اسمها شيماء أو هالة أو نجوى أو عزة أو…أو.. تسكن دائمًا – لسبب لا أعرفه – في فيصل أو الهرم، وتلبس فستانًا يصل للركبتين تحته سروال جينز واسع، وحذاء مطاطيًا من نوع (كوتشي)، وتحمل جهاز هاتف محمول ألصقت عليه ملصق القطة اليابانية (هيلو كيتي)، وفي وجهها الشاحب رقعتان بيضاوان مما يسميه الأطباء النخالة البيضاء، ناجمتان عن نقص فيتامين (أ). وفي عينيها نظرة تصميم كاسحة. عندما تقابلها فلتهرب منها بأي شكل .. سوف تجدك وتأخذ ما تريده منك مهما حاولت الفرار.
ربما تكون شيماء / هالة / نجوى/ عزة أو .. أو … محررة في موقع إلكتروني أو طالبة إعلام أو صحفية في مجلة شبه معروفة. لا شك أنك ستقع في حبائلها أولاً لأن كل إنسان تفتنه فكرة أن تُذاع أفكاره وآراؤه في الحياة .. نشوة أن يوجد من يهتم بالإصغاء إليك ويسألك عما تعتقده. لكنك مع الوقت تكتشف أن لدغتها قاتلة غالبًا، وأن العدو العاقل خير من الصديق الجاهل.
حكت الفنانة فايزة أحمد عن أنها في بداية حياتها الفنية كانت هزيلة متوسطة الجمال، والتقى بها صحفي من طراز شيماء / هالة / نجوى/ عزة أو .. أو … يعمل في مجلة فنية ليجري معها حوارًا، فارتدت ثوبًا اعتقدتْ أنه أنيق ليلتقط لها بعض الصور، ثم رأت الحوار الذي أجري معها في المجلة، فرأت المانشيتات على الغلاف تقول: “أنا أجمل من سعاد حسني وصوتي أروع من أم كلثوم!”. طبعا نجحت الصور القبيحة التي ملأت المجلة في جعلها هدفًا ممتازًا للشتائم والاستفزاز الذي تحول إلى سخرية، مع أنها – ببساطة – لم تقل حرفًا من هذا الكلام.
تكرر هذا معي في بداية مشواري مع الكتابة، وإن كان هذا بغير قصد طبعًا، إذ أجرى معي صديق صحفي حوارًا قلت فيه: “إن نوعية أدب البوب قد يصل لجمهور أوسع بكثير من الجمهور الذي يصل له دستويفسكي”. وهي عبارة واضحة تدل على الرواج وليس الجودة. هكذا نشر صديقي الحوار مع عنوان كبير مغر بالشتائم: “فلان يقول: كتاباتي أهم من كتابات أجاثا كريستي وأنجح من دستويفسكي!”. قائل هذا شاب مغمور لم يكتب سوى بضع قصص مرعبة لم تغير تاريخ الأدب بالتأكيد. انقضوا عليه ومزقوه بالشتائم يا شباب…
اعتدت بعد هذا لدغات مماثلة من وقت لآخر، حتى صرت أرتجف رعبًا إذا قدمت ندوة، وصرت أصرّ على أن أرد على الحوارات كتابة حتى أصير مسئولاً بالكامل عن ردودي، لكن الأخت شيماء / هالة / نجوى/ عزة أو .. أو … تواصل هداياها. عندما تقول إنك لا تكتب من أجل الحصول على جوائز، وإن القارئ هو جائزتك الوحيدة، فالعنوان الذي يعلو المقال جوار صورتك سيكون : “أنا لا أريد جائزة الدولة ولا أعبأ بها!”.
وهكذا يصير من رابع المستحيلات أن تفوز بأي جائزة من أي نوع. عندما تقول في ندوة إن بلال فضل له لسان طويل (بمعنى الصراحة والجرأة) لا يمكن لأي قوة أن تجعله يصمت عن الحق، فإنك تجد تعليقًا على الندوة يقول: “صرح فلان أن الكاتب بلال فضل لسانه طويل!!”، وهكذا يرسل لي الجميل بلال فضل رسالة عتاب؛ لأنه لم يخض في سيرة أحد أو يشتم أحدًا قط فلماذا أقول عنه هذا؟ لقنني هذا درسًا قاسيًا جدًا؛ هو أنك لست هدف الحوار .. وليس هناك من يهتم بآرائك إلى هذا الحد .. الهدف الوحيد هو جذب القارئ بعنوان مستفز مثير. وفيما بعد عرفت النت قاعدة مصيدة النقرات Click Trap حيث الهدف الوحيد هو أن ينقر القارئ بالمؤشرة على الخبر.
اعتدت كذلك أن الأخت شيماء / هالة / نجوى/ عزة أو .. أو … تؤكد قبل كل لقاء أن أسئلتها طازجة جدًا وأن علي أن أعتبر نفسي في مأزق، ثم تسألني عن علاقة الأدب بالطب ومتى أكتب .. إلخ. تشعر أنها لا تملك أسئلة توجهها وإنما هي تريد ملء مساحة. في أيام الكلية ذهب بعض الطلبة من زملائي لإجراء حوار صحفي مع الشيخ متولي الشعراوي، فكان أول سؤال وجهوه له هو: “ما المكتوب في بطاقتك الشخصية؟… ما اسمك وسنك وعنوانك وحالتك الاجتماعية؟”. فما كان منه إلا أن رفض إجراء الحوار! لا أقارن نفسي بالشيخ الشعراوي طبعًا، لكن يمكنني تخيل تعبير وجهه لحظتها.
في إحدى الندوات في طنطا ظهرت شيماء / هالة / نجوى/ عزة أو .. أو ….. ولم تكن تلك ندوتي. بل ندوة صديق عزيز. ذهبتُ للحمام أثناء الندوة، فاعترضتْ طريقي طالبة أن تجري معي حوارًا أولاً.. توقفت بمثانة موشكة على الانفجار أنتظر أسئلتها، فكان سؤالها الأول: “من أنت؟”
حسبت هذا سؤالاً وجوديًا عميقًا، لكن الحقيقة هي أنه حرفيّ: “من أنت بالضبط؟ يبدو لي من كلامهم أنك تكتب. ففي أي مجال تكتب؟ هل تكتب شعرًا أم رواية؟ وما عناوين رواياتك؟ ولماذا يطلقون عليك (دكتور)؟”. أفهم تمامًا ألا تكون قد سمعتْ عني، لكن لماذا يجري المرء حوارًا مع شخص لم يسمع عنه قط؟
شيماء / هالة / نجوى/ عزة أو .. أو … كذلك لا ترحم كأي مصاص دماء..
في إحدى مرات دخولي العناية المركزة، دق جرس الهاتف جوار الفراش مرارًا حتى اضطررت للرد، فقالت شيماء / هالة / نجوى/ عزة أو .. أو … إنها طالبة في كلية الإعلام وتريد إجراء حوار معي. قلت لها إنني أتمنى ذلك لولا إنني في العناية المركزة بسبب نوبة قلبية. قالت لي بلهجة عملية: “ألف سلامة.. بس نعمل الحوار امتى؟”. ثم عرضت في أريحية أن تؤجل إجراء الحوار للصباح لأنال ليلة هادئة. في اليوم الثاني والثالث كررتْ الطلب فما كان مني إلا أن قرت أن ألعب دور الوغد ولا أرد على مكالماتها.
يقول الساخر الجميل أسامة غريب إنه قابل ذات مرة رجلاً لا يعرفه. “قال بدون مناسبة: يبدو يا أستاذ أن ما يقولونه عنك حقيقى. قلت منزعجاً: وماذا يقولون عنى؟ أجاب: يقولون إنك تغيرت وإن نفسك كبرت ولم تعد كما عهدناك أيام زمان. فى الحقيقة أننى أمقت من يستخدم هذا الأسلوب فى الابتزاز حتى يرغمك على احتمال رذالته لتثبت له أنك مازلت نفس الشخص المتواضع”. هذه هي الثغرة التي تتمكن بها شيماء / هالة / نجوى/ عزة أو .. أو … من دخول حياتك والحصول على ما تريد، وأنت لا تجرؤ على الاعتراض.
نصيحتي هي: عندما ترى شيماء / هالة / نجوى/ عزة أو .. أو …فلتحاول الفرار . لن تهرب.. لكنك على الأقل ستموت وأنت تحاول.
نُشر في 26 أكتوبر 2016