دين و دنيا

سيرة الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) || الجزء الرابع

اشتد أذى المشركين بالمسلمين و بينما كانت دعوة الإسلام تواجه جحوداً متزايداً فى قريش فإنها كانت تنتشر تدريجياً فى بعض قبائل الجزيرة العربية وكان منها يثرب أو كما سميت لاحقاً بالمدينة المنورة ..

فى يوم من الأيام جاء منها وفداً إلى رسول الله يخبره أن أغلب سكان يثرب قد آمنوا بالله و برسوله و هم يدعونه للإقامة بينهم هو ومن أسلم معه فما كان من النبى إلا أن عزم على الهجرة و أمر بهجرة من استطاع من أتباعه و كان هذا فتحاً جديداً للإسلام .

بدأ المشركين يلاحظون ما يحدث و وصلهم أمر الهجرة المزعومة فاختلفوا فيما بينهم فبعضهم رأى أن ذلك أفضل لقريش حتى لا يتأثر المزيد من الناس بدعوة محمد ﷺ و البعض الآخر رأى أن بخروج محمد وأتباعه إلى يثرب سيكون له ظهر و سند هناك فيمنعونه و أيضاً تتأثر تجارتهم بحكم أن أهل يثرب كانوا أهل زراعة و كانوا يعتمدون فى التجارة على قريش فإن خرج أصحاب محمد إلى هناك و هم أهل تجارة أيضاً إكتفت بهم يثرب عن مكة ..

فى النهاية خلصوا إلى ضرورة منع المسلمين من الهجرة و هو ما كان حيث بدأ المشركين بمنع من يحاول الخروج فكان كل زعيم قبيلة مسئول عن منع أبنائها من الهجرة ..

الإجراءات السابقة ساهمت فى هجرة المسلمين فى الخفاء و هو ما كانت تقتضيه الحاجة وقتها إذ كان الإسلام لا يزال فى مرحلة البناء و ليس من الحكمة أو الفطنة مواجهة من هو أقوى منك و أنت لم تزل تقوى بنيانك ..

كل المسلمين خرجوا متخفين فى جنح الليل إلا واحد هو عمر بن الخطاب .. حسب أشهر الروايات فإن عمر خرج من داره نهاراً يحمل سيفه وقوسه و عصاه فذهب إلى الكعبة فصلى بها وطاف بها سبعاً ثم دار على حلقات المشركين ( أماكن تجمعهم ) ناظراً لهم ثم يقول :

شاهت الوجوه ..
لا يرغم الله إلا هذه المعاطس ” أي أذل الله أنوفكم “
من أراد أن تثكله أمه .. أو ييتم ولده .. أو يُرمل زوجه فليلقني وراء هذا الوادى

فلم يلحق به أحدٌ إلا بعض المستضعفين فأرشدهم و علمهم ثم مضى فى طريقه فقابل فى طريقه حوالى عشرون من المهاجرين من بينهم أخوه زيد بن الخطاب و وصلوا جميعاً إلى المدينة قبل أن يصل إليها رسول الله ..

فى تلك النقطة يجب توضيح أمر مهم حيث أن بعض الفقهاء ضَعَّفَ رواية هجره عمر تلك حيث أن النبى ﷺ كان قد هاجر خفية و عمر هاجر علانية و هذا من الممكن أن يسبب خلطاً عند الناس أن عمر كان أشجع من رسول الله ﷺ ..

رائج :   أريده ملتزما (قصة قصيرة) .. عندما يكون كل شئ قسمة ونصيب

1 – خروج الرسول متخفياً قد يكون بسبب أهميته ﷺ لأمر الدعوة ولا يجب المخاطرة أبداً بحياته حتى و إن كانت نجاته هى الأقرب على عكس باقى المسلمين على أهميتهم حتى و إن كان منهم عمر و حمزة ..

2 – رسول الله لم يفرض طريقة الهجرة على أصحابه و ترك لهم اختيار الوسيلة الأنسب لهم و بذلك فإن عمر لم يخالف أمراً للنبى ..

3 – مسألة الخروج علانية و المواجهة مع كفار قريش ليست بغريبة على عمر فهو منذ إسلامه ما ترك موقفاً ينال فيه من المشركين علانية إلا و فعله و هو من طبائع عمر و من الصعب تصديق أن عمر الذي كان يواجههم ليل نهار إما بالحجة و إما بالقوة أن يغير أسلوبه حين يعزم على الهجرة ..

و لتلك الأسباب نستطيع القول أن سرد الرواية ليس فيه ما يضر حتى و إن ضَعَّفَها بعض الفقهاء كونها تتوافق مع طبيعة عمر الشخصية دون أن تقلل من شأن رسول الله ﷺ و هو أشجع الناس و هو الذى كان يواجه صناديد الكفر وحده دون مرافقة أحد من الصحابة ..

بوصول رسول الله ﷺ إلى المدينة بدأ عهداً جديداً للإسلام و بدأ النبى ينظم شئون الناس ويضبط أمورهم و بدأ يحدث ما كانت تخشاه قريش حيث بدأت تجارتها تتأثر مع المدينة المنورة و بدأ المسلمون فى تثبيت أرجلهم و بدأوا ينوعون مصادر دخلهم عن طريق الإغارة على قوافل قريش التي تمر بالقرب من المدينة فكانت مقابلاً و مكافئاً لما اغتصبته منهم قريش حين أخرجوهم من مكة دون أموالهم و ممتلكاتهم

و فى يوم من الأيام خرج الرسول ﷺ فى عدداً من أصحابه للإغارة على أحد قوافل قريش و كانت تخص أبو سفيان صخر بن حرب التى كانت آتية من الشام و لكن أبو سفيان تنبه لأمر الهجوم فأرسل ضمضم بن عمرو الغفارى ليطلب المدد من قريش و ما أن سمع أبو جهل بالأمر حتى أمر بتجهيز الجيوش فخرج منها حدود الألف مقاتل فى مائتي فرس و عدداً غير معلوم من الإبل و مئات من السيوف و الدروع و الحراب .. كانت تلك تجهيزات معركة بدر الكبرى ..

فى تلك الأثناء نجح أبو سفيان بالإفلات بالقافلة وأرسل رسولاً آخر ليخبر قريشا بذلك و لكن الجيش كان قد تجهز بالفعل و رفض أبو جهل التراجع و قال :

والله لا نرجع حتى نرد بدراً فنقيم بها ثلاثاً .. فننحر الجزور .. ونطعم الطعام .. ونسقي الخمر .. وتعزف لنا القيان .. وتسمع بنا العرب ومسيرنا و جمعنا .. فلا يزالون يهابوننا أبداً

علم الرسول ﷺ بأمر قريش وكان قد خرج للإغارة على قافلة و ليس لحرباً فكانت قوات المسلمين حوالى ثُلث عدد المشركين .. استشار النبى ﷺ أصحابه فى أمر القتال فقام كبار الصحابة من المهاجرين بتقديم القتال على الرجوع .. أبو بكر .. عمر بن الخطاب .. على بن أبى طالب .. المقداد بن الأسود .. كانت غالبية الجيش من الأنصار فنظر رسول الله إليهم و قال :

أشيروا على أيها الناس

فرد عليه سعد بن معاذ حامل لواء الأنصار قائلاً :

لقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ماجئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا و مواثيقنا على السمع والطاعة .. فامض يا رسول الله لما أردت .. فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد .. و ما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً .. إنا لصَبْرٍ فى الحرب صِدْقٍ عند اللقاء .. و لعل الله يريك منا ما تقر به عينك .. فسر على بركة الله

فسُر رسول الله ﷺ لما رأى اجتماع الرأى على المواجهة و قال :

سيروا و أبشروا فإن الله تعالى قد وعدنى إحدى الطائفتين .. و الله لكأنى أنظر إلى مصارع القوم

لما كتب الله النصر للمسلمين وقتلوا من قريش سبعين وأسروا سبعين آخرين قال رسول الله لأصحابه :

ما تقولون فى هؤلاء الأسرى ؟

فاختلف الصحابة فيما بينهم فجنح أبو بكر إلى الفداء و قال :

هم يا نبى الله بنو العم و العشيرة .. أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم للإسلام

و جنح عمر إلى الإثخان فى قتلهم و قال :

لا و الله يا رسول الله .. ما أرى الذى رأى أبو بكر .. و لكنى أرى أن تضرب أعناقهم فتُمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه .. و تمكنني من فلان – نسيباً لعمر – فأضرب عنقه .. فإن هؤلاء أئمة الكفر و صناديدها

فمال رسول الله ﷺ إلى رأى أبو بكر أكثر و خلص الأمر فى النهاية إلى تنوع فى معاملة الأسرى فمنهم من قتل و هم من كانوا الأشد إيذاءاً لرسول الله ﷺ و منهم من اُفتُدى بمال و منهم من أُفتُدى بتعليم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة وبعد أن اتُخذت تلك القرارات أنزل الله قرءاناً يوافق رأى عمر رضى الله عنه فنزلت الآية من سورة الأنفال :

مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

فلما نزلت الآيات جلس رسول الله و أبو بكر يبكيان فمر عليهما عمر ففوجىء ببكائهما فقال :

يا رسول الله أخبرنى من أى شيء تبكى أنت و صاحبك .. فإن وجدت بكاءً بكيت و إن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكما

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

أبكي للذي عُرض علىّ فى أصحابك من أخذهم الفداء .. لقد عُرض على عذابهم أدنى من هذه الشجرة ” ثم أخبره بالآيات “

كان رضى الله عنه شديداً فى الحق لا يتهاون أبداً مع الأسرى فحتى من بعد أخذ قرار الفداء أراد أن يشتد على الكفار و كان بينهم سهيل بن عمرو وكان خطيب مكة فقال :

يا رسول الله .. دعنى أنزع أسنان سهيل بن عمرو حتى لا يقوم عليك خطيباً بعد اليوم

فقال النبى صلى الله عليه وسلم :

لا يا عمر .. لا أمثل بأحد فيمثل الله بى و لو كنت نبياً .. و من يدريك يا عمر لعل سهيل يقف فى يوم من الأيام موقفاً تفرح به

و صدق الرسول الكريم حيث أن بعد وفاته إرتدت الجزيرة العربية كلها إلا ثلاث أماكن من ضمنهم مكة و ذلك بفضل خطاب سهيل فيهم ..

رائج :   سيرة الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) || الجزء الخامس

رائج :   سيرة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه

عمر لم يكن شديداً فى الأسرى فقط و إنما كان شديداً فى القتال فمن مواقفه أيضاً فى بدر أنه كان أثناء القتال يتحين قتل الفرسان خاصة من أقاربه حتى يصدق الله و يُرٍىَ الله منه خيراً و أنه لا غلا فى قلبه إلا للإسلام فمن ضمن من قتل فى الغزوة العاصى بن هشام أحد أخواله من بنى مخزوم ..

هذا هو فضل عمر .. كان رضى الله عنه يقول رأياً يراه أصلح للإسلام فينزل الله بعدها قرءاناً يوافق به كلامه و صل الله على سيدنا محمد و رضى عن صحابته الكرام ..

  • عمر سيستمر فى دعم رسول الله فى كل غزواته ..
  • سيستمر حتى بعد أن يفتح الله مكة للمسلمين ..
  • عمر له مواقف كثيرة مع رسول الله ..

– و لكن .. تلك قصة أخرى ..

مقالات ذات صلة