التعليم وسنينهكتابات د : أحمد خالد توفيقمن هنا وهناك

ماحدش يعلمني غلط .. || من كتابات د : أحمد خالد توفيق

نُشر في: 21 نوفمبر 2010

لابد أنك جربت هذه التجربة أو تذكرها منذ أيام المدرسة .. هات طبقًا مليئًا بالماء وثبت شمعة فيه.. ثم أشعل الشمعة واقلب كوبًا منكسًا فوقها .. سوف تبقى مشتعلة بضع ثوان ثم تخمد ويمتلئ الكوب بالدخان الأبيض ويرتفع الماء فيه .. لماذا حدث هذا ؟…

كل الناس تعتقد وكل الكتب المدرسية تفسر ما حدث بأن النار استهلكت الأكسجين في الكوب مما أدى إلى دخول الماء إليه ليملأ نفس الحيز وهو حوالي الخمس.. هذا ما وجدنا عليه آباءنا وهذا ما علمته لابني .. إلى أن وقع في يدي كتاب (الفيزياء المسلية) لكاتب روسي مشاغب هو (ياكوف بريلمان) مشكلته في الحياة هي أن يخبرك بأنك – البعيد – لا تفهم ..

بريلمان يقول إن هذه التجربة وصفها الفيزيائي القديم فيلون البيزنطي منذ ألفي عام وقد فسرها بشكل صحيح .. يمكن أن تتم التجربة لو اكتفينا بتدفئة الكوب من دون نار، أو لو استعملنا قطنة مبتلة بالكحول تشتعل وقتًا طويلاً.. فالماء عندها سوف يصل لنصف الكوب وليس لخمسه .. ثم أن الأكسجين المحترق لن يختفي من الوجود بل سيخلف ثاني أكسيد كربون .. إذن ليس الموضوع هو احتراق الأكسجين لكنه ارتفاع حرارة الهواء بالكوب مما يؤدي لنقص ضغطه وبالتالي يندفع الماء للداخل تحت تأثير الضغط الجوي ..

هل تريد المزيد ؟.. مثلاً لا يوجد شيء يدعى قوى الطرد المركزي التي تتخيل أنها هي ما يقذف بك من باب السرفيس عندما يدور به السائق المسجل خطر بسرعة في المنحنى .. ما يحدث هو قوة القصور الذاتي تتحرك على مماس دائرة .. طبعًا هذا لن يهمك وأنت تطير في الهواء لتضرب الرصيف لكن يجب أن تعرف اسم القوة التي جرحتك أو فتحت دماغك..

رائج :   شباب عاوز الحرق .. || من كتابات د : أحمد خالد توفيق

في طفولتي كنت أريد أن أكون ضابطًا ثم كبرت فتمنيت أن أكون طبيبًا وكبرت أكثر فتمنيت أن أكون مفتشًا في الرقابة الإدارية (وهذه ليست دعابة) !… احتجت إلى أربعين عامًا كي أفهم أن مهنة المدرس هي أهم مهنة في الكون، وأن المدرس هو من يصنع الضابط والطبيب ومفتش الرقابة الإدارية ..

أنا قد تعلمت على أيدي أفضل معلمين على الإطلاق عندما كاد المعلم أن يكون رسولاً فعلاً.. كانوا يخافون الله ويراعون ضميرهم ولولا أننا كنا مراهقين قليلي الأدب لقبلنا أيديهم صباحًا ومساء، لكنهم لم يفطنوا هم أيضًا لمعنى اختبار المعلومة وتفنيدها .. اذكر كيف أن مدرس العلوم لوح بالخيرزانة في الهواء وقال لنا: “ج = م X ت .. حد عنده اعتراض ؟”
هكذا ثبتت المعلومة في أذهاننا للأبد !!.. الجهد يساوي حاصل شدة التيار في المقاومة بلا تجارب ولا وجع دماغ .. ولم نتساءل قط لماذا؟.. ولم نتخيل ماذا لو لم يساو جيم ميمًا في تاء ؟ ..

هناك مشكلة حقيقية في فلسفة التعليم في مصر هي أعمق من مشاكل الدروس الخصوصية والسنة الابتدائية السادسة .. التلقين هو الأساس ولا يتم أبدًا البحث عن المعلومة بشكل جدلي .. حتى هذا التلقين قد يكون خطأ كما رأينا في المثال الأول لأن كل الكتب المدرسية تصر على أن نقص الأكسجين هو السبب، بينما فهمها فيلون البيزنطي منذ عشرين قرنًا ..

رائج :   لا تقرأ هذا المقال .. || من كتابات د : أحمد خالد توفيق

هذا يؤدي إلى أن الطريقة العلمية ذاتها مهتزة لدى الكثيرين .. بل لدى من يفترض منهم أن يعلموا الطريقة العلمية ذاتها .. لا أفشي سرًا إذا قلت أن أكثر أعضاء التدريس – باستثناء من هم مختصون بهذا – لا يفهمون مبادئ الإحصاء ولا كيفية تصميم بحث علمي .. 
هذا كلام مهم جدًا، وأراه السبب الوحيد الذي يجعل أمريكا قادرة على ضربنا بالجزمة .. بعبارة أخرى هم هزمونا بأفكار (كانط) و(ديكارت) . بطريقتهم العلمية وفهمهم الصحيح للبحث العلمي..

عندما دخل عقار (دي دي بي DDB) مصر – وهو ما يطلقون عليه (الحبة الصفراء) – قرأت بحثًا طريفًا يحمل اسم وزارة الصحة قامت فيه بالتالي: أعطت العقار لمجموعة مرضى بالتهاب الكبد (سي) ثم لاحظت وظائف الكبد ونسبة الفيروس في الدم لعدة أشهر ووجدت تحسنًا ملحوظًا !.. بس كده

هنا تشد شعر رأسك .. ألم يسمع هؤلاء عن مجموعة ضابطة ؟.. مجموعة لا تتلقى علاجًا أو تتلقى علاجًا مختلفًا أو تتلقى علاجًا وهميًا اسمه (البلاسيبو).. لابد من مجموعة ضابطة لتقارن النتائج أما البحث بهذه الصورة فلا يجرؤ تلميذ في الصف الثالث الإعدادي على تقديمه لمعلمه ..

عندما اكتشف (رو) مضاد الدفتريا السمي جاء بمجموعتين من مرضى الدفتريا .. حقن أطفال المجموعة الأولى ولم يعط شيئًا لأطفال المجموعة الثانية .. بدأ أطفال المجوعة الأولى يشفون على حين تدهور أطفال المجموعة الثانية .. هنا لم يتحمل قلبه الرحيم أكثر .. لا يمكن أن يقتل الأطفال لمجرد البحث العلمي .. هكذا قام بحقن نفس المضاد لأطفال المجوعتين .. شفي البعض ومات البعض..

رائج :   قصة التلميذ الذي لم تكن تحبه معلمته

لكنه جاءت اللحظة المحتومة عندما جلس كالديك المبتل أمام أستاذه العظيم (كوخ)… القيصر كوخ .. سيد العلم الألماني الصارم .. حكى له ما فعله فكان رد كوخ القاسي هو: لقد سمحت لقلبك بأن يفسد التجربة وبهذا جنيت على ملايين الأطفال الذين سيصابون بالدفتريا في المستقبل .. هؤلاء سيموتون لأنك لم تكمل تجاربك كما يجب ولأن العالم افترض أن علاجك فعال وآمن .. من أدراك أن الأطفال الذين شفوا شفوا بفضل علاجك ؟… لماذا لا يكونون قد شفوا من تلقاء أنفسهم ؟.. أحيانًا تتصرف الدفتريا بهذا الشكل وتشفى بلا علاج .. ربما لو استكملت التجربة للنهاية لوجدت أن عقارك غير ذي جدوى !

كان هذا هو كوخ العظيم يتكلم .. يتكلم فلم نصغ له ولم تصغ له وزارة الصحة في بحثها الذي بالتأكيد تكلف الكثير ..

لو تعلمنا طريقة التفكير العلمية لكففنا عن الذعر المضحك من كسوف الشمس كما حدث منذ أعوام، ولكففنا عن الالتفاف حول بائع دائرة الاستقبال السحرية التي تعمل (بنظرية الأيونات) عند محطات المترو، دون أن يعرف هو ولا أنت معنى نظرية الأيونات هذه .. هذه هي قشرة العلم لا العلم نفسه، مثلما تستعمل برامج المسابقات التلفزيونية الكمبيوتر كمجرد وسيلة إيضاح ملونة رخيصة، لكن الصورة من بعيد ترضي المسئولين: لقد صرنا نجري المسابقات بالكمبيوتر !.. ولكففنا عن تصديق طب الأعشاب غير المجرب .. لو تعلمنا طريقة التفكير العلمي لعرفنا لماذا تساوي جيم ميمًا في تاء …!

مقالات ذات صلة