من هنا وهناك

قصة حياة جيفارا || الجزء الثالث

نجحت الثورة .. كان هذا حلماً بعيد المنال من سنتين فقط .. و صار أبعد حين تقلص جيش الثورة إلى 17 فرداً فقط من أصل 82 .. كان هذا مخيباً للآمال و حتى الآن كثيرين من الخبراء العسكريين غير مصدقين للإنجاز الذى تم فى كوبا على يد كاسترو و جيفارا .. على كل حال نجحت الثورة .. السؤال الآن هو ماذا بعد ؟ جيفارا ليس كوبياً .. فلماذا يستمر معنا ؟ 

الإجابة كانت أسهل مما تتخيل .. إذا كان ليس كوبياً فلنجعله كوبياً .. صدر قانون يقضى بإعطاء الجنسية الكوبية لكل من حارب مع جيش الثورة و كان برتبة عقيد .. بالطبع لم توجد تلك المواصفات إلا فى شخص واحد .. جيفارا .. تم حل مشكلة الجنسية .. ماذا بقى لدينا للإحتفاظ برجلنا ..

نعم .. بعض المهام الإدارية التى تضع رجلاً ضحى بحياته من أجل بلدنا فى الوضع الذى يليق به .. قائد سجن قلعة لاكابانيا كبداية و معها مهمة محاكمة المتورطين فى جرائم ضد الإنسانية ممن كانوا مؤيدين لباتيستا .. مهمة شاقة بالتأكيد لكنها لن تكون أشق على تشى مما مر به أخر سنتين .. جيفارا كان لها بالتأكيد ..

طبَق تشى مبادىء العدالة الثورية فى المحاكمات دون إهمال مبادىء المحاكمات المدنية فكان لا يحكم بالإعدام جزافاً و تم تحقيق فعلى فى الجرائم و ليس تحقيق صورى لاستيفاء الإجراءات .. من تورط فى قتل أفراد من الشعب أو تعذيبهم أو إصابتهم بعاهات مستديمة هم فقط من حكم عليهم بالإعدام أما الباقيين فتم سجنهم بمدد مختلفة ..

عدد القتلى مختلف عليه و لكن العدد بكل حال من الأحوال لم يتخطى المئات و مقارنة بضحايا هؤلاء القتلى فالعدد يعتبر قليلاً .. ضحايا ذلك الديكتاتور وصلوا إلى أكثر من 20 ألف ضحية .. أنجز تشى أول مهامه الإدارية بنجاح .. حان الآن وقت توليه منصب جديد ..

منذ عام 1958 أى قبل نجاح الثورة بأكثر من عام كان جيفارا يعيش مع إيليدا مارش و هى مواطنة كوبية عضوة فى حركة 26 يوليو و التحقت بجيش الثورة .. تم الإنفصال من زوجته الأولى هيلدا جاديا بهدوء و تبعه مباشرة بالزواج من إيليدا ..

كان هذا فصلاً جديداً فى حياة جيفارا و على الرغم من أن كوبا كانت تعيش فى مرحلة سلام إلا أن عائلته جائت أيضاً فى المرتبة الثانية .. جيفارا أعطى كل وقته تقريباً للنهوض بالدولة .. و فيديل استغل ذلك لأقصى درجه .. تم إعطاءه منصب مبعوث كوبا إلى الخارج و بهذا المنصب كان يعقد الإتفاقات الخارجية و يلقى الخطابات فى الأمم المتحدة و الأهم تعريف العالم بوجه كوبا الجديد ما يزيد من دعم العالم للنظام الحاكم .. جيفارا كانت له كاريزما كبيرة و هذا أفاد كوبا بشدة ذلك الوقت ..

نجاحات جيفارا لم تقف عند تلك الحدود .. فيديل كاسترو كان يعول عليه كثيراً حتى إنه وضعه فى أكثر من منصب فى نفس الوقت .. بخلاف ما سبق فقد عينه رئيساً للبنك المركزى الكوبى و مسئولاً عن ملف العدالة الإجتماعية و وزيراً للصناعة .. رجل متعلم .. متقد الذكاء .. فائض الحماس .. مؤمن بالقضية .. فلم لا يستغله كاسترو .. جيفارا كان كالدجاجة التى تبيض ذهباً لكوبا كلها و ليس لكاسترو وحده ..

فى ملف العدالة الإجتماعية مثلاً أصدر قانون الإصلاح الزراعى محاولاً إعادة توزيع الأراضى الزراعية على الفلاحين الكوبيين و بنص القانون صار يمنع على أى شخص أو مؤسسة حيازة أكثر من 1000 فدان و ما زاد عن ذلك تمت مصادرته و إعادة توزيعه على الفلاحين بمعدل 67 فدان لكل فلاح بالإضافة لتأميم زراعة قصب السكر و قصرها على المواطنين الكوبيين فقط و عدم السماح للأجانب بالإستثمار فيها .. قصب السكر كان المحصول التجارى الأول فى كوبا .. لمسات جيفارا الماركسية بدأت فى الظهور ما استدعى بكل تأكيد وجود معادين لها .. 

كل من تضرر من أسلوب إدارته للملف الإقتصادى صار عدواً للشيوعية .. منهم من كان معروفاً مثل هوبر ماتوس زعيم المتمردين على نظام كاسترو أو حتى الإقطاعيين و الأثرياء الذين تضرروا من مصادرة ممتلكاتهم .. و منهم من عمل فى الخفاء مثل ديكتاتور الدومينكان رافاييل تروخييو الذى قدم الدعم لميليشيات مسلحة مناهضة للثورة الكوبية و سمح لها بالتدريب على أرض الدومينكان و أمدها بالسلاح لتنفيذ عملياتها على أرض كوبا .. سياسة أسفرت عن أحد العلامات الفارقة فى حياة جيفارا .. جيفارا بالأساس كان بطلاً محبوباً فى كوبا و لكن ما حدث جعله محبوباً فى نظر العالم .. 

فى 4 مارس 1960 تم تفجير سفينة الشحن الفرنسية لاكوبر عن طريق ميليشيات تروخييو .. السفينة كانت محملة بذخائر بلجيكية و كانت ترسى فى ميناء هافانا .. إنفجار أسفر عن مقتل قرابة الـ 100 فرد و أصاب المئات .. كارثة كانت كبيرة بلا شك ..

رائج :   سيرة سيف الله المسلول خالد بن الوليد (رضي الله عنه) || الجزء الخامس

فى اليوم التالى ظهر فيديل كاسترو و مجموعة من قادته و على رأسهم جيفارا متأبطين أذرع بعضهم البعض و يسيرون فى صدارة الموكب الجنائزى .. لا حاجة لأن أخبركم أن أكثر شخص ظهر متأثراً بالفاجعة كان جيفارا .. تأثره و حزنه الواضحين ترك إنطباعاً لدى العالم بمدى نبل هذا الرجل ..

رجلاً غير كوبى يظهر متأثراً حتى أكثر من الكوبيين أنفسهم .. هذا رجلاً فريد من نوعه .. ساهم فى ترك ذلك الإنطباع الصورة التى إلتقطت له ذلك اليوم و إعتبرت أحد أشهر الصور فى العالم و من أكثرها تأثيراً و بالطبع أشهر صور تشى قاطبة .. سميت تلك الصورة بجيريليرو هيروويكو أو زعيم حرب العصابات .. تم تخليد تشى عن طريق تلك الصورة بالتأكيد ..

جيفارا وزيراً للصناعة .. بهذا المنصب صار يتحكم فى الإقتصاد بالكامل .. حاول زرع النزعة الإشتراكية فى نفوس الشعب و حاول بناء الرجل و المرأة الجديدين الذين يؤمنون بالشيوعية كمبدأً و يرفضون الرأسمالية بشكل جذرى .. كان يعمل لمدة 36 ساعة متواصلة فى بعض الأحيان .. عمل بيده فى مجالات عدة مثل البناء أو العمل كمزارع فى مزارع قصب السكر .. عمل بالمصانع ..

رائج :   كيف تتخلص من فيروسات الكمبيوتر … بالعقل

حاول تقديم المثل للعمال على الإجتهاد .. على الرغم من أن هذا النظام فشل مع الوقت لأن النظام كان يقضى بوجوب تحقيق إنتاجية معينة و إن تحققت فلا وجود لحوافز مالية أو أى زيادة فى الأجر و فى حالة فشل تحقيق تلك النسبة كان يتعرض العمال لخصم جزء من أجرهم .. ذلك أفقد العمال الطموح فى تحقيق ما كان مطلوباً منهم و رفع نسبة الغياب فى المصانع .. سياسة كانت خاطئة بالتأكيد لأن جيفارا حاول تطبيق الشيوعية و كأنه يعيش فى الجنة لا على الأرض .. 

على الرغم من فشل سياسته الصناعية إلا أن له نجاح يذكر حين كان رئيساً للبنك الوطنى .. إستشعر تشى توتر الأجواء بين كوبا و بين الولايات المتحدة و أمر بنقل الإحتياطى الذهبى الكوبى من فورت نوكس و هى الخزانة الأمريكية الرئيسية لتجميع ذهبها و ذهب المستثمرين الأجانب فى الولايات المتحدة .. ذلك القرار أنقذ كوبا من الإفلاس حين أقدمت أمريكا على تجميد أرصدتها لديها ..

جيفارا تدريجياً يصير عدواً للولايات المتحدة .. كوبا لم تنصاع للإمبرالية الأمريكية .. يجب تغيير نظامها الحاكم بأى شكل إن لم يكن عن طريق تدبير إنقلاب داخلى فسيكون عن طريق قوى خارجية .. تم التدبير لغزو كوبا عن طريق تدريب حوالى 1600 فرد من الميليشيات الكوبية المنفية و تزويدهم بالأسلحة و إنزالهم على ساحل خليج الخنازير فى كوبا بل و مسانداتها بالطيران أيضاً ..

كل هذا تم تحت رعاية الولايات المتحدة و ذراعها الإستخباراتى الـ CIA .. محاولة إنقلاب كاملة و لكنها فشلت فى تغيير النظام فى كوبا و تم أسر 1179 فرد من المعتدين و الإستيلاء على 5 دبابات شيرمان و 10 سيارات نقل عسكرية و إغراق 4 سفن و إسقاط 12 طائرة قتالية بخلاف عدد كبير جداً من الأسلحة و الذخائر و المضادات ..

رائج :   مؤسسي عملاق البحث Google سيرجي برين ولاري بيدج … كيف بدأت الرحلة العظيمة ..

إنتصاراً أصاب الولايات المتحدة بالصدمة .. اتهمتها كوبا فى الأمم المتحدة عن طريق وزير خارجيتها بتدبير الإنقلاب فلم تستطع الإنكار .. جدير بالذكر أن جيفارا لم يشترك بشكل مباشر فى صد ذلك الغزو لكنه على كل حال كان قائد الجيش و كل ما تم كان تحت إدارته و جيش الثورة نفسه كان يتدرب على يديه ..

إنتصاراً جعل جيفارا يتهكم على الولايات المتحدة فى المحافل الدولية و إمعاناً فى السخرية أرسل مذكرة إمتنان للرئيس الأمريكى جون كينيدى يشكره على حادثة خليج الخنازير لأنه ساهم فى رفع الروح المعنوية للشعب الكوبى ..

أزمة الصواريخ الكوبية

جيفارا كان لا يألو جهداً فى النيل من الولايات المتحدة .. ظهر ذلك بوضوح أكبر فى أزمة الصواريخ الكوبية .. كوبا كانت تعتبر حامية سوفيتية و السلاح السوفييتى كان يصل بإنتظام إلى هافانا و لكنه سلاح تقليدى فى النهاية .. أراد جيفارا الوصول لعنصر تفوق على الأرض .. إتفق مع الإتحاد السوفييتى على إنشاء قواعد لصواريخ نووية على أراضيها رداً على الولايات المتحدة الأمريكية التى نشرت صواريخ مماثلة فى بريطانيا و إيطاليا و تركيا ..

أثار هذا أزمة دبلوماسية كادت أن تسفر عن حرب نووية و لكن تم نزع فتيلها فى النهاية .. تعامل جيفارا مع الوضع بحسن نية .. هو تعامل على أساس أنها مساندة لقطب الشيوعية الأكبر فى العالم فى حين تعامل الإتحاد السوفييتى مع كوبا على أنها قطعة شطرنج يسعى عن طريقها لتسوية جيدة مع الولايات المتحدة ..

تم الاتفاق بالفعل بين البلدين على تفكيك نظامهم الصاروخى فى كوبا و فى تركيا و إنجلترا و إيطاليا .. نال الإتحاد السوفييتى ما أراد .. و فى المقابل شعر تشى بالخيانة .. شعر بالتشكك فى شيوعية الإتحاد السوفييتى .. كان يبحث عن الحرب .. كان عنده إيمان شديد بالشيوعية و أنه فى حالة قيام حرب نووية بين التوجهين فإن الشيوعية ستنتصر بلا شك ..

مع تلك السقطة من وجهة نظره رأى أنه لا يوجد جديد لتحقيقه فى كوبا .. ثوريته تدفعه دفعاً لتحدى جديد .. هو لا يجيد فى الأعمال الإدارية و غير مفيد بشكل كبير فى حالة السلم .. رأى أنه قدم ما لديه إلى كوبا و شعبها .. 

– ماذا بعد ؟! بالتأكيد هناك شعوباً أخرى تحتاجه .. 

  • قريباً جداً سيتخذ قراره بالرحيل .. 
  • إيليدا مارش أنجبت له 4 أطفال ..
  • من المفترض أن هذا يبقيه فى أرض الوطن ..
  • لكن منذ متى تأتى أسرته فى المقام الأول ..
  • قريباً جداً ستستمر رحلة الثائر بلا وطن ..
  • قريباً جداً سيترك كل شيىء خلف ظهره .. 
    و يمضى ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *