دين و دنيا

سيرة الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) || الجزء السادس

كانت هناك قبيلة تدعى بنى بكر مقسمة إلى ثلاث أفرع بنو ليث .. بنو ضمرة .. بنو الدئل و كان هناك نزاع و ثأر قديم يتجدد باستمرار بين فرع بنو الدئل مع قبيلة أخرى تدعى خزاعة أحد فروع بنو كعب منذ الجاهلية

و لما تم توقيع صلح الحديبية بين المسلمين و قريش كان أحد بنوده ينص على حرية التحالف و أيضاً كان فيه أن الهدنة تشمل الفريقين و حلفائهم فلا يعتدى أحد الحلفاء على الأخر و هو ما وجدته بعض القبائل فرصة لأن تأمن نفسها من الحرب لفترة طويلة ومن بين تلك القبائل بنو بكر وخزاعة فدخلت بنو بكر فى حلف قريش و دخلت خزاعة فى حلف المسلمين ..

الفرعان الأوليان لبنى بكر دخلا فى الإسلام بعد مدة و بقى الفرع الثالث بنو الدئل على دين قريش و بقيت معه عداوته لخزاعة رغم الهدنة وفي أحد الأيام من العام الثامن هجرياً خرجت جماعة من بنى الدئل بقيادة رجلاً يُدعى نوفل بن معاوية للإغارة على خزاعة فوجدوهم عند ماء يسمى الوتير 

فقتلوا منهم من قتلوا و فر الباقى حتى دخلوا إلى الحرم فلحق بهم نوفل و أتباعه و قتلوا بعضهم فى الحرم .. ما حدث منهم كان نقضاً صريحاً للعهد كان يدعمه بعض رجال قريش سراً .. على قريش الآن أن تنتظر الأسوأ ..

بعد نقض العهد خرج وفداً من خزاعة إلى المدينة المنورة برئاسة عمرو بن سالم للقاء رسول الله ﷺ فلما دخلوا عليه المسجد أخبره عمرو بما كان من بنى بكر فرد عليه رسول الله ﷺ :

( نُصرت يا عمرو بن سالم )

و بالرغم من توفر الأدلة على تورط قريش فى نقض العهد إلا أن رسول الله ﷺ أراد أن يتجنب قتال قريش و أن يأخذ الدية منهم لخزاعة فأرسل إلى قريش خطاباً قال فيه :

( أما بعد .. فإنكم إن تبرؤوا من حلف بنى بكر .. أتُدوا خزاعة – أى تدفعوا دية قتلاهم – و إلا أؤذنكم بحرب )

فتشاورت قريش فيما بينها و كانوا فى موقف صعب للغاية فهم من ناحية إن قبلوا بدفع الدية لتأثر مركزهم المالى كثيراً خاصة و أن الضحايا كانت كثيرة و عدد منهم قتل فى الحرم و إن لم يقبلوا اضطروا إلى أن يبرؤوا من حلف بنى الدئل بن بكر و هم أخر قبائل العرب المتبقين على دين قريش

فلم يجدوا فى النهاية إلا رفض خطاب رسول الله ﷺ و أن يأذنوه بالحرب و لكن بسبب قلة حلفاء قريش رأت قريش أن تبعث وفداً بقيادة أبو سفيان لمفاوضة رسول الله ﷺ على تجديد الصلح و نسيان ما كان ..

رائج :   تباين وجهات النظر حول سلسلة (الديكتاتورية .. نماذج من الطغاة)

أبو سفيان هو والد أم حبيبة زوج رسول الله ﷺ و أحد أمهات المؤمنين و أول ما فعله حين وصل المدينة أن نزل بدارها رغبة منه فى التلميح إلى المصاهرة مع رسول الله ﷺ فلما دخل أراد أن يجلس على فراش فى المنزل فمنعته أم المؤمنين حبيبة فقال :

( يا بنية .. ما أدرى .. أرغبت بى عن هذا الفراش أم رغبت به عنى ؟ )

فقالت رضى الله عنها :

( بل هذا فراش رسول الله و أنت مشرك نجس )

فقال :

( و الله لقد أصابك بعدى شر )

فخرج من فوره حتى أتى رسول الله ﷺ فطلب منه مد أجل الهدنة فرفض فتركه و ذهب لأبى بكر ليتوسط له فرفض فتركه و ذهب إلى عمر ..

و هنا تظهر شخصية عمر و كيف أنه كان شديداً لا يتهاون مع الكافرين فهو لم يكتفي بالرفض و فقط و إنما نظر له بحدة ثم قال :

( أنا أشفع لكم عند رسول الله ؟!! و الله لو لم أجد إلا الذَر – أى النمل – لجاهدتكم به )

فتركه و ذهب إلى على الذي رفض أن يتوسط إليه فقال له أبو سفيان :

( يا أبا الحسن .. إنى أرى الأمور قد اشتدت على فانصحني )

فقال له على :

( و الله ما أعلم لك شيئاً يغني عنك و لكنك سيد بنى كنانة فقم فأجر بين الناس – أي قف موقف المحايد بينهم – ثم الحق بأرضك )

فقال أبو سفيان :

( أو ترى ذلك مغنياً عني شيئاً ؟ )

قال على :

( لا و الله ما أظنه .. و لكنى لم أجد لك غير ذلك )

فوقف أبو سفيان أمام المسجد و قال :

( أيها الناس .. إنى قد أجرت بين الناس )

ثم تركهم و انطلق عائداً إلى مكة و قد وضحت أمامه الصورة كاملة الآن بعدما رأى من اجتماع كلمة المسلمين بما فيهم ابنته أم حبيبة .. إما الدية و التبرؤ من بنى بكر .. و إما فهي حرب فاصلة بين المسلمين و قريش ..

رغم كل ما سبق إلا أن النبى ﷺ لم يكن يرغب فى قتال قريش وأراد أن يدخل مكة سلماً لا حرباً فأخفى أمر فتح مكة على المسلمين حتى أقرب الناس إليه لكي لا تنتشر الأخبار و تصل قريش فتعد جيشاً لمواجهة المسلمين فيضطر رسول الله إلى قتالهم فجهز الجيش وخرج به من المدينة ثم تم إخبارهم بأمر الفتح حيث قال لهم :

( اغزوا باسم الله فى سبيل الله قاتلوا من كفر بالله .. اغزوا و لا تغلوا و لا تغدروا و لا تُمَثلِوا و لا تقتلوا وليداً )

قبل مكة بحوالي عشرين كيلو متر و تحديداً فى وادى مر الظهران عسكر جيش المسلمين و أمر الرسول بأن يُوقد كل فرد فى الجيش ناراً فصارت عشرة آلاف نار فى جوف الصحراء فلما رآها عم رسول الله العباس بن عبد المطلب قال :

( واصباح قريش .. و الله لئن دخل رسول الله مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه فإنه لهلاك قريش إلى أبد الدهر )

رسول الله ﷺ أراد التأثير فى حالة المشركين النفسية لأنه بهذا ُيثبط عزائمهم و هو ما يسمح له بدخول مكة دون قتال .. كانت رغبة رسول الله ألا يراق دم فى مكة ففيها بيت الله الحرام و هى أحب أرض الله إلى قلبه و فيها أهله و أبناء عمومته ..

رائج :   من فضلك .. ممكن تنصب عليا ؟!

خرج العباس إلى مكة ليُنذر قريشاً بما سيلاقوه رغبة منه فى حقن الدماء فانطلق و هو يركب بغلة رسول الله ﷺ و فى نفس الوقت كان أبو سفيان قد خرج يستكشف الأخبار فلما رآه العباس قال له :

( ويحك يا أبا سفيان .. هذا رسول الله ﷺ فى الناس .. واصباح قريشٍ و الله )

فقال أبو سفيان :

( فما الحيلة فداك أبى و أمى ؟ )

فقال :

( و الله لئن ظفر بك ليضربن عنقك فاركب فى عَجُز هذه البغلة – أى مؤخرتها – حتى آتى بك رسول الله فأستئمنه لك )

و هنا يظهر مشهد آخر من مشاهد غلظة و اشتداد عمر على المشركين لأن العباس عندما حمل أبو سفيان معه و هو فى طريقه إلى رسول الله مر بالكثير من نقاط الحراسة فكانوا عندما يرون بغلة رسول الله و عليها عمه العباس يتركوه يمر دون سؤال .. كلهم تركوه إلا رجلاً واحداً .. كان هذا الرجل عمر .. أوقف عمر العباس و قال له :

( من هذا ؟ )

ثم قام فنظر إليه فوجده أبا سفيان فقال :

( أبو سفيان عدو الله .. الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد و لا عهد )

فلما ذهب به إلى رسول الله لم يترك لأبو سفيان فرصه للكلام و بادر رسول الله بالحديث قائلاً :

( يا رسول الله .. هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد فدعني أضرب عنقه )

إلا أن رسول الله رأى أن يستمع إليه فقال له :

( ويحك يا أبا سفيان .. ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله ؟ )

فرد قائلاً :

( بأبي أنت وأمي .. ما أحلمك وأكرمك وأوصلك .. و الله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني بعد )

فقال رسول الله :

( ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ؟ )

فرد قائلاً :

( أما هذه و الله فإن فى النفس منها حتى الآن شيئاً )

فقال له العباس :

( ويحك .. أسلم قبل أن نضرب عنقك )

فأسلم أبو سفيان و نطق الشهادتين فأراد رسول الله ﷺ أن يأتلفه و يضعه فى موضع الزعامة بعد إسلامه فأرسله إلى قريش برسالة مفادها :

( أن من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن – و فى هذا فخرٌ شديد – و من دخل المسجد فهو آمن ومن دخل بيته فهو آمن )

كان تعامل رسول الله النفسى سواء فى تصدير الرعب إلى قلوب أعدائه ثم ائتلاف قلوب من آمن منهم فى غاية الروعة .. لم يكن ينطق عن الهوى صلوات الله عليه ..

رائج :   قلبي اطمأن … الحقيقة لا

دخل المسلمون مكة من جهاتها الأربعة و لم يجدوا مقاومة تذكر سوى من جهة خالد بن الوليد و هو ما لم يكن أمراً عسيراً عليه ما أسفر عن تراجع المشركين و هزيمتهم ..

دخل رسول الله مكة و عليه عمامة سوداء مخفضاً رأسه تواضعاً لله بعدما رأى ما أكرمه الله به من الفتح .. ثم جاء البيت فطاف به وكان يحمل فى يده قوساً و بعد انتهاء الطواف مر على الأصنام التي كانت تحيط بالحرم فيكسرها و هو يردد :

( جاء الحق و زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا )

ثم أمر بتكسير التماثيل التى بالكعبة و تمزيق الصور التى فيها حيث كان أولى أولوياته ﷺ إزالة ملامح الشرك من البيت الحرام وبعد أن انتهى المسلمون من ذلك دخل الكعبة و صلى بها ثم خرج للناس و خطب فيهم ثم نظم بينهم أمورهم فترك مفتاح البيت الحرام فى يد عثمان بن طلحة كما هو رغم أنه كان يُغلظ القول لرسول الله قبل هجرته إلى المدينة .. فقال ﷺ له :

( هاك مفتاحك يا عثمان .. اليوم يوم بر و وفاء .. خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم )

يومها أعلن رسول الله العفو عن أهل مكة جميعهم ما تسبب فى إسلامهم كلهم و ما بقى مشركاً فى مكة إلا أسيادها الذين هربوا أو اختبأوا حتى استأمن لهم الناس عند رسول الله فاستأمنهم .. عكرمة بن أبى جهل .. صفوان بن أمية .. سهيل بن عمرو و آخرون ..

دخلت قريش كلها فى الإسلام الآن و كان فتحاً عظيماً للإسلام و المسلمين إذ تبعت قريش باقى قبائل الجزيرة العربية التى لم تسلم حتى أسلمت جميعها ..

  • بعد حوالى عام سيتوفى رسول الله ..
  • كل جزيرة العرب تقريباً سترتد عن الإسلام ..
  • أبو بكر سيتحمل مسؤولية الأمة فى واحدة من أصعب ظروفها ..
  • أبو بكر سينجح بامتياز بفضل وجود عمر بجانبه ..

– و لكن .. تلك قصة أخرى ..

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *