أجمل رسائل بريد الجمعةقصص وعبرقضايا وأراء

الليالي القاسية .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

أكتب إليك بعد اسابيع من التردد، بين أن اكتب أو لا اكتب لحرجى البالغ من حساسية مشكلتى، التى لا استطيع أن استشير فيها أى إنسان آخر. فأنا موظف بمؤهل متوسط بإحدى المحافظات القريبة من القاهرة. فى الخامسة والأربعين من عمرى. وزوجتى فى الحادية والثلاثين من عمرها، وهى جميلة وشديدة الرقة والجاذبية.

وقد تزوجنا منذ أربعة عشر عاماً وعمرها 17 سنة، وانجبنا اربع بنات وولدين، لكن من يرى زوجتى لا يتصور أنها أم لستة ابناء، لأنها حافظت دائماً على رونقها وقوامها. وهى فى الحقيقة مثال للزوجة المطيعة التى تتفانى فى خدمة أسرتها، وفى إسعادى بعد أن وجدت في الزوج والشقيق، ورغم صعوبات حياتنا لم تشك يوماً شظف العيش ، وعشنا طوال هذه السنوات فى حب متدفق ومتجدد دائماً والحمد لله.

وقد مضت بنا الحياة طيبة جميلة بالحب وحسن المعاشرة، إلى أن وصلنا معاً إلى يوم وجدنا فيه أننا لا نستطيع الاستمرار فى مواجهة صعوبة الحياة، أو تجمل غول الأسعار الذي يحاصرنا مع أبنائنا من كل جانب. فالراتب لا يزيد على مائة جنيه. ولو ضاعفنا من قدرتنا على التقشف ، واكتفينا به للمأكل وحده فلن يغطى نفقات الحياة الأخرى من ملبس ومدارس وعلاج.. إلخ.

واعدنا التفكير في أمرنا فاستقر رأينا على انه لا حل لمشكلتنا سوى السفر للعمل في الخارج لعدة سنوات، ادخر خلالها مبلغاً من المال واضعه فى البنك واستعين بفوائده على استكمال مطالب الحياة، إلى جانب الراتب، ثم يبقى المبلغ نفسه للأبناء في المستقبل. وقادنا البحث إلى مكتب من مكاتب السفر لأبحث لنفسي عن فرصة، وقابلت صاحب المكتب وكانت معي زوجتي، وشرحت له ما أريد، فصمت لحظة ثم قال:

إن فرص الحصول على عمل لأصحاب الأعمال الإدارية مثلك ضئيلة جدا، لكنى استطيع أن أجد لزوجتك عملاً بسهولة. ولأن زوجتي لم تنل حظها من التعليم فقد اقترح أن تسافر هي للعمل كشغالة في إحدى الدول المجاورة.

ومع أن زوجتي ليس لها تجارب في الحياة، ولم تجرب السفر ولا الغربة، فقد وافقت أمامي فورا على العرض من أجل الأبناء، وبسبب قسوة ما عانت من جفاف الحياة، ومن الليالي الكثيرة التي أمضيناها على ما يشبه الطوى، ومن الساعات الطويلة التي أمضتها وهى ترتق ملابسنا لكي تستر أبنائنا أمام الناس.

وانصرفنا من المكتب وفكرت في الأمر طويلاً، ووجدت نفسي غير قادر على الموافقة ولا على الاعتراض، لأن الحال لا تخفى على احد .. وإذا كانت زوجتي قد قبلت هذه التضحية.. فكيف استطيع أن ارفض التضحية بسعادتي الشخصية لفترة تبتعد فيها عنى زوجتي من أجل الأبناء؟ وطلب منا الرجل إعداد أوراق السفر فأعددناها وذهبنا بها إليه.

فابلغنا أن عنده فرصة عظيمة لنا هي ثرى عربي يؤجر شقتين بالقاهرة لبناته اللاتي يدرسن فى القاهرة ، ويريد لهن مدبرة منزل تسافر معهن عند عودتهن لبلادهن، واتصل به صاحب المكتب تليفونياً ودعاه للحضور.. وبعد فترة قصيرة دخل علينا فى المكتب رجل عجوز تجاوز الخامسة والسبعين، يرتجف من الشيخوخة ولا تكاد قدماه تقويان على احتماله، وبعد حديث قصير قرر أن يصطحبنا إلى إحدى شقتيه لتقوم زوجتي بطهو طعام الغداء لهم ، فإذا أعجبه طهوها للطعام فسوف يتعاقد معها على العمل.

ونزلنا وركبنا سيارته الفارهة إلى حي من أحياء القاهرة الراقية، وتوقفت السيارة أمام عمارة فاخرة، فطلب منى الثرى العجوز أن أنتظر مع السائق فى السيارة لأن (حريمه) لا يظهرن أمام غريب، كما قال لى..

ووافقت بحسن نية وانتظرت بالسيارة حوالي ساعتين، عادت زوجتي بعدها وهى متغيرة تضحك تارة وتلعن الدنيا تارة أخرى، وتدمدم بكلمات غير مفهومة، وعاد الثرى صامتاً وجلس بجوار السائق وأمره بأن يعود إلى مكتب السفريات ، ودخلنا على صاحبه فقال له الثرى مشيراً إلى زوجتي : ( ما بتعرف تطبخ) وانصرفنا من المكتب، وفى الطريق روت لى زوجتي أن الرجل المرتعش من الكبر قد تحول فور دخوله إلى الشقة إلى (دون جوان) ، وأنه رتب الأمر عامداً لأن أسرته لم تكن بالشقة ، وأنه راح يراودها عن نفسها ويعلنها بحبه له من أول نظرة، وهى تصده بالهوادة مرة وبالحسم مرة أخرى، حتى يئس منها فعرض عليها ألفين من الجنيهات من أجل رغباته..

فقالت له متحسرة لو كنا نرغب فى هذا الطريق لما تحملنا ما تحملناه ولما فكرنا فى السفر، وترك الأولاد الصغار ومنهم من لم يبلغ العامين من عمره ، فضاق بها وتركها وعدنا إلى البيت مهمومين ونحن نتعجب من أحوال الدنيا، ومن هذا الرجل الذي يقترب من أبواب القبر ولا يرعى حرمة فيعرض ألفى جنيه على سيدة متزوجة من أجل رغباته الدنيئة.. فأين الدين.. وأين الأخلاق. وأين الإنسانية؟ وصرفنا نظراً عن هذا الموضوع.. ووطنا أنفسنا على أن نأكل الحصرم.. ولا نعرض أنفسنا لهذه المهانة مرة أخرى.

وعدنا إلى حياتنا العادية نلاطم الأيام وتلاطمنا، لكن صاحب مكتب السفريات اتصل بنا بعد أسابيع ليبلغنا بحاجة إحدى الأسر من الدولة نفسها التي جاء منها العجوز المنحرف إلى شغالة بشرط واحد هو أن تكون متدينة.. فقلنا إن هذا الشرط وحده دليل كاف على حسن النية فوافقنا، وأعلنت لمن حولي بأن زوجتي ستعمل فى مستشفى هناك، وجاء يوم السفر فكان مؤلماً لى وللأطفال الذين انخرطوا فى البكاء، وطفلها الصغير يتعلق برقبتها ولا يريد أن يتركها وأنا انتزعه منها لكي تلحق بالطائرة.

وسافرت زوجتي يا سيدي منذ ثلاثة شهور، وأصبح التليفون هو وسيلتي الوحيدة للاطمئنان عليها، لكنها كلما حادثتني جاءني صوتها حزيناً باكياً وأسألها عما يضايقها فلا تجيب، ثم بعد إلحاح منى أخبرتني أنها تتعرض لنفس المضايقات من أحد أفراد العائلة رغم أنهم يعرفون جميعاً تدينها، وأنها تصلى الفروض فى أوقاتها، وأنها زوجة وأم لستة أولاد،

فارقتهم على رغمها من أجل أن تخفف عنهم صعوبة الحياة، ورغم حزمها وحسمها فى هذه الأمور، لأن الفكرة السائدة هناك هى أن من تسافر عليها أن تفرط فى كل شىء.. وأسمعها تبكى وأبكى معها لما تلاقيه وتتحمله من أجل الأولاد، وأريد أن أقول لها عودي لكن صورة الليالي التي عانيناها تقفز فى ذهني فجأة، فتجعلني عاجزاً عن النطق بها. وهكذا وجدت نفسي فى موقف لا أحسد عليه ، فهى إن بقيت واستمرت فأنا فى قلق مستمر، وإن كنت أعرف مدى تماسكها، وإن طلبت منها العودة عدنا إلى المعاناة من جديد وإلى الاستدانة وإلى كل ما رويت لك عنه.. وأن إيماني وإيمانها بالله كبير، لكنى حائر فبماذا تشير على ؟

رائج :   الطريق المظلم !! .. رسالة من بريد الجمعة

ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

   يا سيدى : إن هناك مواقف معينة فى الحياة لا تحتمل التفكير طويلاً فى اتخاذ القرار الوحيد الذى ينبغي اتخاذه فيها. لأن مجرد التردد أمامه يفتح الباب للتفريط والتنازل. وأنت بكل أسف تواجه موقفاً من هذا النوع. وتعرف القرار الذى ينبغي اتخاذه بلا مراعاة لأيه ظروف أخرى مهما كانت جديرة بالاعتبار والتفكير..

إذ ماذا بعد أن تجد زوجتك نفسها مخيرة بين شرفها وبين الخضوع والاستسلام لما لا ترضاه لنفسها ودينها؟ صعوبات الحياة والليالي القاسية؟ ومتى كانت المعاناة التى يشترك معكما فيها الملايين مبرراً للتفريط؟ إنها قد تكون سبباً فى ترويض الإنسان لنفسه عن احتمال عناء الغربة، أو بعض صور جلافة أرباب الأعمال فى الخارج وجورهم.. بل وقد تكون أيضاً مبرراً لكبح جماح الغيظ وردع النفس عن أن تستجيب لانفعالاتها، وعلى بن أبى طالب أشجع الشجعان هو نفسه من قال صادقاً إن الأبناء (مجبنة مبخلة) مشيراً لثقل مسئولية رب الأسرة عن أسرته.

لكن كل ذلك لا يتعلق بالشرف الذي لا يحتمل التردد أمامه، وليس من الحكمة ولا من الشهامة أن تضع زوجتك فى عش الدبابير، وتعتمد على تماسكها وصلابتها وحدها، لأن لكل إنسان قدرة على الاحتمال لا يستطيع تجاوزها، ولأن التجربة فى حد ذاتها محنة، فماذا تنتظر حتى تسمعها القرار الذى تنتظره هي منك؟ ولن يصيبكما فى النهاية إلا ما كتب الله لكما،

والرسول الكريم يقول : ( اطلبوا الحوائج بعزة نفس فإن الأمور تجرى بالمقادير) أي أننا لن نصيب من خير أو شر مهما تنازلنا أو جرينا فى الدنيا جرى الوحوش .. إلا ما كتب لنا منذ البداية.. فلماذا التردد والاكتفاء ببكاء العاجز مع زوجتك فى التليفون، وهى تنتظر منك أن تكون أكثر حرصاً عليها من ذلك فتأمرها بالعودة، قبل أن تتخذ هى قرارها بنفسها وتفقد احترامك لديها، أو أن تستسلم لا قدر الله فتحملك فى أعمالها مسئولية هوانها وترخصها وتفقد أنت حبها إلى الأبد؟

إن بعض الأسر المصرية تدفع الآن لمدبرة المنزل نفس ما تدفعه الأسر إياها أو أكثر، مع اختلاف أساسي هي أنها ترعى حقوق ربها وتحفظ الحرمات، لأننا رغم صعوبات حياتنا من أكثر شعوب المنطقة تديناً وخشية لله إن لم نكن أكثرها على الإطلاق، وهذه حقيقة يعرفها الجميع وما دمت قبل قبلت مبدأ عمل زوجتك فابحث لها عن عمل لدى أسرة مصرية فى الداخل أو فى الخارج.. أو اصبر واحتسب إلى أن يأذن الله وتجد لنفسك عملاً  يسهم فى تخفيف عناء حياتك التى أسهمت أنت فى تعقيدها بإنجابك ستة من الأبناء، وكأننا نخطب فى الصحراء ونحن ندعو الناس كل يوم إلى أن ييسروا على أنفسهم لكى ييسر الله عليهم.

يا سيدي إن أول التفريط خطوة، وقد خطوتها بكل أسف حين سمحت لهذا الشيخ العربي الماجن بأن يصطحب زوجتك معه ويدعوك للانتظار بحجة أن حريمه لا يظهرن أمام غريب، وهى حجة مهينة لك وجارحة لكرامتك لأن من يحتج بها عليك يصطحب معه فى نفس الوقت (حريمك أنت) ،

وأمثال هذا الشيخ الفاجر الذين يتصورون أن من تسافر عليها أن تفرط فى كل شىء لا يحسنون فهم دماثة المصريين ولا تهذيب طباعهم ، ويتصورنها ضعفاً وتفريطاً مع أنهم يعرفون تماماً فى أعماقهم أن نسبة المفرطات عندنا تحت ضغط ظروف الحاجة أقل كثيراً جداً من نسبة العابثات عندهم بلا أي مبرر للعبث أو التفريط! لكن الأمر كله أمر نسبة وتناسب بين أعداد السكان الضخمة هنا والقليلة هناك!

فلا تتبع خطواتك الأولى بخطوة أكبر بترددك أمام دعوة زوجتك للعودة إلى بلادها قبل أن تنهار مقاومتها فتخسر كل شىء ولو ربحتما الدنيا بأسرها!

  • من أرشيف جريدة الأهرام
  •  نشرت سنة 1988

رائج :   من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || الأتوبيس

Related Articles