قصص وعبر

من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || السر

” أتطالبني حقـًا بنصيبك ؟!..”

انكمش الشيخُ ( أحمد ) في مقعده، وهو يتطلع إلى ابن شقيقه ( طاهر )، الذي نطق العبارة السابقة في شراسة مُخيفة، تقافز له الشرر من عينه، وتشكلت لها ملامحه في هيئة شيطانية رهيبة، قبل أن يستطرد في غضب :
ـــ أي نصيبٍ هذا ؟

ازدرد الشيخُ ( أحمد ) لعابه في صعوبة، وهو يتطلع إلى ( طاهر )، الذي بدا له عملاقًا، بقامته الرياضية الممشوقة، وصدره العريض، وعضلاته المفتولة، وتمتم الشيخُ في خُفُوت :
ـــ نصيبي في الأرض يا ولدي.. أنت تعلم أنني ووالدك ( رحمه الله )، كنا شريكين في قطعة الأرض، ولكنها كانت مسجلة باسم والدك وحده، و…

قاطعه ( طاهر ) في صوتٍ هادر :
ـــ أنت قلتها.. كانت مسجلة باسم والدي وحده، وهذا يعني أنه لا نصيب لك فيها.. ولا مترًاً واحدًا.. القانون هو القانون.

ازدرد الشيخ ( أحمد ) لعابه مرة أخرى، وقال :
ـــ لستُ أتحدثُ عن القانون يا ولدي، ولكن عن العدالة والحق.. لقد سمعت والدك بنفسه يتحدث عن مشاركتي له في قطعة الأرض، ويشير إلي نصيبي فيها، وقبيل وفاته بأيـام، و…

قاطعه ( طاهر ) ثانيةً: 
ـــ لم أسمع شيئًا.

شعر الشيخ ( أحمد ) باليأس، وهو ينر إلى ابن شقيقه الجاحد، وراح يقارن ـ دون وعي ـ ما بين ضخامة ( طاهر ) وضآلته هو، قبل أن يقول في لهجة أقرب إلي الضراعة :
ـــ لا تجعل الطمع يعمي عينّك عن الحق.. أنت تعلم أنني أمتلك ربع قطعة الأرض، فلماذا ترفض منحي ما أملك ؟

تراجع ( طاهر ) في مقعده، وقال في سخرية :
ـــ أي حقِ هذا يا عمَّـاه ؟.. هل تملكُ عقداً مكتوباً ؟.. أو حتى وثيقة قانونية واحدة ؟.

تنهد الشيخُ ( أحمد )، وقال
ــ في جيلنا كان الأمر يختلف كثيراً يا ولدي، ولم يكن الشقيقان يحتاجان إلي عقود مكتوبة، لضمان حق كلِ منهما لدى الآخر.

أطلق ( طاهر ) ضحكة عالية ساخرة، وقال :
ـــ فليدفع جيلكم ثمن هذا إذن.

شعر الشيخ ( أحمد ) بقلبه يمتلئ سخطًاً، فقال في توتر :
ـــ لا تضطرني لفعل ما أكره يا ولدي.

ابتسم ( طاهر ) ساخراً، وقال :
ـــ وماذا يمكنكَ أن تفعل ؟

قال الشيخُ في حدة ٍ :
ـــ من يدري ؟.. يضع الله ( سبحانه وتعالى ) سره، في أضعف مخلوقاته.

قهقه ( طاهر ) ضاحكاً، في تهكم شديد، قبل أن يشير إلي عمه في ازدراء، قائلاً في لهجة لم تتلاشَ السخرية من حروفها بعد :
ـــ أي سرٍ يا رجل ؟.. ألم تلقِ نظرة واحدة على وجهك ؟.. ألم تدرك أي مخلوقٍ تافهٍ أنت ؟.. ألم تنتبه أنكَ تجاوزت الثمانين من عمرك ؟

هتف الشيخُ في غضب :
ـــ اسمع يا ( طاهر ).. لقد تجاوزت حدودك َ كثيراً.. سأرفع الأمر إلي القضاء، ولدي شهودٌ، سيؤكدون أحقيتي في قطعة الأرض.

اشتعلت نيران الغضب في عينيَّ ( طاهر )، وهو يقول :
ـــ شهود ؟

ثم مال نحو عمه، مستطرداً في شراسة مخيفة :
ـــ أتتصور أنك ستخيفني بهذا ؟

انكمش الشيخ ( أحمــد ) أكثر وأكثر في مقعده، وراح جسده يرتجف/ أمام نظرة ( طاهر ) الرهيبة، في حين استطرد الأخير في عدوانية واضحة :
ـــ يبدو أنكَ لا تدرك ما يمكنني أن أفعله بك.. هل ترى هذه الحشرة ؟

قالها وهو يشير إلي نملة صغيرة، تسللت إلي سطح المائدة، وراحت تحث الخطا نحو ذرة ٍ من الشكر، سقطت عفواً، وأشاف في غضب :
ـــ سأسحقكَ مثلها.

* * * *

هز الطبيب رأسه في دهشة تمتزج بالرهبة، وهو يغمم :
ـــ لم أر مثل هذا أبداً.. لقد قرأت يوماً عن هذا الأمر،ولكنني لم أشاهده طوال حياتي المهنية قط.

استمع إليه ضابط الشرطة في صمت، ثم رفع عينيه إلي الشيخ ( أحمد )، وسأله :
ـــ ماذا حدث بالضبط أيها الشيخ ؟

هز الشيخ ( أحمد ) رأسه في حيره، وأجاب :
ـــ لست أدري أيها الضابط.. لقد سحق النملة بطرف سبابته، ثم أطلق شهقة، واحتبست أنفاسه في حلقه.
وخيل إليَّ أنه يستنجد بي، إلا أنه لم يلبث أن سقط عند قدمي جثةً هامدة.. لستُ أدري حقاً ماذا حدث ؟

تطلع الضابط إلى جثة ( طـاهر ) في حيرة، ثم سأل الطبيب :
ـــ أهُنالك تفسير علمي لهذا ؟

أومأ الطبيب برأسه إيجاباً، وقال :
ـــ نعم.. إنها حساسية فائقة لحمض النمليك، الذي تفرزه النملة، عند التعرض للخطر، أو عند سحقها.. إنه أمر يشبه الحساسية الفائقة لحمض البنسلين، ولكنه شديد الندرة، بحيث تجده لدى واحد من كل تسعة ملايين من البشر.. لقد سحق النملة، فقتله الحمض الذي أفرزته، بمجرد أن مس طرف سبابته.

هز الضابط رأسه في رهبة، وعاد يتطلع إلي جثة ( طاهر)، قبل أن يقول في أسف :
ـــ يا لحكمة الله ( سبحانه وتعالى ) !!.. كل هذا العنفوان والشباب والقوة، وتقتله نملة واحدة !.. سبحان الله !!

خيل إليه أن السيخ ( أحمد ) يبتسم، وهو يقول :
ـــ يضع الله ( سبحانه وتعالى ) سره في أضعف مخلوقاته يا ولدي.

ـــ واتسعت ابتسامته قليلًا وهو يقول :
ـــ أليس كذلك ؟

________________
(د. نبيل فاروق ـ كوكتيل 2000 ـ الفارس ـ رقم 10)

رائج :   من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || القانون

Related Articles