من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)
أنا سيدة شابة تزوجت منذ أربع سنوات .. وحين كنت في طفولتي رحلت جدتي عن الحياة فجذبتني إحدي سيدات الأسرة من يدي لأقبل وجه جدتي الراحلة, فكرهت منذ هذه اللحظة المؤلمة الموت كراهة شديدة … وأصبحت لا أطيق التفكير فيه, وظللت طوال طفولتي وصباي إذا رأيت سرادق عزاء في شارع لا أعبره لكيلا أمر بجانب السرادق, ثم مضت الأيام وشققت طريقي في الحياة وتزوجت وسعدت بحياتي إلا من فترات عابرة يلاحقني خلالها شبح الموت في أفكاري, وحملت في طفل أحببته من كل قلبي وهو مازال جنينا في بطني ..
وقضيت أوقات حملي أداعبه وأتحدث إليه وهو في أحشائي وأشتري له كل ما هو جديد وأترقب في لهفة موعد مجيئه إلي الحياة.. وعندما جاء ورأيته منعني شيء غامض من الفرحة الطاغية به, فلقد كان يعاني من بعض الزرقة في جسمه, وطلبت الأطباء لفحصه ففسروا لي زرقة جسمه بأنها من أثر ولادتي المتعسرة وسرعان ما سوف تزول. وغادرت المستشفي حاملة طفلي وبدأت أراقبه فوجدته يأتي بحركات لاتتناسب مع عمره الذي لا يزيد علي بضعة أيام, وحمدت الله علي قوته ورحت أتلو آيات القرآن الكريم في كل حين, داعية الله أن يحفظه من كل سوء.
وحين بلغ اليوم الخامس والعشرين من عمره حملته إلي طبيب كبير لمجرد المتابعة والاطمئنان, حيث لم يكن يشكو من أي شيء, فما أن رآه الطبيب حتي سألني عن سبب زرقة جسمه, وطلب إجراء عدة فحوص علي قلبه, وجاءت الفحوص بمفاجأة مخيفة, وهي أن طفلي الحبيب مولود بعيب خلقي في القلب ولا يمكن علاجه في مصر, وإنما يحتاج إلي السفر للخارج لإجراء جراحة له علي يد خبير.
وقضيت أيامي في ذهول حزين وأعدت إجراء الفحوص ثلاث مرات علي أمل أن تكون خاطئة, وكان لدي من الأسباب ما يدفعني للتعلق بهذا الأمل, فصحة طفلي جيدة ورضاعته منتظمة وليس فيه شيء غير طبيعي سوي هذه الزرقة اللعينة, بل إن الأطباء كانوا يتسمعون دقات قلبه بالسماعة الطبية, فلا يجدون فيها ما يؤيد نتائج الاشعة, وانتهي الأمر بإجراء جراحة له علي يد إحدي الخبيرات كمرحلة أولي علي أن أسافر به بعدها لإجراء جراحة أخري في المرحلة الثانية, ودخلت المستشفي مع طفلي ..
ولن أروي لك عن نظرات طفلي في تلك الأيام التي سبقت إجراء الجراحة, فهؤلاء الملائكة بالفعل يا سيدي بارعون في التعبير بالنظرات والإحساس بما سوف يحدث كما قالت لك الأم الشابة التي فقدت طفلها وروت لك قصتها بعنوان الأيام القليلة وطلبت منك ألا تنصحها بالصبر, لأنها قد سئمت هذه النصيحة, وبالرغم من ذلك فلقد تفاءلت وتمسكت بالأمل بإصرار. ودخل ولدي غرفة الجراحة وعمره 51 يوما فقط, وسعد كل من حولي بذلك وتفاءلوا خيرا, أما أنا فإن صدر طفلي, الذي كان ينتفض بقوة أعجب كيف يتحملها جسمه الصغير, كان يثير المخاوف لدي ورحت أتأمله وأتساءل: كيف يارب يتحمل جسده الصغير كل هذه الأجهزة والخراطيم التي تكبله من كل ناحية, ورأيت طفلي ينظر إلي بعين زائغة فسألته: هل تعرفني .. هل سترحل عني دون حتي أن تعرف ماما التي حلمت بك وأحبتك قبل أن تراك؟
وشعرت للمرة الأولي بأن رائحة الموت تقترب مني, فقد فشلت الجراحة بالفعل, وتمت إعادتها في اليوم التالي.. ورحت أصلي لربي وأدعو لطفلي بالشفاء أو الراحة! وعجبت لنفسي حين دعوت له بهذا الدعاء.. فهذا الطفل الذي ابتهلت الي الله طويلا أن يهبه لي هو نفسه الطفل الذي أرجو الآن من الله أن يشفيه أو يسترده إليه رفقا به.
ولم يغمض لي جفن في تلك الليلة وأديت صلاة الفجر وشعرت وأنا أصلي بشيء كالشرارة قد هبط علي كتفي الأيسر, ثم سري في جسدي واستقر في صدري, وقمت من صلاتي لاكتشف أن اللبن قد جف من صدري تماما ولم يعد له وجود.. فرحت أجمع أشيائي وأنا أتلو سورة الواقعة إلي أن بلغت الآية الكريمة التي تقول: يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين فما أن تلوتها حتي انفجرت في البكاء, وأدركت لماذا خطرت هذه السورة بالذات علي ذهني.
وفي الصباح قابلت الأطباء وعرفت منهم أن هناك تطورا خطيرا في حالة ابني ورأيتهم يتبادلون النظر في حذر, فأخبرتهم أنني مؤمنة بقضاء الله وقدره, وأنه من الأفضل لي أن يسلموني طفلي الحبيب لأترحم عليه, فطلبوا مني التريث بعض الوقت, ولم تمض دقائق أخري حتي استدعوني وأبلغوني أن سهم القضاء قد نفذ فيه, وطلبت بإصرار أن أراه ودخلت لأراه وقد فارق الحياة التي لم يطل بها مقامه ورفعته ووضعت رأسه بين عنقي وكتفي وضممته إلي بقوة كأني أريد أن أعيد إدخاله إلي جسمي مرة أخري, وهبطت علي سكينة من السماء وتحجرت دموعي ولم أقل سوي: الحمد لله.
ووجدتني أنا التي كنت أفر من الموت أحمله بين يدي, ومهما قلت فلن أعبر لك عما حدث لي بعد ذلك, فكلمات الدنيا كلها عن الصبر والإيمان لم تكن تكفي, لكني استجبت في النهاية لمن حولي وكتمت حزني وعدت إلي عملي وفوجئت بأن الحزن الكامن في الأعماق قد تحول إلي وحش يلتهم كل شيء حتي الطعام, فلقد كنت آكل بكلتا يدي فلا يستقر بعدها شيء في جوفي.. كما كنت أسمع دائما صوتا كصوت الطاحونة يهدر في صدري, وتمنيت لو تركني من هم حولي لكي أصرخ.. وأصرخ وأصرخ ليخرج الحزن من صدري.
لكني تماسكت وتعمدت أن أذكر ولدي في كل لحظة.. ووضعت صوره في كل مكان بالبيت علي الرغم من اعتراض الجميع, وعاهدت نفسي علي أن أصلي ركعتين مع كل فرض باسم ولدي لكي أتذكره بقية عمري برغم علمي أن هذا الملاك الطاهر لا يحتاج إلي صلاتي من أجله.
ولقد ترفق بي ربي برحمته الواسعة, فحملت مرة أخري وبذل الأطباء كل ما في وسعهم للتأكد من عدم وجود عيوب خلقية في الجنين, وأبلغوني بذلك لكنني كنت شديدة الحذر من السعادة, وفي كل مرة يجري فيها الطبيب فحوصه ويؤكد لي أن الجنين بخير أتذكر قول الله سبحانه وتعالي فأغشيناهم فهم لا يبصرون وأسأل نفسي: وماذا لو أراد الله لي شيئا آخر .. وماذا سأفعل حينذاك سوي أن أصبر وأحمد الله في كل الأحوال, لكن فضل الله أكبر, فلقد أنجبت طفلة جميلة وجاءت صحتها جيدة والحمد لله وإني لانظر إليها الآن وهي تنمو في سلام فأذكر نفسي بأنها ليست ملكا لي, وإنما هي وديعة من عند الله لدي, وأنه سبحانه وتعالي قدير علي كل شيء, وأن الجاهل منا هو فقط من يأمن مكر الله.
كما مازلت أصلي ركعتين مع كل فرض وأهبهما لطفلي الراحل.. ولقد كتبت هذه الرسالة لكي أطلعك علي تجربتي وأخفف بها عن الأم الشابة كاتبة رسالة الأيام القليلة وأقول لها: صلي يا سيدتي لطفلتك الراحلة كثيرا وتعمدي أن تتذكري ابنتك لأنه خلال إصرارك علي التذكر سوف يمن الله عليك بنعمة النسيان إن شاء الله.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :
تذكرت وأنا أقرأ رسالتك المعبرة هذه كلمة صادقة للأديب البرازيلي باولو كويلو يقول فيها: حين يجب عليك أن تبكي فابك كطفل فأنت إنسان حر, وليس من العار أن تظهر عواطفك, وليكن أنينك عاليا حين تشعر بالحاجة إلي ذلك, لأن الأطفال يبكون هكذا.. ولأنهم يتوقفون عن البكاء حين يفكرون في شيء آخر. وكذلك سوف تفعل أنت في الوقت المناسب
ولا عجب في ذلك يا سيدتي فكلنا ضعفاء أمام الألم الإنساني, وليس مما يعيب أحدا أن يكون رقيق العواطف.. صادق الأحزان ـ بشرط ألا يتعارض ذلك مع تسليمه بقضاء الله وقدره, ولقد بكي الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه ولده إبراهيم, ولم يقل ما يغضب ربه, وبكي عمه حمزه بن عبد المطلب وصحابته الأكرمين الذين استشهدوا في المغازي.. وقال لمن أدهشهم بكاؤه علي أحدهم: إنما هي عبرة الصديق علي الصديق, وكان, كما روي عنه كتاب السيرة, دائم الفكر متواصل الأحزان.
فليس ذرف الدموع إذن مما يتناقض مع الإيمان والرضا بقضاء الله وقدره.. وساعة الفراق تبكي دائما مهما يكن التجلد وعمق الإيمان وليس من صالح أحد أن يخالف طبيعته البشرية لأن إطلاق الحزن المكتوم يخفف عن النفس بعض آلامها.. ويهييء الإنسان لاستعادة توازنه النفسي بعد فترة معقولة من مكابدة الأحزان.
ولقد قرأت في بعض كتب الصوفية قصة عجيبة عن الزاهد المتصوف سمنون المحب الذي تجرد للعبادة وتعليم تلاميذه, حتي خيل إليه أنه قد بلغ من الشفافية درجة تجعله قادرا علي تحمل أي اختبار من الله سبحانه وتعالي دون أن يتشكي منه أو يدعو ربه لكي يصرفه عنه, وكان يردد مخاطبا ربه:
وليس لي في سواك حظ
فكيفما شئت فاختبرني
مؤكدا لنفسه أنه سيكون عند أي اختبار من الصابرين فابتلي بمرض احتباس البول وصبر عليه وتجلد ولم يدع ربه بالشفاء منه, إلي أن جاءه تلاميذه يقولون له إنهم قد سمعوه في الليل يدعو لنفسه بالشفاء من المرض, ولم يكن قد فعل, فعلم أن مراد ربه هو أن يظهر الحاجة إليه وليس أن يترفع عنها معتزا بصبره وتجلده فطاف علي صبيان المكاتب الذين يتلقون العلم ويحفظون القرآن يقول لهم: ادعو لعمكم الكذاب!
أي لعمكم الذي كذب علي نفسه وزعم أنه قادر علي تحمل أي اختبار من الله سبحانه وتعالي, ولهذا السبب لا يزعم الصالحون قدرتهم علي الصمود أمام كل اختبار, وإنما يدعون ربهم.. ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا علي القوم الكافرين لأن هذا هو الأقرب إلي طبيعتهم البشرية.
وأحسب أنني لم أستوعب كل معاني الحديث الشريف الذي يقول: من لم يسأل الله يغضب عليه إلا بعد أن قرأت قصة سمنون المحب هذه, كما أحسب أيضا أنني, وعلي كثرة ما قرأت عن فن نسيان الشقاء الذي تؤلف فيه الكتب العديدة في الغرب, أنني قد قرأت من قبل هذه النصيحة التي تتوجهين بها للأم كاتبة رسالة الأيام القليلة بأن تتذكر لكي تنسي!
فلقد توقفت أمامها وتفكرت فيها طويلا, إذ درج علماء النفس المحدثون علي أن يؤكدوا لنا أن الطريقة الوحيدة للتخلص من الأحزان هي نسيان التجارب المؤلمة والمشاركة في النشاطات الاجتماعية والانشغال بالعمل, ومن قبل ذلك كله الإيمان بالله والتسليم بإرادته .. فإذا بك تضيفين إلي هذه الوصفة نصيحة جديدة مستخلصة من معاناتك الشخصية مع فقد وليدك الصغير, وهي أن يتذكر المرء من فقدهم لكي ينسي أحزانه عليهم! فلعلك تقصدين بذلك أن يواجه الإنسان واقعه المؤلم ويعترف به ويسلم بعجزه عن تغييره, ويلتمس لنفسه بعض السلوي والعزاء عنه في استرجاع ذكري الأحباء الراحلين وإحياء ذكراهم في قلبه واسترواح نسائم الراحة في تخيلهم ومعايشتهم في وجدانه من حين لآخر تأكيدا للمعني الذي يقول إن من يرحلون عنا لايموتون حقا حين نفقدهم, وإنما حين ننساهم.
وذلك بديلا عن الهروب من الواقع أو إنكاره أو السخط عليه دون اية قدرة علي تغييره مما يطيل من الأحزان ويكرس النقمة ويؤخر لنفسه التخلص من الأحزان.. ويؤثر بالسلب علي قدرة الإنسان علي التواصل مع الحياة, فإذا كان ما فهمته من نصيحتك هذه صحيحا فلعلها إذن تكون نصيحة مفيدة ومكتسبة من واقع خبرة الألم الشخصية.. ولا ينبئك مثل خبير.
فأما النقطة الأخري التي استوقفتني في رسالتك وأثارت تأملاتي فهي خوفك القديم من الموت ونفورك منه وفرارك من كل ما يذكرك به فرار السليم من الأجرب.. فإذا بك وكما تقولين في رسالتك تحملينه بين يديك وتسلمين بأنه لا مهرب منه ولا فرار مهما حثثنا الخطي بعيدا عنه!
ناهيك عن جفاف اللبن من صدرك قبيل ساعات من رحيل الوليد الذي كان يتغذي عليه ودون سبب عضوي واضح.. فكأنه إشارة من السماء إلي قرب الرحيل, أو كأنه استشراف قدري لما سوف تمضي إليه الأمور.
فالحمد لله الذي أخرجك من أحزانك وعوضك عمن فقدت, وأوقف صوت الطاحونة التي كانت تهدر في صدرك بالحزن والألم ولسعة الفراق بعد حلول القضاء, وإني لأرجو لك الله ـ سبحانه وتعالي, أن يحفظ عليك ابنتك ويطمئن قلبك الواجف علي مستقبلها الآمن والسعيد بإذن الله.. وشكرا لك علي رسالتك التي تضمنت الكثير مما يثير التأمل ويحرك الشجون, وعلي رغبتك الإنسانية في التخفيف عن كاتبة الرسالة الأولي وطرحك لتجربتك الشخصية عليها وعلي الآخرين.
لطفا .. قم بمشاركة الموضوع لعله يكن سببا في حل أزمة أو درء فتنة …