أجمل رسائل بريد الجمعةقصص وعبرقضايا وأراء

الشخصية الفولاذية .. رسالة من بريد الجمعة

آخر رسالة من بريد الجمعة حررها الأستاذ عبد الوهاب مطاوع قبل وفاته

بقلم مداده دمع محترق.. ومرثية تشجي الورق

 نشيع إليكم الرسالة التي أرادت يد السماء أن تكون فصل الختام في حياة الراحل الكبير الأستاذ عبد الوهاب مطاوع, حيث سلمها للنشر فجر الخميس قبل الماضي كعادته كل أسبوع, فقد كان ـ رحمه الله ـ حريصا علي فحص رسائل القراء حتي يوم الأربعاء من كل أسبوع, لكي ينتقي منها المشكلات الملحة التي تمس حياة الكثيرين, لكي يستفيد الجميع من ردوده التي لم تكن مجرد حبر علي ورق, بل كانت عصارة فكره وخلاصة جهده ومنتهي اجتهاده,

إذ كثيرا ما أدركه شروق الشمس وهو في مكتبه بالأهرام,قابعا بين رسائل قرائه, غارقا في همومهم, باحثا عن كلمات تهدهد حيرتهم وتمنح الغفوة لأحزانهم, وكثيرا ما قضي ليله مؤرقا بين الورق باحثا عن خيوط النهار يبثها لقرائه من صحته ودمه ليمنحهم الأمل بعد أن حاصرتهم المشكلات التي باتت جزءا من حياته التي أثقلها بالهموم دون أن يلمس ذلك أحد ممن حوله.

ورغم ذلك كان الراحل الكبير حريصا علي صياغة( بريد الجمعة) بأسلوبه الرشيق وقلمه المبدع. وهذه هي رسالته الأخيرة نقدمها اليكم, ونحن نعلم أن حياة الأفذاذ لا تقاس بميقات السنين,وأن بذور الخير وغرس المبادئ ومنابت القيم تمتد كالموج يلاحق بعضه بعضا.

أما وقد فعل الراحل من ذلك كثيرا مما نعلم في العلن وأكثر مما لا نعلم في الخفاء فهنيئا له ماقدم فتلك هي جنته الجارية.

  • جريدة الاهرام
  • العدد 42984
  • السنة 127
  • الجمعة 13 اغسطس 2004
  • 27 من جمادىالآخرة 1425 هـ

أكتب إليك وأنا لا أدري ما إذا كنت جانية أم مجنيا عليها؟ فلقد قرأت رسالة السيدة التي تتأثر بكلام والدتها وتعصي زوجها وتحرمه منها, وحجتها في ذلك أنها لا تريد أن تعصي والدتها, لأن رضا الأم من رضا الرب. كما قرأت من قبل رسالة الشاب الذي يشكو من هجر زوجته وخلعها له ووضعها الشروط القاسية وتشويه صورته لدي طفلته وحثها علي أن تكرهه. وقصتي شبيهة لهذه القصص مع بعض الاختلاف!

فأنا طبيبة أبلغ من العمر34 سنة وقد تزوجت من مدرس بإحدى الكليات منذ نحو7 سنين وكان شابا وسيما جذابا وحاصلا علي الدكتوراه من لندن, ويعرف كيف يتعامل مع الناس والمشكلات, وأيا كانت المشكلة فإنه يتعامل معها بكل هدوء وبابتسامة لا تفارق شفتيه حتى في أحلك اللحظات, ولقد واجه العديد من المشكلات بالصبر وتغلب عليها حتى وصل إلى درجة أستاذ مساعد, وفي فرع نادر من العلم, كما أنه كثير السفر إلي لندن للاستفادة من العلم, وأساتذته هناك يرشحونه دائما للمشاركة في المؤتمرات في بلدان العالم المختلفة وإلقاء محاضرات عن تخصصه النادر.

وبالرغم من مشاغله وسفره الدائم فقد كان بارا بأمه وأخويه وكان دائم الزيارة لهم والاتصال بهم, وكان هذا يثير حفيظتي, حيث إن لي أخوين يعملان بالقاهرة ولا يزوران والدتي ووالدي إلا عندما يحتاجان إلي نقود لمعاونتهما علي الحياة, بالرغم من أنهما يعملان في عدة مستشفيات وعيادات خاصة, وكنت أري بر زوجي بوالدته وجفاء شقيقي لوالدتي وأقارن بين هذا وذاك,

وأري اعتماد شقيقي علي مركز والدتي الاجتماعي ووالدي, واعتماد زوجي علي نفسه وعدم لجوئه لأحد لحل مشكلاته, فكان هذا يثير في نفسي الشجن .. وبحكم طبيعة العمل الذي تمارسه والدتي والذي يتطلب شخصية قوية فلقد كانت كذلك شخصية قوية داخل المنزل, وتركت مسئولية البيت لوالدي الذي أصبح يرعي أموري بعد أن هجرنا شقيقاي .. وكنت أساعده في أعمال المنزل التي أصبح يجيدها بطبيعة الحال .. ثم تزوجت وغادرت بيت الأسرة.

ووجدت زوجي مختلفا عن والدي فهو لا يعلم أي شيء عن أعمال المنزل ويتركها لي, علي عكس والدي الذي كان يقوم بكل شيء لكي تتفرغ والدتي لعملها, وبالرغم من أن زوجي كان يساعدني في عملي وفي بعض أعمال المنزل الخفيفة إلا أن هذا لم يرضني ولم ترض به أمي فراحت تحرضني عليه وتقول لي إن إذلالي لزوجي يجعله خادما لنا وعبدا لا يجرؤ علي أن يرفع عينيه في وجهي أو يعصي لي أمرا .. فاستجبت لها إرضاء لأمي ولأنني وجدت في والدي مثلا أعلي,

لكن زوجي هاج وماج بعد أن أعيته الحيل معي وحاول معي بشتى الطرق التفاهم, خاصة وقد رزقنا الله بطفلة جميلة هي نسخة من والدها وشديدة التعلق به ولكن هذا كان يثير أيضا مخاوف والدتي لأنها لا تريد لطفلتي أن تكون لها علاقة بأهل زوجي بالرغم من أنهم لم يفعلوا أي شيء يسئ إلينا.

وتطورت بيننا الأمور فلجأت إلي محام كانت والدتي تتعامل معه في القضايا التي رفعها ضدها بعض الموظفين نتيجة لشدتها معهم, ورفعت قضية خلع بناء علي طلب أمي, وطلب مني المحامي أن أقوم بتحرير محضر ضد زوجي وأكيل له فيه الاتهامات مستغلا خبرته القانونية, فذهبت إلي قسم الشرطة مع المحامي وحررت هذا المحضر.

وكانت خطة والدتي هي إذلال زوجي وتهديده والضغط عليه حتى يرضخ لأوامرنا ويصبح نسخة من والدي في الطاعة والامتثال, ولكنه رفض بكبرياء وعزة نفس مما استفز والدتي واستثار قدرتها علي التحدي, فأصبحت القضايا التي أرفعها ضده وكأنها في الحقيقة بين والدتي وزوجي, ثم جاءت قضية الخلع وذهب زوجي بنفسه إلي قاعة المحكمة ووافق علي الخلع وقال للقاضي ـ حسبما أخبرني المحامي ـ إنه مادامت زوجتي قد طلبت الطلاق بالمحكمة فلها ما شاءت,

وقضت المحكمة بالخلع ورد المهر أو الهدايا فلم أردها ولم يطالبني هو بها وترك لي كل شيء, ومع أنني كنت الساعية إلي الطلاق .. ورفعت قضية الخلع ضد زوجي فلقد انهرت حين سمعت خبر طلاقي, ذلك أنني وحتى اللحظة الأخيرة كنت أظن أنه سيرجع إلي راكعا, كما وعدتني أمي وهي تؤكد لي أن ما تفعله هو لمصلحتي حتى أتفرغ لعملي وأكون طبيبة كبيرة وأنهي دراستي العليا التي ساعدني فيها زوجي بجمع المادة العلمية لي خلال سفرياته للخارج.

لكن شيئا من وعود أمي لم يتحقق.. وخسرت حياتي الزوجية وعدت إلي منزل أمي مطلقة بالخلع ومعي طفلتي, فرحت أنفس فيها عن همومي وأحرضها علي والدها وأشوه لها صورته وصورة أهله, وعندما كانت تتذكر عمتها أقول لها إن عمتها كانت تكويها بالنار وتضربها بآلة حادة وهي صغيرة, وحين تتذكر جدتها لوالدها أقول لها إنها أرادت أن تقتلها وهي وليدة, وعندما تتذكر عمها أقول لها أن عمها لا يحبها ولا يحبني وأنه سبب بعد والدها عنا.

وقبل ذهاب طفلتي لرؤية والدها كل خميس لمدة ساعتين كانت والدتي تقوم بتلقينها درسا في الكراهية والاستفزاز, وتملي علي والدي أوامر صارمة أهمها عدم السماح للطفلة بالاقتراب من والدها وعدم أخذ أي مشروبات أو مأكولات منه حتى لا يدس لها السم فتموت وتنقطع النفقة التي نحصل عليها, فالطفلة بالنسبة لنا هي مصدر رزق ومنجم ذهب, حيث إننا نحصل علي نفقات عالية تفوق مرتبي مرتين. وبالرغم من ذلك لم يعترض مطلقي علي ارتفاع النفقة ولم يستأنف,

وقمت مع والدتي برفع عدة قضايا ضده, وهي للأسف عادة في عائلة والدتي التي يكثر فيها الطلاق, وكنت أظن أن مطلقي سيقوم برفع قضايا معاكسة كما هي العادة في النزاعات المماثلة لكنه لم يفعل وانصرف إلي عمله, وتابعت أحواله عن بعد فوجدته يزداد نجاحا بعد الطلاق وأن ما يتم استقطاعه من راتبه للنفقة يعوضه الله عنه أضعافا مضاعفة من خلال الاستشارات التي يقدمها لهيئات علمية عالمية..

أما أنا فلم أتقدم في عملي خطوة واحدة, كما كنت أظن أنني سأفعل بعد الطلاق وكما كانت تخطط لي والدتي ـ سامحها الله ـ وهي الآن تخضع لإجراء جراحة كبيرة في القلب في القاهرة, وكم كنت أتمني أن أجد زوجي إلي جواري في هذه اللحظات العصيبة, وأنظر إلي أمي وهي راقدة في فراش المرض لا حول لها ولا قوة .. وأسأل نفسي أين الجبروت والصوت العالي الجهوري والشخصية الفولاذية..

أنني أتمني لها الشفاء وأتمنى أيضا أن يسامحها الله فيما فعلته بي وبطفلتي وبوالدي من قبل.

رائج :   من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || حرف الألف

وأقول لكاتبة الرسالة التي تريد أن تنفصل عن زوجها إرضاء لأمها :

لا تستجيبي لها ولا تسعي إلي هدم أسرتك رحمة بنفسك وبأطفالك وبزوجك الذي لا يستحق ذلك.وأرجو أن تنشر رسالتي هذه لكي يقرأها الجميع ويستفيدوا بها, ويقرأها أيضا زوجي عسي أن يغفر لي ما فعلته به والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

رائج :   على مسرح الحياة || من كتابات د : أحمد خالد توفيق

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

قولك في بداية رسالتك أنك لا تدرين ما إذا كنت جانية أم مجنيا عليها .. يتناقض مع كل ما ذكرت بعد ذلك من سلوكك مع زوجك السابق, ومحاولتك أن تصنعي منه نسخة باهتة جديدة من أبيك في علاقته بزوجته, حيث ارتضي أن تكون هي المسيطرة علي الأسرة, وهو التابع المطيع الذي يقوم بأعمال البيت نيابة عنها,

ويستسلم لإرادتها علي طول الخط, فضلا عن سعيك إلي قهر إرادة زوجك وإذلاله وتهديده والضغط عليه لكي يرضخ لأوامرك وأوامر والدتك ذات الشخصية الفولاذية, واعترافك بأنك قد حررت ضده محضرا ووجهت إليه من الاتهامات ما تعترفين بأنه غير صحيح, وأقمت عليه عدة دعاوي توجتينها بدعوي الخلع بناء علي أوامر والدتك, وكل ذلك لأن زوجك السابق قد رفض الرضوخ لأوامرك والركوع أمام والدتك..

بل إنك تعترفين كذلك ـ وأنت الطبيبة المثقفة ـ بأنك لا تتورعين عن إفساد مشاعر طفلتك الصغيرة ضد أبيها وعمتها وعمها وجدتها لأبيها, والادعاء عليهم بالباطل أنهم يكرهونها وحاولوا إيذاءها بل وقتلها وهي طفلة وليدة, غير عابئة بما لذلك من أثر تربوي خطير علي معنوياتها وتكوينها النفسي, قد ينعكس عليها في سوء الظن بالآخرين والخوف المرضي منهم والشك فيهم, فكيف تتساءلين بعد ذلك عما إذا كنت جانية أم مجنيا عليك؟

الحق أنك جانية علي زوجك السابق وطفلتك, ومجني عليك من والدتك التي قدمت لك أسوأ المثل لما ينبغي أن تكون عليه الزوجة, وفتنت أنت بهذا المثال الفاسد وأردت التمثل به وتقليده مع زوجك, وغابت عنك الحقيقة البديهية التي يعرفها أبسط البسطاء وهي أن البشر ليسوا أشباها متماثلين وإنما أشخاص شتي تختلف طباعهم ورؤاهم وشخصياتهم,

وأن ما يصلح مع شخص ما قد لا يصلح مع غيره, فإذا كانت والدتك قد أقنعتك بأن المثال الناجح للحياة الزوجية هو الذي تقهر فيه الزوجة إرادة زوجها وتتسم بشخصية فولاذية, فلقد غاب عنك أن الشخصية المسيطرة قد تتوافق مع الشخصية المستسلمة لأنها تسلم لها بالقيادة ولا تتصارع معها, أما الشخصية الطبيعية فإنها لا تسلم قيادها لأحد وتنفر ممن يحاول إخضاعها وقهرها وتتصارع معه, وهو ما حدث مع زوجك السابق.

فإذا كانت الحياة الزوجية لأبويك لم تنهر ولم تتعرض للقلاقل والاضطرابات مما أغراك بمحاولة تقليدها, فليس ذلك لأنها المثال الناجح أو الأفضل, وإنما لأنه, كما يقول الأديب الفرنسي باسكال في كتابه الأفكار: لا يشعر الإنسان بقيوده إذا تبع مختارا من يجره, فإذا بدأ المقاومة محاولا الابتعاد تألم غاية الألم!

وهكذا الحال دائما يا سيدتي إذا استسلم لنا أحد دون مقاومة جررناه وراءنا وتبعنا هو بغير أن يشعر بألم.. أما إذا قاومنا فهنا يتألم أشد الألم.. فكيف غابت عنك هذه الحقيقة؟ وماذا جنت طفلتك البريئة حتى تعرضيها للاضطراب النفسي واختلال القيم والمعايير بغرس الكراهية في قلبها ضد أبيها وذوي رحمها بدلا من أن تغرسي فيها قيم الحب والرحمة والعطف وصلة الرحم, وبقية المشاعر الايجابية التي تعينها علي التواصل السليم مع الحياة؟

وهل حقا قد استوعبت الدرس وشعرت بالندم الصادق علي ما فعلت بزوجك وحياتك العائلية وطفلتك؟

ربما تكونين طبيبة ناجحة, والمؤكد أنك كنت في مرحلة التعلم ذكية ومتفوقة دراسيا, لكن المؤكد كذلك أنك لم تبدي شيئا من هذا الذكاء في التعامل مع حياتك الزوجية السابقة.. ولا مع زوجك ولا حتي مع طفلتك الصغيرة التي تدمرينها معنويا بغير أن تدركي ذلك.

  • وقديما قال أمير الشعراء أحمد شوقي:
كم منجب في تلقي الدروس … تلقي الحياة فلم ينجب

Related Articles