الآن مرت أربعة شهور على إسلام خالد بن الوليد – رضى الله عنه – و رسول الله ﷺ فى ذلك الوقت كان قد بدأ فى إرسال سفراء لزعماء القبائل يدعوهم للإسلام
و فى أحد المرات أرسل صحابياً يدعى الحارث بن عمير الأزدى إلى ملك بُصرَى و هى إمارة تخضع لحكم أحد فروع الغساسنة .. الغساسنة هم قبائل عربية مسيحية تدين بالولاء إلى هرقل عظيم الروم ..
قبل أن يصل مبعوث النبى إلى هناك اعترضه شُرَحْبِيل بن عمرو الغسانى وكان أمير منطقة البلقاء فقتل مبعوث النبى ..
حين وصل الخبر إلى رسول الله اشتد عليه الأمر و أمر بتجهيز جيش قوامه 3000 مقاتل للأخذ بثأر الحارث بن عمير .. جيشاً كان يعد الأكبر حينها للمسلمين .. لم يجهز جيشاً مثله إلا فى غزوة الخندق .. ها قد جاءت أولى غزوات خالد بعد دخوله الإسلام ..
قام الرسول بتحديد المسئوليات فى الجيش و أسند القيادة إلى ثلاثة و هم على الترتيب :
- زيد بن حارثة
- جعفر بن أبى طالب
- عبد الله بن رواحه
انطلق الجيش مغادراً المدينة المنورة وفي تلك الأثناء علمت البلقاء و زعيمها شرحبيل بقدوم المسلمين للأخذ بالثأر فلجأ إلى باقى قبائل الغساسنة فتكاتفوا معه و جمعوا فيما بينهم 100 ألف مقاتل و فوق ذلك لجأوا إلى هرقل ليمدهم بالمدد فأمدهم بـ 100 ألف أخرين ..
أصبحت الآن موازين القوى فى صالحهم تماماً و جيش المسلمين الذي ظن أنه خرج لملاقاة فرع واحد من الغساسنة اكتشف عن طريق عيونه حقيقة الوضع و أن جيش عدوهم صار أضعاف أضعافهم فقاموا بالتخييم فى معان وهي بلدة على حدود الأردن الآن وتشاوروا فى الأمر لمدة يومان
وانحصرت المشاورات بين أن يكملوا هجومهم كما أمر رسول الله أو أنهم يرسلوا أحداً إلى المدينة لإطلاعه ﷺ على المستجدات التي حدثت و أخذ رأيه .. لاحظ أن خيار الإنسحاب لم يطرح من الأساس .. حينها رفض عبد الله بن رواحة فكرة إرسال رسول إلى المدينة و قال :
( يا قوم .. و الله إن التى تكرهون لَلَّتِى خرجتم تطلبون .. نحن لا نقاتل الناس بعدد و لا قوة و لا كثرة .. ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذى أكرمنا الله به .. فانطلقوا فإنما هى إحدى الحسنيين .. إما ظُهور أو شهادة )
تحرك الجيش إلى مؤتة و بدأ القتال قرب الفجر و كانت الغلبة لجيش المسلمين فى اليوم الأول و الثانى لأنهم كانوا المبادرين بالهجوم و استغلوا صدمة جيش الروم والغساسنة لأنهم لم يتوقعوا أن جيشاً صغيراً مثل هذا هو من يبادر بالهجوم ..
فى اليوم الثالث بادروا هم بالهجوم وكان أصعب الأيام على المسلمين و مات فى ذلك اليوم القادة الثلاث الذين حددهم رسول الله و مع سقوط عبد الله بن رواحة دبت الفوضى فى جيش المسلمين فمن يمسك الراية الآن
.. لمن تؤول قيادة المسلمين فى ذلك الموقف الصعب .. هنا قام صحابياً من الأنصار إسمه ثابت بن أقرم بحمل الراية و قال :
– يا معشر المسلمين .. اصطلحوا على رجل منكم ..
– قالوا .. نصطلح عليك ..
– قال : ما أنا بفاعل .. ما أنا بأدراكم فى أمور الحرب .. ثم قام بإعطائها لخالد و قال :
– خذها يا خالد ..
– قال خالد : يا عمى .. خذها أنت .. أنت أسن و أفضل ..
– قال : خذها يا خالد .. و الله ما أخذتها إلا لك ..
و فى الوقت الذى كان يسقط فيه قادة الجيش كان الوحي يخبر رسول الله ﷺ بما حدث هناك و كان بدوره يخبر أصحابه حيث قال :
( أخذ الراية زيد فأصيب .. ثم أخذ جعفر فأصيب .. ثم أخذ ابن رواحة فأصيب – و عيناه تذرفان – حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم )
وقتها تسلم خالد قيادة جيش المسلمين لأول مرة فى موقف لا يحسد عليه .. جيش صغير يقابل جيشاً كبيراً ومعنوياته مرتفعة نظراً لإستطاعتهم قتل قادة المسلمين الثلاث فى يوم واحد .. يجب أن يمر ذلك اليوم بأى طريقة .. و بعدها فليفعل الله ما يريد .. و هو ما حدث بالفعل ..
الخطة الأولى ..
فى الليل رأى خالد أنه يجب تعديل موازين القوى على الصعيد النفسي قبل أى شىء .. لابد من تثبيط همم جيش الغساسنة و أعد لهذا خطة محكمة …
أمر خالد كتيبة من الفرسان بالرجوع خلف الجيش بمسافة ثم ينتقوا أكثر الأماكن إثارة للغبار فيقوموا بتحريك أحصنتهم عليها لإثارة أكبر قدر من الغبار مع تعالى صيحاتهم بالتكبير والتهليل ثم أمر جيشه بالتكبير و التهليل أيضاً
فظن جيش الأعداء أنما قد جاءهم مدد فأصابهم الوهن .. هم أصلاً كانوا قد أصابهم الوهن مع عدم استطاعتهم هزيمة جيشاً صغيراً كهذا .. فماذا إذا جاءهم مدداً جديداً ..
الجزء الثانى من خطة خالد كان بتغيير أماكن الجنود فجعل ميمنة الجيش ميسرته و مقدمته مؤخرته و هكذا حين تقابل الجمعان رأى جنود المشركين مسلمين جُدُد فما كان منهم إلا أن دب الرعب فى قلوبهم ..
لم يكتفى خالد بهذا فهو كان يرغب بالانسحاب دون خسارة أحداً من مقاتليه و لو تراجع الآن لتبعته الروم و الغساسنة و فتكوا بهم فى الصحراء .. أراد أن يستخدم عامل الصدمة ..
بعد أيام من القتال سيأمر خالد بتنفيذ خطته حيث أمر كل كتائب الجيش بالهجوم مرة واحدة على قلب جيش العدو و قبل أن يستفيقوا من صدمتهم كان خالد وجنوده قد ألحقوا أكبر خسائر ممكنة فى صفوف عدوهم بل كادوا يقتربون من خيام قادة الروم
و قبل أن يفيقوا و يطبقوا على جيش المسلمين و حصاره أمر جنوده بالانسحاب .. صدمة الهجوم المفاجىء بهذا الشكل جعل قادة الروم يأمروا جنودهم بعدم اتباعهم خشية أن يكون كميناً قد أعده لهم المسلمون فتركوه يتراجع دون ملاحقته ..
بعدها تراجع خالد وجيشه مباشرة و بلا توقف إلى المدينة المنورة دون أن يخسر مقاتلاً واحداً .. لم يحدث مطلقاً فى ذلك الزمان أن انسحب جيشاً دون أن تحدث له خسائر كارثية على مستوى الجنود .. خالد كان الوحيد الذي فعلها ..
بعد فترة قصيرة من تلك الغزوة قام المسلمون بفتح مكة و معها بايع رسول الله عدداً كبيراً من قبائل الجزيرة العربية ولم يتبق إلا بعض القبائل التي كانت تظن أنها فى قوة المسلمين أو أقوى فرفضت المبايعة فأمر رسول الله ﷺ بقتالها ومن هؤلاء قبيلتي هوازن وثقيف فى الطائف .. نحن الآن بصدد واحدة من أهم الغزوات ..
غزوة حنين
جهز المسلمون جيشاً من 12000 مقاتل لم يكن للمسلمين جيشاً مثله من قبل فاغتروا به و قالوا لن نهزم اليوم من قله .. تحرك الجيش حتى بلغ واديا يدعى وادي حنين
نظر النبى إلى أرض المعركة فرأى أن جيشه على هضبة عالية ثم منحدر شديد يحيط به من الجانبين أشجاراً كثيفة ثم وادياً واسعاً و كبيراً كان فى أخره جيش المشركين فلا سبيل للوصول إليهم إلا عبر عبور المنحدر لكنه صل الله عليه و سلم خاف من وجود أكمنة للمشركين فى الأشجار
فقام بإرسال صحابياً يدعى أنس بن أبى مرثد للصعود إلى جبل قريب و البقاء من الشروق إلى الغروب لمراقبة تحركات جيش العدو فلما عاد أخبر النبى أنه لم يرى شيئاً غريباً .. لم يكن يعلم أن المشركين كانوا قد سبقوهم ونصبوا أكمنتهم بالفعل ..
أمر رسول الله ﷺ بتقسيم الجيش إلى 3 كتائب على رأسها خالد والزبير بن العوام و على بن أبي طالب و أمر خالد بالتقدم بكتيبته لعبور المنحدر لتأمين تقدم الجيش و ما كاد أن يصل خالد إلى منتصف المنحدر حتى ظهرت أكمنة المشركين و أضحت سهامهم و رماحهم تصيب جنود المسلمين ..
خالد أصيب بكثير من الإصابات و حاول التحامل على نفسه لكنه سقط أرضاً متأثراً بجراحه و فر أغلب كتيبته الذين كانوا حديثى عهد بالإسلام .. تراجعهم أصاب جيش المسلمين بعدوى التراجع و تفرقوا بشكل فوضوي و كانت الهزيمة قريبة لولا ثبات رسول الله ﷺ الذى بقى معه قله من أصحابه فنادى بين الجنود :
( إلى عباد الله .. أنا رسول الله )
فاستجاب له عمه العباس فأمره بالنداء عليهم و كان صاحب صوت جهير فقال نادى عليهم يا عباس و قل ( يا أصحاب بدر ) فتجمع قرابة المائة مقاتل جوار الرسول و كانت المعركة شديدة بالفعل و الهزيمة تقترب فما كان من النبى إلا أن ترجل عن فرسه و توجه صوب المشركين مردداً :
( أنا النبى لا كذب .. أنا بن عبد المطلب )
ثم أخذ قبضة من التراب و رماها عليهم و قال :
( شاهت الوجوه .. اللهم نصرك الذى وعدت )
يقول العباس ما رأينا أحداً من جيش هوازن إلا و كان يفرك عينه أو فمه .. إكتمل المشهد بمدد من الله حين أرسل ملائكته لدعم المسلمين و هو ما نزل فى الآيات من سورة التوبة :
( ثم أنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين و أنزل جنوداً لم تروها و عذب الذين كفروا و ذلك جزاء الكافرين )
معجزة نبوية
بعد أن تماسك جيش المسلمين بحث رسول الله عن خالد – رضى الله عنه – واختصه بمعجزة نبوية حين وجده مضرجاً فى دمائه فتفل فى يديه الكريمة ثم مسح بهما على جراحه فبرأ خالد و شفى فى الحال و رجع كما كان أول المعركة
فاستكمل ما بدأه حتى تراجع جيش هوازن إلى الطائف تاركاً وراءه أكبر غنائم غنمها المسلمين فى عهد النبى الكريم و تعلم المسلمون درساً لم ينسوه أبداً لاحقاً بعد أن اغتروا بعددهم و قوتهم و ظنوا أن النصر مضمون و هو ما نزل فى الآيات من سورة التوبة :
( لقد نصركم الله فى مواطن كثيرة و يوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تُغن عنكم شيئاً و ضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين )
- فترة قصيرة و سيستكمل خالد فتوحات المسلمين ..
- فترة قصيرة قبل غزوة تبوك و دومة الجندل ..
- فترة قصيرة حتى يتوفى رسول الله وتبدأ حروب الردة ..
- خالد لا يزال أمامه الكثير ..
– و لكن .. تلك قصة أخرى ..