ابتسامة كبيرة، ارتسمت على شفتي مخرج أفلام الخيال العلمي الشهير (نذير علوان)، وهو ينهض لمصافحة ذلك الصحفي الشاب، الذي بذل جهدا كبيرا، في إلحاح متواصل حتى حظي بموافقته على إجراء حوار صحفي، لكبرى المجلات الفنية في الوطن العربي كله.
وعلى عكس ما توقع، بدا الصحفي متوترا، يتطلع إليه بنظرة غامضة عجيبة جعلته يقول محاولا تهدئته:
ـ أهي محاورتك الصحفية الأولى؟!
هز الشاب رأسه نفيًا، وأجاب في حذر:
ـ إنني أعمل في هذا المجال، منذ خمس سنوات.
حاول (نذير) أن يبتسم، وهو يشير بيده قائلا:
ـ عظيم.. دعنا نبدأ على الفور إذن، فوقتي شديد الضيق كما تعلم.
ازدرد الشاب لعابه على نحو ملحوظ، وأخرج من جيبه جهازا صغيرا في حجم سبابة اليد، ضغط أحد أزراره، وهو يسأل:
ـ سؤالي الأول يا سيد (نذير) : لماذا اخترت مجال الخيال العلمي بالتحديد؟!
هز نذير كتفيه، مجيبا:
ـ التحدي؛ عالمنا العربي كان يخلو من أفلامه تماما من هذا المجال، فقررت أن أقتحمه، وأثبت للجميع، أنه مجال يصلح للسينما العربية، كما صلح لعقود للسينما الغربية.
خيّل إليه أن الصحفي الشاب لم ينتبه إلى إجابته جيدًا، فمال نحوه مضيفًا في حزم:
ـ فأنا أعشق التحدي.
بدا الشاب منشغلا لحظة بجهازه الصغير، قبل أن يقول:
ـ فيلمك الأول كان مبهرًا، في حين أن الفيلم الأخير بدا نمطيًا إلى حد كبير.
تراجع (نذير) في دهشة، مغمغما:
ـ وكيف هذا؟!
أجابه الشاب، فيما يشبه التحدي:
– فكرة غزاة الفضاء الذين يعيشون بيننا، ويشبهوننا جسديًا، حتى ليصعب تمييزهم عنا.. ألم نر هذا في أفلام الخيال العلمى الأمريكية القديمة؟!
حاول (نذير) أن يبتسم، وهو يجيب:
ـ الفكرة ليست القضية في أفلام السينما، المهم المعالجة، وأظن أنني قد عالجت الفكرة بأسلوب جديد ومبتكر.
غمغم الشاب، وهو أكثر انشغالا بجهازه الصغير:
ـ ولكنها ما زالت فكرة مكررة.
التقط (نذير) نفسًا عميقًا، وتعلقت عيناه بذلك الجهاز الصغير، محاولا استشفاف وظيفته الفعلية، وهو يجيب:
ـ لا يوجد ما يسمى بالفكرة المكررة، ولكن هناك ما يعرف باسم المعالجة المكررة؛ مئات الأفلام تحدثت عن كائنات عاقلة تصل إلى الأرض، وتختفي وسط سكانها، وكلها تحدثت عنهم باعتبارهم كائنات بشعة ذات سمات وحشية وقدرات خارقة، ويسعون لغزو الأرض، ولكن في فيلمي الأخير كانوا في نفس هيئة سكان الأرض، يمتلكون تكنولوجيا أكثر تفوقا، ولكن ليس قدرات جسدية غير عادية، ولقد كان كل ما يستهدفونه هو العيش في سلام بين سكان الأرض، وليس غزوهم.
لم يبد الاقتناع على الصحفي الشاب، وهو يسأل:
ـ لماذا أخفوا أنفسهم إذن؟!
أجابه في شيء من الحدة، وهو يواصل محاولة فهم وظيفة ذلك الجهاز الصغير، الذي لا يكف الشاب عن العبث به:
ـ لأن الناس هنا أعداء ما يجهلون، وما أن يدركوا أن هؤلاء ليسوا منهم حتى يناصبونهم العداء، ومن يدري ماذا يمكن أن يحدث عندئذ.
بدا وكأن الشاب قد انتهى من إعداد جهازه، فوضعه جواره على سطح المكتب الذي يفصله عن (نذير)، وهو يسأل:
ـ ولماذا يعيشون بيننا من الأساس؟!
أشار (نذير) بيده في فراغ صبر، وهو يجيب:
ـ لأن كوكبهم تعرّض لكارثة، لم يعد العيش على سطحه يناسبهم بعدها.
تطلع إليه الشاب بضع لحظات في إمعان شديد، ثم قال في بطء:
ـ أهذا كله من صميم الخيال، أم…
لم يتم سؤاله، فتطلع إليه (نذير) في دهشة، مجيبا:
ـ أم ماذا؟! إنه بالطبع من صميم الخيال.
التقط الشاب نفسا عميقا، وقال وهو يضغط زرا في جهازه:
ـ ألم يخطر ببالك قط أن يكون كل هذا حقيقة؟!
بدا (نذير) كالمصدوم وهو يحدق في وجه الشاب، وسقط في لحظات طويلة من الصمت، قبل أن يقول:
ـ حقيقة؟!
لوح الشاب بيده، قائلا:
ـ هذا يحدث أحيانا.
سأله (نذير) في حدة:
ـ ما الذي يحدث أحيانا؟!
أجاب في بطء، وشبح ابتسامة غامضة يتراقص على ركن شفتيه:
ـ أن يصيب الخيال كبد الحقيقة، دون أن يدرك صاحبه حتى هذا.
عاد (نذير) يحدّق في وجه الشاب في دهشة بضع لحظات، قبل أن ينعقد حاجباه، ويقول في شيء من الحدة:
ـ وقتي أضيق من أن أجيب هذه الترهات.
باغته الشاب قائلا في حزم:
ـ ليست ترهات يا سيد (نذير).
كان (نذير) يهم بالنهوض وإنهاء المقابلة، عندما نطق الشاب عبارته الأخيرة، التي جعلته يعاود الجلوس، وهو يغمغم في توتر:
ـ ليست ماذا؟!
فتح الشاب حقيبة أوراقه الصغيرة، وأخرج منها بضع ورقات، وضعها أمام عينيّ (نذير)، وهو يقول بنفس الحزم:
ـ أمامك تقرير فرنسي، عن رجل في منتصف عمره، لقي مصرعه في حادث سير في “ليل”، وعندما قام الأطباء بفحص حمضه النووي، في محاولة لتحديد هويته، نظرا لخلو ثيابه من أي هوية، فوجئوا بأن جيناته تختلف عن جينات البشر العاديين.
غمغم (نذير) :
ـ أذكر هذا جيدا، لقد حدث منذ عشر سنوات، والأطباء قالوا إنه من المحتمل أنه تعرض لإشعاع ما، قام بتحوير حمضه النووي.
ثم أشار بيده، مضيفا:
ـ وربما هذا ما أوحى إليّ بفكرة فيلمي الأخير.
دفع إليه الصحفي الشاب ورقة أخرى، قائلا:
ـ وماذا عن هذا التقرير الذي صدر منذ خمسة عشر عاما، حول جسم كبير تم رصده يتجه نحو الأرض في سرعة منتظمة، ثم يهبط في غابات البرازيل، وعندما خرجت بعثات علمية وعسكرية وفضائية للبحث عنه، لم يكن له أدنى أثر.
شعر (نذير) بالقلق وهو يغمغم:
ـ لم أطالع هذا قط.
أشار الصحفي الشاب إلى ورقة ثالثة قائلا، وهو يضغط الزر مرة أخرى:
ـ وماذا عن هذا؟! إنه جزء من دراسة لعالم أمريكي، تشير إلى أن هناك مخلوقات فضائية، تعيش بيننا بالفعل، منذ ربع قرن تقريبا.
هز (نذير) كتفيه، قائلا:
ـ لم يقدم دليلا واحدا على نظريته هذه.
اعتدل الصحفي الشاب، وضغط زر جهازه للمرة الثالثة، وهو يقول في حزم:
ـ لقد بنى نظريته على فحص حراري قام به، على نحو عشوائي على عدد من الناس، في أماكن مختلفة من العالم، لاحظ فيه أن البعض لا تبعث أجسادهم مقدار الطاقة الحرارية التي من المفترض أن يبعثها أي كائن حي.
غمغم (نذير) :
ـ لم تبلغ دراستي هذا الحد.
مال الصحفي الشاب نحوه، وسأله في وضوح مباشر:
– سيد (نذير).. هل تؤمن بوجود كائنات عاقلة، في أماكن أخرى من هذا الكون؟ أعني كائنات تشبه البشر، شكليا على الأقل.
صمت (نذير) لحظات، تأمل خلالها الشاب في إمعان، قبل أن يجيب في بطء:
ـ الكون شاسع إلى حد لا يمكن تصوّره، وتسبح فيه مليارات المجرات، وكل مجرة منها تحوي ملايين من الأنظمة الشمسية والنجمية، وبعضها تدور حوله كواكب، في مساحة ومناخ الأرض، أو أكبر أو أقل منها، وهذا يعني أن لدينا مليارات ومليارات من الكواكب، ولقد قال أحد العلماء: لو أن احتمال وجود حياة عاقلة على كوكب آخر، هو واحد في المليار، فهذا يعني أنه لدينا ملايين الاحتمالات، ولو أن تشابه تلك الحياة مع شكل الحياة على كوكب الأرض، هو واحد في كل مائة مليار، فلدينا أكثر من عشرة آلاف احتمال لوجود تلك الكائنات الشبيهة.
تراجع الشاب، وهو يبتسم مغمغما:
ـ بالضبط.
قالها، وهو يهم بالضغط على زر جهازه الصغير مرة رابعة، فاندفعت يد (نذير) تمسك معصمه في قوة، وهو يسأله في حدة:
ـ ما هذا الجهاز بالضبط؟!
لم يحاول الصحفي الشاب التملص من قبضته وهو يجيب:
ـ جهاز تسجيل رقمي؛ لقد اعتدت تسجيل كل مقابلاتي.
بدا (نذير) صارما وهو يقول:
ـ جهاز التسجيل لا يحتاج إلى الضغط على أزراره كل حين وآخر، ما هذا الجهاز بالضبط؟
في هذه المرة، جذب الشاب معصمه منه في قوة، وهو يقول في حدة:
ـ إنه يلتقط بعض الصور أيضا.
مد (نذير) يده ليلتقط الجهاز الصغير، وهو يقول في غضب:
ـ أخبرتك أنه لا تصوير.
اختطف الصحفي الشاب جهازه الصغير في سرعة، قبل أن تصل إليه أصابع (نذير)، وهو يهب من مقعده، هاتفا:
ـ حديث صحفي بلا صور لا يساوي شيئا.
كان يتوقع من (نذير) أن يهاجمه ويختطف الجهاز من يده، لكن هذا الأخير لم يفعل، وإنه تراجع في مقعده، وهو يقول:
ـ كان ينبغي أن تحصل على إذني مسبقا.
غمغم الشاب:
ـ ربما أكون قد أخطأت، ولكن…
قاطعه (نذير) بإشارة من يده، وهو يقول:
ـ لا بأس.. أنت صحفي مجتهد، بذلت جهدا كبيرا للفوز بكل ما حصلت عليه، وأنا أحترم هذا.
ثم مال إلى الأمام فجأة، مردفا في صرامة:
ـ ولكنك لم تخبرني عن السبب الحقيقي لهذه المقابلة.
ارتسمت ابتسامة على شفتي الشاب، وبدا وكأنه يصوب جهازه نحو (نذير)، وهو يجيب في حزم:
ـ المواجهة.
غمغم (نذير)، وهو يتطلع إلى الجهاز الصغير مباشرة:
ـ هذا ما توقعته.
مع نهاية كلماته، سطع شعاع أزرق باهت في المكان، وارتفعت عقبه صرخة ألم، أعقبها صوت سقوط جسد على الأرض في عنف..
ولثوانٍ خيّم على المكان صمت رهيب..
صمت له رائحة الموت..
ثم امتدت يد باردة تلتقط ذلك الجهاز الصغير، وتضغط أحد أزراره، قبل أن يرتفع صوت (نذير) وهو يقول:
– كما توقعت.. إنه جهاز رصد حراري.. لقد كشف الأمر كله.
ثم عاد إلى ما خلف مكتبه، وضغط كرة صغيرة أمامه قائلا في صرامة:
ـ أريد فريق تنظيف، لإزالة جثة بشرية من هنا.. وأطلب عقد اجتماع عاجل، فما دام صحفي شاب قد توصل إلى شيء من الحقيقة، فهذا يعني أن من تبقى من شعبنا في خطر؛ لا بد من تصفية عدة أهداف وإعدام بعض التقارير، لنضمن استمرار بقائنا هنا، ولست في حاجة إلى أن أكرر: البشر لن يتقبّلوا وجودنا بينهم في سهولة، خطة الغزو تتعرض للخطر؛ انتبهوا.
ضغط الكرة مرة أخرى، وأغلق عينيه، واسترخى بجسده البارد..
للغاية.
***
(تمت بحمد الله)
بقلم : د. نبيل فاروق