرادتهم الحرة حتى لو دفعت لهم مقابلاً .. الحل من وجهة نظر ستالين كان سهلاً .. إذا لم يرغبوا فى المجىء طواعية فليأتوا غصباً عنهم ..

لم تمر فترة طويلة حتى توسعت الإعتقالات فلم يعد يكفى أن تكون معارضاً سياسياً حتى تعتقل .. فأن تكون فلاحاً ترفض توريد محصولك إلى التعاونيات الإشتراكية فهذا سبب كافى لإعتقالك .. أن تكون سوفييتياً من أصل ألمانى فهذا سبب أخر .. أن تحمل لقباً غربياً فهذا أيضاً سبب مقبول ..

رائج :   حكمة أكواب القهوة المختلفة

ستعتقل على أتفه الأسباب .. نكتة على ستالين .. علاقة عابرة مع أحد المعتقلين السابقين .. أن تملك منزلاً .. أن تملك 4 بقرات فأكثر .. أن تكون صاحب رأى .. و إذا لم ينطبق عليك كل هذا فبكل سهولة ستعتقلك قوات الشرطة السرية (الشايكا) بدون سبب و ستدرج ضمن قوائم غير المرغوب فيهم أو العناصر الضارة كما كان يطلق عليهم الرجل الفولاذى ستالين ..

فى عام 1937 أصدر ستالين مرسوماً سرياً يقضى بتحديد حصة من المعتقلين لكل دولة تقع ضمن حدود الإتحاد السوفييتى .. بمعنى أنه يأمر حاكم أوكرانيا أو بيلاروسيا مثلاً بأنه يجب عليك أن تعدم ألفان من المواطنين و تعتقل عشرة آلاف آخرين هذا العام مع توريدهم إلى معسكرات العمل ..

كان ستالين يفعل ذلك لتصدير سياسة الترهيب إلى الشعب ليسهل السيطرة عليهم و أيضاً ليساهم فى نهضة بلاده الصناعية و لو على حساب الشعب نفسه ..

يبدأ الأمر بتحقيق صورى من الشايكا لكى يعترف المعتقل بأنه ضد الثورة و عندما يرفض يتم تعذيبه بأسوأ الطرق .. جلد .. منع من الطعام و الشراب ..استخدام الكهرباء .. الحرمان من النوم .. الوقوف لعدة أيام دون الجلوس و لو لدقيقة واحدة حتى يعترف ..

بعد الإعتراف ينقل المتهمون إلى معسكرات الإعتقال فى ظروف غير آدمية عبر سيارات متهالكة ثم قطارات تحوى أقفاصاً مثل الحيوانات .. كان المعتقل يستجدى الحراس لساعات ليسمح له فقط بقضاء حاجته .. بعد مرور شهر من المعاناة يتم اقتيادهم سيراً على الأقدام حتى المعتقلات ليبدأوا بعدها مباشرة فى الإنخراط فى العمل لمدة 16 ساعة يومياً دون الحصول على إجازة و لو ليوم واحد .. دون الحصول على أدوات تسهل عليهم مهامهم أو حتى ملابس ثقيلة تقيهم برد الشتاء أو حتى أماكن صالحة للنوم ..

كان النوم مسألة حياة أو موت بالنسبة لهم خاصة مع خيام مليئة بالثقوب فى درجات حرارة تصل لدرجة التجمد .. البعض إنتحر و البعض مات بسبب سوء ظروف الإحتجاز و البعض اضطر لأكل لحوم بعض المعتقلين بسبب نقص حصص الطعام المقدمة إليهم ..

الحياة فى عهد ستالين كانت تتسم بالخوف و القلق .. فما بين الإعتقال داخلياً و الموت على جبهة القتال خارجياً عاش السوفييت أحد أسوأ عهودهم عبر التاريخ و لم تنتهى تلك المعاناة إلا بموت ستالين نفسه عام 1953 بالسكتة الدماغية و رغم أجواء الحزن المصطنعة رسمياً إلا أن الشعب تنفس الصعداء بموته .. أما المعتقلين فقد أعلنوا سعادتهم و أقاموا الإحتفالات داخل المعسكرات ..

رائج :   اشهر القصص القصيرة لدوستويفسكي

فى فترة حكم ستالين دخل معسكرات الجولاج من 18 : 24 مليون سوفييتى .. رجالاً و نساءاً و شيوخاً و أطفالاً مات منهم قرابة ال 4 ملايين .. بخلاف عمليات الإعدام خارج القانون و عمليات الإبادة الجماعية التى أمر بها ستالين و أيدتها وثائق رسمية تحمل توقيعه أبرزها مجزرة كاتين.

مجزرة كاتين التى نفذها السوفييت بحق المعارضين البولنديين و شملت 21768 فرد موزعين بين مساجين و ضباط جيش و أساتذة جامعة و أطباء و محامين و مهندسين و قساوسة و رجال أعمال .. جملة من مات فى تلك الأحداث قرابة 2 مليون بالإضافة لموت قرابة 5 ملايين أخرين نتيجة المجاعات التى حدثت بسبب قرارات ستالين الخاصة بتصدير جزء كبير من المحاصيل الزراعية خاصة القمح الأوكرانى ..

بالقرب من الإتحاد السوفييتى كان هناك دولة يحكمها طاغية أخر يحمل نفس الفكر تقريباً .. كانت هناك الصين الشعبية و مؤسسها ماو تسى تونج ..

ماو كان يحمل نفس المنهج السوفييتى فالصين كانت دولة زراعية فقيرة كثيفة السكان و تملك موارد طبيعية غير مستغلة و مثلما فعل ستالين فعل ماو .. أراد تحويل الصين إلى دولة صناعية كبرى و أطلق برنامجاً تنموياً طموحاً أسماه القفزة الكبرى للأمام 

بالطبع سلاحه الأول كان معسكرات العمل التى إمتلأت بملايين الصينيين و لعدم الإطالة عليكم فالبدايات و النهايات كانت متشابهة إلى حد كبير بين التجربتين غير أن عدد قتلى المعسكرات فى الصين كان أعلى قليلاً حيث وصل إلى قرابة 6 ملايين صينى ..

بخلاف ما تسبب فيه ماو من قتل للشعب الصينى فى المعسكرات فقد قرر عام 1966 التخلص من خصومه و معارضيه بالداخل فدشن حملة قومية أطلق عليها الثورة الثقافية تزعمها 4 قادة موالين له على رأسهم زوجته جيانج كينج ..

الثورة الثقافية فى ظاهرها كانت ضرورية لترسيخ الحكم الشيوعى إلا أن الحرس الأحمر ذراع ماو الذى يبطش بها و الذى كان يتكون فى أغلبه من الشباب المتحمس أسرف فى القتل و هو ما لم يعترض عليه ماو أبداً ..

استهدفوا المعابد البوذية .. هدموا الكنائس و المساجد .. أحرقوا النصوص المقدسة و التماثيل الدينية .. قتلوا قرابة المليون صينى خلال سبع سنوات .. قتلوا كثيراً من المثقفين و أساتذة الجامعة ..

كانوا يعتقلونهم ثم يسألونهم عن معلومات فى الكتاب الأحمر الذى قام ماو بتأليفه ثم حوله إلى دستور للصين فإذا أجابوا إجابة خاطئة فالإعدام جزاءهم الطبيعى لكونهم لا يحفظون تعليمات القائد الملهم .. تحولت الصين على أياديهم إلى سجن كبير ملىء بالخوف و الفزع ..

رائج :   العفو عن محسن السكري .. ليه الرئيس يعفو عن قاتل؟

لم يكتفى ماو بكل ما سبق فهو كما تعلمون قائد فذ لا يخطىء أبداً .. و كل ما يأمر به القائد لابد و أن ينفذ حتى و إن كان فى ظاهره غير صحيح .. فى إحدى قراراته الغريبة أطلق حملة للقضاء على ما أسماهم الآفات الأربع ( الذباب و الفئران و الناموس و العصافير )

و خلال أيام مشى الشعب الصينى كله و فى يده مضارب الذباب و الناموس و امتلأت جنبات البيوت بمصائد الفئران و قتلت الطيور و العصافير فى شتى أرجاء الصين .. كان هذا إضراراً بالتنوع البيئى وقتها و هو ما يعد لعباً بالنار بلا شك ..

قتل العصافير أدى لإنتشار الحشرات التى هاجمت المحاصيل الزراعية فأفسدتها و زاد الأمر سوءاً حينما هجم الجراد على المتبقى منها .. أقل متخصص كان ليخبر ماو بسخافة فكرته إلا أن أحداً لم يجرؤ على إنتقاد خطة الزعيم الجهنمية ..

خسارة المحاصيل الزراعية أدت لمجاعة راح ضحيتها قرابة ال 20 مليون مواطن ما أجبر الحكومة على وقف حملة اصطياد العصافير دون الإشارة أبداً لخطأ ماو صاحب الخطة بالأساس ..

شطحة أخرى من شطحاته تمثلت فى إعتبار النمور و الفهود و الذئاب أعداءاً للأمة الصينية بعدما هاجم نمراً أحد المزارعين و على الفور امتلأت الصين بصيادى النمور رغبة فى تلبية أخر إبداعات الزعيم الذى لا يخطىء أبداً .. خلال سنوات قليلة قتل الصينيين 75 % من نمور العالم حتى صارت حيوانات مهددة بالإنقراض ..

أخيراً يجدر الإشارة إلى بعض مظاهر التعسف و الجنون الذى استبد بالرجل و من وراءه حرسه الأحمر المهووس بإبداعاته :

قام ماو باستجلاب المانجو إلى الصين و بالطبع لم يكن يعرفها أغلب الصينيين كونها محصول جديد .. أحد تعساء الحظ و كان يعمل طبيب أسنان جاءه مريض يحمل أحدى تلك الثمرات فلم يبد الطبيب أى تأثراً بها و قال إنها تشبه البطاطا .. بعد أيام ألقى القبض عليه و حوكم بتهمة معاداة الثورة و لأنه كان يقلل من مانجو الزعيم ماو ..

كان يحارب الأثرياء و رجال الأعمال كونهم يرغبون فى الحفاظ على رؤوس أموالهم و أيضاً لأنهم مظهر من مظاهر الرأسمالية المقيتة ..

كان يكره الطوابع بشده و أمر بجمعها و التخلص منها بل و قام بتجريم تجميعها و عاقب من خالفوا هذا الأمر بالسجن ..

لم ينتهى الحديث عن آسيا فهى أثرى مما تتخيلون .. فى الجزء القادم نكمل الحديث عن بعض أبرز طغاة العصر الحديث فى آسيا ..

و لكن .. تلك قصة أخرى ..

مقالات ذات صلة