من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)
حاولت أن أكتب إليك مرارا لكني لم أجد لدي الجرأة علي أن أكتب قصتي.. ثم قرأت رسالة السيدة التي تحكي عن وجود خلافات بينها وبين زوجها بسبب المشاكل المالية, وكانت تحلم بأن هذا الزوج قد مات وأنها تزوجت بآخر غني, راح يحقق لها أحلامها, وتصحو في الصباح فتمارس حياتها بصورة عادية جدا مع زوجها وكأنه لم يمت في أحلامها ولم تبك عليه ولم تتزوج بآخر, وعنها مات زوجها بالفعل أصيبت بحالة ذهول لأن كل ما قد حلمت به من قبل قد حدث.
ومنذ قرأتها لم أكف عن التفكير فيها لحظة واحدة, فأنا سيدة شابة أبلغ من العمر28 عاما, أسكن في مدينة ساحلية كبيرة ولي أختان أصغر مني, متزوجة منذ6 سنوات من قريب لي يعمل بمركز مرموق ولي ابنتان الكبري عمرها9 سنوات والصغري سنة.
وبدأت قصتي منذ أن كنت بالصف الثاني الثانوي حين تعرفت علي ابن زميل لوالدي في نفس سني, وكنا نتقابل في النادي مع بقية أبناء زملاء وأصدقاء والدي, وتطورت الصداقة بيني وبين هذا الشاب إلي إعجاب ثم إلي حب, وصارح كل منا الآخر بهذه المشاعر, ومع أننا كنا في سن السابعة عشرة فقد كان هذا الشاب يتميز برجاحة عقل يلمسها من يتعامل معه علي الرغم من المشاكل العائلية بين والده ووالدته, ومن هذا المنطلق صارحني بأننا لابد أن نفترق ونظل أصدقاء لأن هذه العلاقة محكوم عليها بالفشل نتيجة لصغر سننا, والمشاكل التي تنتظره عند التخرج من مشاكل مالية وعائلية وغيرها,
وبعد ذلك بنحو العام صارحني بأنه يريد الارتباط بي مرة أخري, وأنه سوف يحاول حل هذه المشاكل, وكنا قد انتهينا من الثانوية العامة, والتحق بكلية عسكرية, والتحقت أنا بكلية نظرية, وأصبحنا نتقابل في كليتي يوم الخميس من كل أسبوع, حتي وصلت إلي السنة الثانية بالكلية وصارحته بأننا لابد أن نفترق لأنني شعرت بأنني أخون ثقة والدي ووالدتي, كما أنني كنت غير متأكدة من أن المشاعر التي أحس بها تجاهه هي مشاعر حب حقيقية, ففضلت الابتعاد.
ثم علمت بعد انفصالنا بأسبوع أنه قد ارتبط بزميلة لنا في النادي, واعترف بأنني أحسست بصدمة دفعتني لأن أتحدث إليه تليفونيا وأطلب منه العودة إلي مرة أخري, لكنه قال إنه مقتنع تماما برأيي, وإن بداخله عيوبا سوف يتم إصلاحها عندما يرتبط بهذه الفتاة الأخري, وإننا لابد أن ننفصل, وحدث لي شبه انهيار نفسي مما جعلني أنجح في تلك السنة بدرجة مقبول مع أنني كنت من المتفوقين, وبدأت السنة الدراسية التالية وتقدم لي زوجي لطلب يدي, ووافقت عليه عن طريق العقل وليس القلب, فهو صاحب وظيفة مرموقة, وحاولت التقرب إليه لعلني أجد لديه الحب الذي افتقده واتجهت إليه بكل عواطفي وجوارحي, واكتشفت أنه إنسان طيب يحبني ويخاف الله ويصلي كل فروضه, فزادني هذا اقترابا منه, وتزوجنا وأنجبنا طفلتنا الأولي,
وعلمت بعد ذلك أن الحبيب السابق قد تزوج ممن ارتبط بها بعد مشاكل عديدة بينه وبين أبيها مما هدد مستقبله في العمل, وبدأت مشكلتي عندما اكتشفت أن زوجي يثور ويفقد أعصابه لأتفه الأسباب, فهو يثور إذا كان الجو حارا. ويثور إذا طلبت منه أن يحمل طفلتنا لبرهة حتي أضع الطعام علي المائدة, إلي جانب المشاجرات الزوجية المعتادة وفي أحيان كثيرة ينتهي الأمر إلي حد الضرب والإهانة, وقد يضرب ابنتنا وهي طفلة لا يتعدي عمرها العام,
وحين أعاتبه بعد أن يهدأ يقول لي إن عمله يجعله عصبيا لأنه في حالة تركيز دائمة. وفي بادئ الأمر كنت أتحمله, ولكن مع تكرار الإهانة والضرب أحيانا ومع توتري الدائم في أحيان أخري بدأت مشكلتي في الظهور, إذ أصبحت أفكر في الحبيب السابق الذي لم أشر إليه في حديثي مع زوجي أبدا في فترة الخطبة, وأصبحت هذه العادة تلازمني أحيانا كثيرة في الآونة الأخيرة حتي في أحلام نومي وفي أحلام اليقظة مما جعلني عصبية للغاية, فلقد بدأت أنا أيضا أتخيل أن زوجي قد مات, وأن الحبيب السابق قد طلق زوجته وأننا قد تقابلنا مصادفة وتزوجنا بعد أن صارح كل منا الآخر بأنه مازال يحبه,
وفي كل موقف يحدث في البيت أتخيل أن الحبيب السابق معي وأننا نتكلم حول هذا الموقف, وأنني أنجبت منه أطفالا, وحتي في علاقتي الخاصة مع زوجي أصبحت أتخيل الحبيب السابق بدلا من زوجي مما جعلني أنفر من زوجي ولا أستجيب له, فبدأ يتهمني بأنني باردة وبلا مشاعر, والحقيقة هي أنني لا أريد أن أتخيل أحدا غير زوجي معي في هذه العلاقة ولا أستجيب له خشية من تخيلاتي وأحلام اليقظة.
وأنا لا أستطيع أن أبوح لأحد بما أحس به, فأنا أعتبر أن كل هذا التفكير في رجل غير زوجي هو بمثابة خيانة, ولست أريد أن أخون زوجي ووالد أبنتي علي الرغم من توتره والذي يصيب البيت كله بالتوتر والبنتين بالخوف, والحق أن زوجي له خصال طيبة كثيرة جدا, ولكنني أحس بأنني سوف أصاب بمرض نفسي نتيجة لهذه الأحلام والتخيلات, خاصة حين ألتقي الحبيب السابق مصادفة فتزداد الأحلام إلي درجة أنني أدخل حجرتي وأغلق الباب حتي أستطيع أن أتخيل وأحلم وحدي دون أن يقاطعني أحد, وحين يقاطعني زوجي في هذه الأثناء أثور عليه مما يجعله غاضبا ومنزعجا لكثرة عصبيتي.. فماذا أفعل؟
هل أذهب إلي طبيب نفسي مع العلم بأنني لا أستطيع أن أخرج وحدي إلي أي طبيب دون زوجي ودون معرفته, كما أنني لا أستطيع أن أبوح لأحد من أسرتي أو حتي أصدقائي بما أنا فيه, لقد التحقت بأحد الفصول لتحفيظ القرآن الكريم رغبة مني في التواصل مع الله لكيلا أحيد عن الطريق الصواب, ولكن دون جدوي, فأنا أفكر فيه طوال الوقت, فماذا أفعل ياسيدي فأنا علي وشك أن أخرب بيتي بيدي, وأعتمد علي رأيك في حل مشكلتي, وإضفاء السكينة علي روحي لتهدئة نفسي وبيتي.
ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :
حين نضيق بواقعنا نهرب عادة إلي الخيال.. وليس في ذلك من بأس, إذا لم يتعد حدود الاعتدال, ولم ينعكس بالسلب علي تواصلنا مع الواقع وتقبلنا له. غير أنه في حالة الخواطر الملحة التي تلاحق الإنسان بما يشبه جبر التكرار علي الرغم من محاولته التخلص منها أو استشعاره للتأثم لمجرد معايشتها..
ومع انعكاس هذه الخواطر سلبيا علي تقبل الإنسان لحياته وتعامله مع شركائه فيها, فإن الأمر قد يستدعي بالفعل الاستعانة بخبرة المتخصصين في مواجهتها والتخلص من آثارها ومادامت زيارة الطبيب النفسي قد تثير لك بعض الحرج مع زوحك, فإن الأفضل هو أن تستشيري طبيبة نفسية وأن تبرري لزوجك ذلك برغبتك في استعادة هدوئك النفسي وإقبالك السابق علي الحياة الزوجية.. والحق أنك لن تتجاوزي الحقيقة في ذلك لأن ما تشكين منه يسهم بالفعل في توترك العصبي ويؤدي إلي ضعف تجاوبك العاطفي مع زوجك..
والأرجح هو أنك سوف تتخلصين من ضغوط أحلام اليقظة هذه عليك, بالإفضاء بها للطبيبة النفسية والحديث عنها, والتعامل معها كأمر قابل للتحليل والفهم وادراك دواعيه وأسبابه ومن ثم للتخلص منه بلا أضرار, ذلك أن بعض أسباب قوة جبر التكرار لمثل هذا الحلم في حياة زوجة راغبة بصدق في أن تخلص بمشاعرها ووجدانها لزوجها هو هذه الهالة من السرية والتكتم وإحساس التأثم التي تحيط به.. مع أنه من رحمة السماء بنا أن أعفانا الله سبحانه وتعالي من الحساب عما تجيش به صدورنا مهما كان مخالفا لما نلتزم به في حياتنا من قيم وقيود أخلاقية مادام لم يخرج عن دائرة الخواطر والتخيلات, وفي الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان: أن الله قد تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به.
ومشكلة بعض أصحاب التجربة العاطفية التي لم تكتمل قبل الزواج هي أنهم حين يصطدمون بعد حين بمتاعب الحياة الزوجية العادية وتشتد وطأتها عليهم, أنهم قد يهربون منها إلي تخيل حالهم لو كانوا قد ارتبطوا بمن لم تكتمل قصتهم معهم, ويتصورون أنهم لو كانوا قد شاركوهم رحلة الحياة لكان حالهم قد أصبح أفضل ولما عانوا بعض ما يعانون الآن, ويؤكدون ذلك لأنفسهم بعقد المقارنات بين أطياف الماضي ورموز الحاضر .. ويجدون نتيجة المقارنة غالبا لمصلحة الماضي وليس الحاضر, وتغيب عنهم خلال ذلك حقيقة أساسية هي أن المقارنة خاطئة من الأساس لأنهم لا يقارنون بين مثيلين أو شبيهين وإنما بين نقيضين لا سبيل للمقارنة بينهما, هما الواقع.. والخيال,
إذ يقارنون بين طيف الذكري الذي لابد أن يكون شاعريا وعاطفيا ومذكرا بأيام الصبا وبواكير الشباب.. وبين الحاضر الذي يرمز إلي الواجبات والالتزامات وعناء تربية الأطفال وتحديات الحياة واحتكاكات العلاقة الطبيعية بين زوجين لهما خلافاتهما وأوقات صفائهما.. ومن هنا فلابد أن تأتي النتيجة خادعة.
ولهذا فإنه من المفيد لك في الوقت الحاضر وإلي أن تتخلصي من مطاردة هذا الحلم لك, أن تتجنبي تماما رؤية طيف هذا الماضي بالمصادفة أو بغيرها, وأن تحاولي احتواء عصبية زوجك وتوتراته وتجنب أسباب ثوراته العصبية.. وتفادي معاتبته خلال انفعاله وتأجيل ذلك إلي ما بعد استعادته لاتزانه وهدوئه النفسي.. وبذلك تتخففين من بعض الضغوط العصبية التي تدفعك للهروب إلي الماضي والاتجاه بأفكارك إلي الشاطئ البعيد الذي لا سبيل للوصول إليه مهما أبحرت سفينتك في بحار الخيال.