من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)
فكرت كثيرا قبل أن أكتب إليك, فأنا فتاة في السابعة والعشرين من العمر تخرجت في كلية عملية مرموقة, وحباني الله بنعم كثيرة والحمد لله, فأنا جميلة ولي مركز اجتماعي مرموق وحالتي المادية ميسورة.. كما أني والحمد لله متدينة وعلي خلق ولي سمعة طيبة وقد عملت بعد تخرجي في الشركة التي يملكها أبي, وهنا تكمن مشكلتي,
فأبي بالرغم من طيبته وحنانه وحبه لنا, خاصة لي فإن من يراه وهو يتعامل معي يظن خطأ أنه يكرهني لأن قسوته علي دائمة دون أسباب ولأنه يتدخل في طريقة لبسي وحجابي وعلاقاتي, ونظرا لأن شخصيتي قوية وصريحة ولا أخلو من شجاعة أدبية تفتقدها أمي فإني أراجعه في تدخله في أضيق تفاصيل حياتي, وأطلب منه بعض المساحة لكي أمارس حريتي في اختيار مظهري وملابسي, خاصة أنني أرعي الله في نفسي وفي حياتي, لكنه يعتبر ذلك عصيانا ونوعا من عقوق الوالدين, وليست هذه هي المشكلة التي أكتب بشأنها.. وإنما دفعني للكتابة إليك أن أبي بالرغم من أدائه الفروض الدينية وإخراجه زكاته إلا أنه يمر من حين إلي آخر بفترة مراهقة يعرف خلالها فتاة.
صحيح أنه رجل محترم وأن أقصي ما تصل إليه كل علاقة هو بعض الاتصالات التليفونية وبعض اللقاءات العابرة, إلا أن ما يعذبني هو أن أمي سيدة طيبة جدا, ولديها نوع من الشفافية فيشعر قلبها كل مرة بتغير حال زوجها ولا تملك أن تتخذ منه موقفا أو حتي أن تصارحه بشكوكها, وتكتفي بالحزن والتألم في صمت في حين يغلي مرجلي أنا ولا أستطيع تجاهل الأمر, كما أني أضيق بجو النكد المخيم علي البيت, ومما يزيد الطين بلة أنه لا يكتفي بأن يعرف هذه الفتاة أو تلك وإنما يفرضها أيضا علي الأسرة ويجبرنا علي استقبالها في البيت وعلي أن نبتسم في وجهها ونحسن استقبالها متوهما أننا لا نعرف شيئا عما بينهما من علاقة.
والآن فإن أبي مشغول بسكرتيرته, وهي سيدة متزوجة وعلي قدر من الجرأة وغير مريحة.. وأنا أعمل مع والدي وأري كل ما بينهما من نظرات وضحك ومزاح, كما رأيتهما مرتين في مكان شاعري خارج العمل.. وفي كل مرة كنت أتلقي اتصالا هاتفيا من مجهول يطلب مني الذهاب إلي مكان ما لرؤية أبي مع سكرتيرته..
وليتها تكتفي بذلك بل إنها تثيره ضدي أيضا وتجعله يثور علي مع أني عصب العمل, وإذا مرضت يوما وغبت عن الشركة توقفت أمور كثيرة.. اني أرجوك أن توجه إليه كلمة تقول له فيها فقط: أتق الله الذي يراه, وأن زوجته لا تستحق منه ذلك, وهي السيدة التي أفنت عمرها معه ووقفت إلي جواره في أصعب الأوقات ولا يصح أن يكون جزاؤها منه هذا السلوك المتكرر من حين لآخر.. خاصة أنني أخشي أن يتكرر معي مثل هذا الأمر ويرزقني الله بزوج يفعل معي ما يفعله هو مع أمي, لأنه كما تدين تدان, فهل سيكون راضيا عن ذلك إذا حدث؟
ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :
يقولون إن أخطر ما يقع فيه الإنسان هو أن يسيء تقدير ذكاء الآخرين, فيفترض فيهم الغباء ويتصرف علي هذا الأساس متوهما قدرته علي أن يفعل ما يشاء دون أن يكشفوا أمره, والكارثة هي أن أكثر من يقعون في هذا الخطأ المدمر هم عادة ممن يعتبرون من الأشخاص الأذكياء, لكن استشعارهم لقدراتهم العقلية قد يغريهم أحيانا بالاستهانة بذكاء الآخرين فيوردهم ذلك غالبا موارد التهلكة, والشاعر العربي القديم يقول لنا:
ومهما تكن عند امريء من خليقة
وإن خالها تخفي علي الناس تعلم
لهذا فإن والدك وهو بكل تأكيد من الأشخاص الأذكياء والناجحين, لم يكن ينبغي له أن يتوهم أنه سيتخفي إلي ما لا نهاية بما يفعل عن زوجته, وعن ابنته التي تعمل معه في مكان واحد, ناهيك عن مسئولياته الأدبية والأخلاقية والتربوية عن ابنته التي ينبغي أن يقدم لها المثال والقدوة في الاستقامة الشخصية والالتزام الأخلاقي والجدية في السلوك والعمل..
أما حق زوجته عليه في أن يخلص لها ويكتفي بها ويحرص علي مشاعرها ويجنبها الكدر والهموم والشكوك في هذه المرحلة من العمر وبعد كفاح السنين, فـإنه غني عن كل بيان..
ولاشك في أنه من المحزن حقا أن يقف منا أبناؤنا موقف الناصح والمذكر بتقوي الله وأهمية الالتزام بالسلوك القويم في حياتنا الشخصية, وكأننا قد تبادلنا معهم الأدوار فأصبحوا هم المرشدين وأصبحنا نحن المتخبطين في التجربة والخطأ.
إنني أدعو والدك إلي تأمل هذا الموقف المحزن بعين الأب الحريص علي احترامه لدي أبنائه وعلي ألا تهتز صورته أمامهم.. وأدع لحكمته التصرف بما يمليه عليه العدل والحق والإحسان إلي الأبناء.. وإلي شريكة العمر الصابرة علي تقلبات الأحوال.. وأكتفي بهذا القدر تجنبا لأية تجاوزات أخري!