شاعر اللافتات أحمد مطر
نظرًا لحياته المحفوفة بالغموض واختفائه عن الأعين حتى في البلاد التي اغترب فيها؛ إلى جانب سُبُل الخفية والسريّة التي تمت بها نشر وانتشار شعره وأعماله فـ تارة يعتقد البعض أن اسم «أحمد مطر» هو اسم مُستعار؛ وتارة ينسبونه إلى جنسياتٍ عربية مختلفة؛ فـقد كان شعر أحمد مطر مُطاردًا منفيًا كـ قائله.
. إلا أن الشاعر قد أكد أن اسمه ليس مستعارًا في أكثر من مناسبة، وبيَّن حقيقة جنسيته -وفق بطاقة الهوية والجنسية- وأنه ينتمي إلى العراق، الذي يمثل جزءًا من وطنه الكبير الممتد من المحيط إلي الخليج.
أنا شاعرٌ حُـرٌّ أُعاني
من حُرقةِ الآباءِ أَقتبسُ المعاني
ومِدادُ أشعاري تقاطَرَ
من دموعِ الأمهاتْ
فمتى ستوحي بالهوى شفةُ الهوانِ؟
ومتى ستطلعُ وردةُ الآمالِ
في تلكَ الدواةْ؟
طفولة متغنية بالفطرة والطبيعة
بين واحات النخيل الواسعة بـ قرية «التنومة» الواقعة على ضفاف شط العرب بـ محافظة البَصرة جنوب العراق؛ وُلد أحمد مطر في عام 1954 لأسرةٍ فقيرة كـ ابن رابع يتوسط عشرة من البنين والبنات؛ ليشب طالبًا بـ مدرسة الأصمعي الإعدادية وفيها بدأ يُسطِّر أولى كلماته ليبدأ طريقًا طويلًا تمتد على جوانبه معاني الغربة والتمرد والثورة.
وهي كما يصورها بلد تنضج بساطةً ورقةً، وطيبةً، وفقرًا، مطرزةً بالأنهارِ والجداولِ وبيوتِ الطينِ والقصب، والبساتين، وأشجار النخيل التي لا تكتفي بالإحاطة بالقرية، بل تقتحم بيوتها، وتدلي سعفها الأخضر واليابس ظلالًا ومراوح، وقد عاش طفولته بالقرب من «بستان صفية»، و «نهر الشعيبي»، وغابات نخيل «كرولان»، التي تشكل أهم عناصر القرية في وجدانه.
قد يهمك: اعترافات صادمة من عمر الشريف عن جيفارا
انبلاجات الوعي ومطاردة الواقع
وقد أمضى الشاعر طفولته وصباه في أحضان الفقر المدقع والحرمان والتعثر بالدراسة، فلجأ إلى مطالعة الكتب ليهرب من مطاردة الفاقة والإرهاب، ويُكون من خلالها سلاح الكتابة والإبداع دفاعًا عن نفسه.
وفي سن الرابعة عشر في أوائل السبعينيات بدأ يكتب الشعر، ولم تخرج قصائده الأولى عن نطاق الغزل، والرومانسية، لكنه سرعان ما تكشفت له خفايا الصراع بين السلطة والشعب، من خلال عيون الناس وأحاديثهم والصحف والكتب والإذاعة والتلفزيون، ومن خلال ما يراه من رقابة المخبرين ورصدهم لكل صغيرة وكبيرة، فالمخبر في العالم كله سري إلا في العالم العربي، يصفه أحمد مطر في إحدى الأمسيات الشعرية، كما كان يراه، جالسًا في المقهى في حلكة الليل، ومُظهرًا مقبض مسدسه من فتحة السترة، ومغرقًا وجهه في الصحيفة، متواجدًا في كل يوم، يتقدم من المواطن واضعًا سيجارته بين شفتيه قائلًا بكبرياء:
«عندك ولعة؟»، وعندما يتنهد المواطن المهموم قائلًا: «عندي لوعة»، يهب لتأدية واجبه، فيقبض عليه بتهمة شتم الحكومة، وعندما يسأله المواطن: «وبأي صفة تقبض علي؟»، يبتسم ابتسامة صفراء، ويقول: «أنا شرطي سري!»، وقد اكتشف الشاعر مرارة الواقع من خلال ما عاينه من مرارة التحقيق، وقسوة التعذيب في زنازين المعتقل، الذي ينتهي عادة باعتذار عن الخطأ غير المقصود.
ولذلك ما كان من الشاعر إلا أن ألقى بنفسه في فترة مبكرة من عمره في دائرة النار، حيث لم تطاوعه نفسه على الصمت، ولا على ارتداء ثياب العرس في المأتم، فدخل المعترك السياسي من خلال مشاركته في الاحتفالات العامة بإلقاء قصائده من على المنصة، وقد كانت هذه القصائد في بداياتها طويلة، تصل إلى أكثر من مائة بيت، مشحونة بقوة عالية من التحريض، تنتقل من موضوع إلى آخر، تتمحور حول موقف المواطن من سلطة لا تتركه ليعيش، وقد دفع الشاعر ثمن هذا الموقف من خلال مساءلته والتحقيق معه، مما قاده في النهاية إلي الهرب من مطاردة السلطة.
تعرض أحمد مطر لتجارب عقابية استثنائية شنيعة؛ كانت أولاهم عندما كان طالبًا صغيرًا في المدرسة حيث طُلب منه أن يُنشد شعرًا بـ مناسبة احتفالات تموز لكنه رفض فـ تم سجنه؛ بعد ذلك خاض تجربة من أبشع التجارب حيث فقد شقيقه الذي أُعدم في عهد صدام حسين؛ فاضطر للهرب من وطنه ولم يجد إلا الكويت ليدخلها لاجئًا طريدًا مُطاردًا.
أحمد مطر لاجئًا في الكويت
وهناك واجه حياة اللاجئ، الذي لا يسهل عليه أن يثبت هويته، فقد عاش هناك عدة سنوات لا يستطيع الحصول على رخصة القيادة، لأنه يرفض التنازل عن مواقف مبدئية كثمن للحصول على حقه الطبيعي في الحصول على أوراق رسمية تثبت هويته، وتُسهل عليه الحصول على رخصة القيادة، ولذلك راح يسير على قدميه في بلد يمكن لأفقر كادح فيه أن يمتلك سيارة، وقد عاش في بيت متواضع يكلفه إيجاره نصف راتبه .
ثم راح يعمل في جريدة «القَبَس» الكويتية محررًا أدبيًا وثقافيًا، حيث مضى يدون قصائده، التي أخذ نفسه بالشدة من أجل ألا تتعدى موضوعًا واحدًا، وراح يكتنز هذه القصائد، وكأنه يدون يومياته في مفكرته الشخصية، لكن سرعان ما أخذت قصائده طريقها من المفكرة إلي النشر الصحفي، حيث كانت القبس الثغرة التي أخرج الشاعر منها رأسه، وباركت انطلاقته الشعرية الانتحارية، وسجلت دون خوف لافتاته الشعرية، وساهمت في نشرها بين القراء.
شاعر اللافتات
كان أحمد مطر الرائد الطليعي لفنٍ أدبي جديد من نوعه ألا وهو «اللافتات» التي شبَّعها ونقحها بـ نقده وتوثيقه لمنعطفات الوطن العربي؛ ليصير بعد سنوات شاعر التمرد والثورة التي تُرفع كلماته على لافتات النضال. غلب على هذه اللافتات نبرة التمرد والاحتجاج ضد الديكتاتورية والإجحاف اللذين عانى منهما أحمد مطر وشعبه.
يقول بروفيسور «عبد المنعم الشويلي» الحاصل على دكتوراة في شعر أحمد مطر:
تُحمل اللافتات غالبًا لـ تأييد شيء؛ بينما حمل أحمد مطر لافتاته لـ ضرب هذا الشيء
وُضعت لافتات أحمد مطر بالصفحة الأولى في جريدة القَبَس وكانت ظاهرة جديدة في الصحافة العربية.
وصارت لافتاته أشبه بافتتاحية تُنشر على الصفحة الأولى في القَبَس وأصبح الناس يترقبون موعد صدورها ويتداولونها. كانت أول لافتة تم نشرها لأحمد مطر في جريدة القَبَس في أغسطس عام 1980 وكانت بـ عنوان « قصة عبَّاس»
قصة عبَّاس لأحمد مطر
عَبّاسُ وَرَاءَ المِتْرَاسْ
يَقِظٌ مُنْتَبِهٌ حَسَّاسْ
مُنْذُ سِنِينِ الفَتْحِ يُلَمِّعُ سَيْفَهْ
وَيُلَمِّعُ شَارِبَهُ أَيْضَاً .. مُنْتَظِراً مُحْتَضِناً دُفَّهْ
***
بَلَعَ السَّارِقُ “ضَفَّةْ”
قَلَّبَ عَبَّاسُ القِرْطَاسْ
ضَرَبَ الأَخْمَاسَ لأَسْدَاسْ
بَقِيَتْ “ضَفَّةْ”
لَمْلَمَ عَبَّاسُ ذَخِيْرَتَهُ وَالمِتْراسْ
وَمَضَى يَصْقِلُ سَيْفَهْ
***
عَبَرَ اللِّصُّ إِلَيْهِ وَحَلَّ بِبَيْتِهْ
أَصْبَحَ “ضَيْفَهْ”
قَدَّمَ عَبَّاسُ لَهُ القَهْوَةْ .. وَمَضَى يَصْقِلُ سَيْفَهْ !
***
صَرَخَتْ زَوْجَتَهُ: عَبَّاسْ .. !
ضَيْفُكَ رَاوَدَني عَبَّاسْ !
أَبْنَاؤُكَ قَتْلى عَبَّاسْ !
قُمْ أَنْقِذْني يَا عَبَّاسْ !
عَبَّاسُ اليَقِظُ الحَسَّاسْ مُنْتَبِهٌ لَمْ يَسْمَعْ شَيْئًا
زَوْجَتُهُ تَغْتَابُ النَّاسْ
صَرَخَتْ زَوْجَتُهُ: عَبَّاسْ .. !
الضَّيْفُ سَيَسْرِقُ نَعْجَتَنَا
قَلَّبَ عَبَّاسُ القِرْطَاسْ
ضَرَبَ الأَخْمَاسَ لأَسْداسْ
أَرْسَلَ بَرْقِيَّةَ تَهْدِيدْ !
***
– فَلِمَنْ تَصْقُلُ سَيْفَكَ يَا عَبَّاسْ ؟
– لِوَقْتِ الشِّدَّةْ .
– اصْقُلْ سَيْفَكَ يَا عَبَّاسْ!
كان التركيب الفني للافتات أحمد مطر أقرب لقصائد الهايكو اليابانية حيث كانت تجسد فكرة واحدة ربما رسالة سياسية أوثقافية لـ يخاطب بها القارئ العربي؛ فـ قد كان اهتمام أحمد مطر الاجتماعي والسياسي يتغلّب على اهتمامه الفني المُجرد؛ فقد كان يؤمن بـ أن الشعر هو أن يكتب بـ لسان الواقع وينبض بـ أوردته وينتفض بها ومعها؛ وليس فقط أن يُبدع في بلوَرَة تابلوه لفظي مُزخرف مُتأنق.
مسودة بـ خط أحمد مطر
فقد كان الوصف الأدق والأمثل للافتات مطر هو أنها «قصيرة موجعة»؛ تحمل من البراعة اللغوية والمعنوية ما تستغني به عن الاستفاضة في التعبير والاستطراد في الجمل، فـ قد نجح أحمد مطر في استيلاد جُملٍ قصيرة قوية مخترقة للعقل والكيان والشعور تقطر نقعًا من السُخرية والكوميديا السوداء، كما كانت لسان حال ونبض كل عربي.
وصفوا لي حاكمًا
لم يَقترفْ، منذُ زمانٍ،
فِتنةً أو مذبحهْ !
لمْ يُكَذِّبْ !
لمْ يَخُنْ!
لم يُطلقِ النَّار على مَنْ ذمَّهُ !
لم يَنْثُرِ المال على من مَدَحَهْ !
لم يضع فوق فَمٍ دبّابةً!
لم يَزرعْ تحتَ ضميرٍ كاسِحَهْ!
لمْ يَجُرْ!
لمْ يَضطَرِبْ !
لمْ يختبئْ منْ شعبهِ
خلفَ جبالِ الأسلحهْ !
هُوَ شَعبيٌّ
ومأواهُ بسيطٌ
مِثْلُ مَأوى الطَّبقاتِ الكادِحَةْ !
زُرتُ مأواهُ البسيطَ البارِحةْ
وَقَرأتُ الفاتِحَةْ !
طُبع ديوانه الذي طبعته الكويت في المغرب العربي أكثر من مليون نسخة والذي بلغ حوالي مليون ومائتين ألف نسخة وتم توزيعه في الجزائر والمغرب ومن ثم بدأت شهرة أحمد مطر تنتشر في البلاد العربية.
لاحقت أصوات الرفض أحمد مطر ولم يكن قد أصدر سوى ديوانه الأول في وقت اشتدت فيه سطوة الرقابة والساعين لـ قمع مثل ظاهرته الحرة؛ فـ وصل المدى لتدوال قصائد أحمد مطر سرًا مثل البيانات السياسية وكانت ذات تأثير كبير ثقافيًا وسياسيًا. تم توزيع ونشر مجموعته الشعرية الأولى «اللافتات» من خلال نسخها وتوزيعها سرًا وذلك لأنها كانت ممنوعة في 20 دولة عربية.
يصرح مدير مركز المعلومات والدرسات بـ جريدة القَبَس «حمزة عليان»:
لافتات أحمد مطر كانت تخضع للرقابة مرتين؛ مرة من قِبل جهاز الرقابة الموجود بـ كل الصحف في الكويت التابع لوزراة الإعلام، والمرة الثانية من قبل رئيس التحرير؛ بـ حيث أن هذا الرجل كان يرمي قذائفه في وجوهنا وعليك أنت أن تتولى المسؤولية؛ وهنا أتذكر شيء جميل كـ موقف من قبل الشاعر أحمد مطر فـ قد كان يرفض تغيير النقطة والفاصلة؛ إما أن تُنشر اللافتة كاملةً أو تُحذف كاملةً
كانت لافتات أحمد مطر منتفضة بالرفض والتنديد بالظلم تارة وبـ قمع وتضييق مساحة الحرية التي اعتادها تارةً أخرى إلى أن قرر التمرد والثورة على تلك القيود رغم مكانة القَبَس في قلبه فـ كتب لافتته الشهيرة «حيثيات الاستقالة»
أيتها الصَحيفةْ
الصِّدْقُ عندي ثورةٌ
وكِذبتي
إذا كَذَبتَ َمرَّةً
ليستْ سوى قذيفةْ !
فلتأكلي ما شئتِ ، لكنِّي أنا
مهما استبدَّ الجوعُ بي
أرفضُ أكلَ الجِـيفَةْ
أيتُها الصحيفةْ
تمسَّحي بِذُلَّةٍ
وانطر حي بِرهبَةٍ
وانبطحي بِخِيفَةْ
أمّا أنا
فهذهِ رِجلي بأمِّ هذهِ الوظيفَةْ
فقد تم مطالبة أحمد مطر باشتراطات معينة لتخفيف حدَّة لهجته الكتابية في محاولة لترويضه وتقنينه وقد تعرض لنفس الأمر الفنان الكاريكاتوري ناجي العلي الذي لم يجمعه بـ أحمد مطر فقط صداقة بل وحدس فني مشترك ووعي واهتمام بالقضايا ذاتها حتى بلغ الأمر أن تظهر لافتة أحمد مطر في الصفحة الأولى من جريدة القَبَس بينما يظهر كاريكاتور للفنان ناجي العلي يجسد مضمون القضية التي يتناولها مطر في لافتته دون اتفاق مُسبق.
صِحـتُ مِـن قسـوةِ حالـي:
فـوقَ نَعلـي
كُلُّ أصحـابِ المعالـي !
قيـلَ لي: عَيبٌ
فكرّرتُ مقالـي .
قيلَ لي: عيبٌ
وكرّرتُ مقالي .
ثُـمّ لمّا قيلَ لي: عيبٌ
تنبّهتُ إلى سـوءِ عباراتي
وخفّفتُ انفعالـي .
ثُـمّ قدّمـتُ اعتِـذارًا
.. لِنِعالـي !
على أبواب مدينة الضباب
بين رسوم ناجي العلي ولافتات مطر وجدت الكويت نفسها بين شقي الرحى فتقرر ترحيل الفنانين؛ فـ اجتمعا معًا في لندن يحملان هَمَّ الوطن وهَمَّ الغربة ليخوضا معًا دربًا جديدًا على خارطة التغريبة عام 1986 فلهجته الصادقة، وكلماته الحادة تؤدي به في النتيجة إلى النفي والإبعاد، ولكن سرعان ما انخرط مطر في تحضير ديوانه الثاني.
لا تسألوا
كيف اختفت لافتتي الشعرية
لا تسألوا
فهذه الأوطان تعتقل الفأس
إذا ما حلت الأوثان
وهذه الأوطان
تودع الملاك دومًا
عندما تستقبل الشيطان
وهذه الأوطان
إذا أتاها ظالم
تذبح كل طائر مغرد
وزهرية برية
لأنها تخشى على شعوره
من منظر الحرية !!!
وقد تحدث أحمد مطر إلى الكاتب «فائق منيف» بعد نفي شائعة موته عن فترة عزلته فـ أجاب عن تساؤله عنها بـ أنها تنبع من الخَيْبات؛ خَيْبات في الوطن الذي طالما انبرى قلمه وشعره دفاعًا عن إقامة الحرية والعدالة والمساواة فيه؛ إلى جانب خيبات الأصدقاء.
أنا في بريطانيا؛ دولةٌ مستقلَّة، لستُ سعيدًا لأني بعيدٌ عن صدى آهاتِ المُعَذَّبين؛ لأني أحملُ آهاتَهم في دمي؛ فـ الوطن الذي أخرجني منه لم يستطع أن يخرُجَ مني ولا أُحبُ أن أُخرِجَه ولن أُخرِجَه
كانت تلك الكلمات آخر ما قاله أحمد مطر قبل أن ينأى بـ نفسه قرابة ثلاثين عامًا حتى آخر ظهور إعلامي له عام 2014
فنان الكاريكاتور ناجي العلي
يقول أحمد مطر عندما تم اغتيال ناجي العلي:
ما كنت أتمنى أن اقفَ هذا الموقف، أن أقرأ شعرًا في رثاءِ ناجي العلي؛ أخي وصديقي وحبيبي هذا الذي شاركته خُطوته من المنفى إلى المنفى
وأصدر في تلك الفترة ديوان بـ عنوان «ما أصعب الكلام» يحتوي على قصيدة مؤلفة من 118 بيت في رثاء ناجي العلي.
عفوًا، فإني إن رثيتُ فإنّما
أرثي بفاتحة الرثاء رثائي
عفوًا، فإني مَيِّتٌ يا أيُّها
الموتى، وناجي آخر الأحياء !
وربما كان المرض وحضور مآتم الأخوَة والأصدقاء قد أودى بـ أحمد مطر في غياهب العُزلة يحمل ثكل قلبه وكَلَم روحه منفردًا؛ إلا أنه ظل حاملًا إلى جانب أوجاعه الفردية أوجاع الوطن؛ حيث ظل عقدين من الزمن بين طيات لافتاته وكانت آخر ما ظهر منها «فرعون ذي الأوتاد» التي نُشرت في جريدة القَبَس عام 2014 وحملت في ثناياها كافة هموم الوطن.
ما دُقَّتِ الأوتادُ فينا صُدفَةً
بَل دَقَّها فِرعونُ ذو الأوتادِ!
ولَهُ سَوابِقُهُ بتصديرِ الأذى
لِيَصُدَّهُ.. ويَعودَ بالإيرادِ!
ولَهُ عَبيدٌ سادَةٌ قد سَوَّدوا
أيّامَنا.. مِن قَبلِ هذا السّادي
وفي لندن عمل في مكاتب «القبس» الدولي، ويسافر منها إلى تونس، ويُجري اتصالات كثيرة بعدد من الكتاب التونسيين، لكنه يستقر في لندن، ليُمضي الأعوام الطويلة، بعيدًا عن الوطن مسافة أميال وأميال، قريبًا منه على مرمى حجر، ينزف شعرًا كلما نبض الوطن العربي، ويختلج فؤاده، في صراع مع الحنين والمرض، مرسخًا حروف وصيته في كل لافتة يرفعها، مستعدًا لكل صنوف الاستشهاد، بينما يتابعه محبوه من أرجاء الوطن العربي المتباعدة شرقًا وغربًا. متمنين أن يمتد عمره وعطاؤه حتى يرى حلمه في الكرامة والحرية يتجسد على أرض الواقع.