فن الادارة ..قصص وعبرقضايا وأراءوعي

ألمانيا .. معجزة إقتصادية لا تتكرر || الجزء الثاني

بقلم الكاتب : أحمد كامل

تاريخياً كانت الإمكانيات المادية للنصف الغربي لألمانيا أعلى من نصفها الشرقي و بعد الإنقسام و بسبب التطور الإقتصادى الكبير لألمانيا الغربية اتسع الفارق أكثر و صارت الهجرة من النصف الشرقى إلى النصف الغربى تمثل حلماً للمواطنين الشرقيين .. فى الغرب هناك ديموقراطية و بُعد إجتماعى يتمثل في الحفاظ على الحد الأدنى من الحياة الكريمة للمواطنين و هذا كان سبباً رئيسياً فى رفع معدل الهجرة غرباً حتى وصلت إلى 3 ملايين مهاجر أغلبهم من العمالة الماهرة ..

كان هذا أحد العوامل التي ساهمت في ازدهار إقتصاد ألمانيا الغربية بالطبع إلا أن الأمر زاد عن حده مع الوقت و اضطرت ألمانيا الشرقية لبناء سور برلين عام 1961 للمحافظة على ما تبقى لها من عمالتها الماهرة التي تأثر اقتصادها برحيلهم للنصف الغربي ..

العوامل السياسية المحيطة بشرق أوروبا و التوترات التي حدثت بها بسبب الضعف الاقتصادي بتلك الدول ساهم فى وصول الاحتجاجات إلى عاصمة الجمهورية الألمانية الشرقية .. طالب الشعب بالحرية و الديموقراطية أسوة بجارتها الغربية وهو ما أجبر السلطات على تنظيم استفتاء للوحدة مع الجارة الغربية وهو ما قوبل بموافقة كاسحة من الشعب الشرقى .. جدار برلين صار من الماضي الآن ..

هدم الجدار كان يحمل لمحة شاعرية بلا شك .. مظاهر الوطنية و الفرحة المبالغ فيها بالوحدة كانت لها اليد الطولى هنا .. لكن ماذا عن المستقبل .. هناك أزمة كبرى ستواجه جمهورية ألمانيا الموحدة الآن .. كيف ستتعامل مع الأعباء الإضافية الملقاة على عاتقها بإنضمام جارتها الشرقية .. هناك شعباً كاملاً يرغب الآن فى العمل .. يريد حقوقه التى حرم منها على مدار أربعة عقود ..

إقتصاد ألمانيا الشرقية كان يتعرض لتباطؤ شبه دائم لأن الدولة كانت تسيطر على كل شيء فيه وهو ما ساهم فى عزوف المستثمرين عن الاستثمار في تلك الدولة .. أصلاً حرية التملك لم تكن متوفرة من الأساس فكيف سيأتي الإستثمار .. فى المقابل ف الجارة الغربية كانت قد وضعت أسس الرأسمالية من سنوات طويلة و تجربتها نجحت تماماً ..

الإعجاز الألمانى ظهر أولاً فى إستيعاب تلك الأعداد الإضافية و أيضاً إستيعاب تأخرهم الإنتاجى و المعرفي و الاجتماعي .. 16.11 مليون نسمة أضيفوا إلى عدد السكان و كان لزاماً على الدولة أن تتعامل مع ضعف إنتاجيتهم بالإضافة لتوفير الخدمات إليهم بما يليق بهم و بما يتناسب مع ما كان يقدم للمواطنين بالنصف الغربي .. التحدى كان كبيراً بالفعل و لكن نتائج نظام السوق الاجتماعي كانت كفيلة بتعديل تلك الأوضاع ..

رائج :   بيزنس التعليم بيختار زباينه .. لا لمقابلات المدارس

فى البداية حدث انخفاض كبير فى معدلات النمو وصلت فى بعض الأحيان إلى ظهور الأرقام سالبة .. انتكاسة اقتصادية كبيرة نتجت بسبب انهيار الاقتصاد فى القسم الشرقى .. البرنامج الإصلاحى الألمانى وقتها نص على زيادة الإستثمار فى النصف الشرقى بمعدلات أعلى من النصف الغربى و بشكل سنوي و متتالي مما قلل الفجوة الاقتصادية تدريجياً بين الشطرين و هيأ البيئة الصحيحة للنمو وهو ما ظهرت نتائجه بعد فترة ..

مع الوقت تحسنت البنية التحتية للنصف الشرقى و إرتفع عدد المشروعات و زادت إنتاجية الفرد هناك .. قبل الإندماج كانت إنتاجية الألمانى الشرقى لا تتعدى 25 % من ما ينتجه مثيله فى الغرب .. نسب النمو أيضاً إقتربت كثيراً علماً بأن قبل الإندماج كانت ألمانيا الغربية تحقق 10 % كمتوسط لمعدل النمو سنوياً في حين كانت جارتها الشرقية تحقق 2.5 % على الأكثر .. بسبب الإنفاق السخي على الجزء الشرقى ظهرت علامات التطور تدريجياً على المؤسسات التعليمية و الصحية و كافة مظاهر البنى التحتية الإجتماعية .. ألمانيا الغربية سخرت كافة إمكانياتها لإنتشال شطرها الشرقية من محنته .. مظهر أخر من مظاهر عظمة هذه الأمة ..

بعد كل تلك السنوات من تطبيق البرنامج الإصلاحى الألمانى و تطبيق معايير الجودة بشكل صارم على المنتجات الألمانية تحولت ألمانيا من إقتصاد منهك مديون لا تظهر عليه أى بادرة للإصلاح مستقبلاً إلى :

– أقوى إقتصاد أوروبى و رابع أقوى إقتصاد عالمى بإجمالى ناتج قومى يقدر 3.5 تريليون دولار و بمعدل نمو 1.7 % على الرغم من أنها صاحبة أكبر تعداد سكانى أوروبى ب 84 مليون نسمة .
– ثالث أكبر مصدر فى العالم ب 1.32 تريليون دولار و ثالث أكبر مستورد أيضاً ب 1.05 تريليون دولار .
– صاحبة أعلى فائض فى الميزان التجارى فى العالم عام 2014 .
– احتياطى النقد الأجنبى 173.7 مليار دولار .
– ثالث أكبر دولة فى العالم فى قبول المهاجرين وهو ما ينعكس على قوة الاقتصاد استفادته من هجرة الكفاءات إليه .

-أكبر إحتياطى للتأمين الإجتماعى فى أوروبا و الأولى فى مجال الصحة .. لديها أكثر من 2000 مستشفى و تعالج كل من يعيش على أرضها حتى لو كان غير ألمانياً .

رائج :   هزيمة يونيو المستمرة || (١٣) عنب وبصل : عبد الحكيم عامر وقرار الانسحاب

– الدين العام حوالى 79 % من الناتج المحلى الإجمالى بمعدل تضخم ممتاز يعادل 0.2 % فقط .

– القوى العاملة ممتازة حوالى 45 مليون نسمة ( 53.5 % من عدد السكان ) بمعدل بطالة 4.6 % فقط و هو أحد أفضل المعدلات الأوروبية .

نستخلص مما سبق أن ما قامت به ألمانيا يعد إعجازاً إقتصادياً بلا أدنى شك و ما يدعم هذا التصور تلك الظروف الصعبة – بل المستحيلة – التى مرت بها الدولة من الهزيمة فى حربين عالميتين خسرت معهما كل مستعمراتها الخارجية وكافة مواردها .. انتهكت و دمرت بنيتها التحتية بالكامل تقريباً .. بعض مدنها تم محوها تماماً مثلما حدث فى دريسدن أو كولن .. قتل رجالها .. أصيب شبابها .. أهينت واغتصبت نسائها .. تم تشريد باقى شعبها و عاشوا بين أطلال مدنهم لسنوات .. تم تقسيمها إلى جزئين و استطاعت تجاوز خلافاتها و اتحدت من جديد .. و بعد كل هذا أصبحت تملك إقتصاد محورى له علاقات تبادل تجاري مع أغلب دول العالم ..

فيما يخص إمكانية تطبيق نظام السوق الاجتماعي على الحالة المصرية فيمكن الإستفادة من كل أو بعض بنوده بالتأكيد لكن يظل هناك شرطا أساسياً لإنجاح أى مشروع أو برنامج اقتصادي و هو إلتحام الإرادة السياسية مع الإرادة الشعبية و بدون ذلك الالتحام فلن يأتى أى برنامج اقتصادي بالنتائج المرجوة منه مهما كان فذاً ..

لذا و حتى ينجح البرنامج و يحقق أكبر استفادة ممكنة يجب أن يشعر عامة الناس بجدية الدولة فى التوجه نحو الأفضل و إرساء مبادئ العدالة الإجتماعية التى يشعر معها العاملون سواء بالقطاع العام أو الخاص أن نتائج مجهودهم ستعود بالنفع عليهم و يشعرون بالتغيير فى كافة مناحى حياتهم حتى لو تدريجياً .. التكاتف الشعبى شرط أساسي للنجاح عند تطبيق ذلك البرنامج وهو ما حدث فى ألمانيا فلا تكفى النوايا الطيبة فقط لإنجاح أي برنامج اقتصادي .. و لنحاول تفنيد البنود التى يمكن الإستفادة منها فى النقاط التالية :

– ترك المساحة الأكبر للقطاع الخاص فى القطاعات الإستهلاكية بالدولة و تركيز جهود الدولة على المشاريع العملاقة فقط .

– تشجيع إنشاء المشروعات الصغيرة و المتناهية الصغر عن طريق تقديم تسهيلات إئتمانية و إعفاءات ضريبية مؤقتة حتى تستطيع ملأ الفراغ فى الجانب الإستيرادى .

– الإقراض بنسب فائدة منخفضة لأقصى درجة مع تشجيع الشباب للإقبال على الإقتراض مع توجيههم للقطاعات الأكثر إحتياجاً لمشروعاتهم مما يصب فى مصلحة الإقتصاد القومى و سد العجز به .

رائج :   سر الكاميرا .. الخفية || من كتابات د : أحمد خالد توفيق

– تقليل نسب الفائدة يظل عاملاً حاسماً لتشجيع الإستثمار و إن كان معدل التضخم الحالى يجبرنا فى بعض الأحيان على زيادته أو تثبيته .

– متابعة تطبيق قانون الإستثمار الجديد قد يكون عاملاً مفيداً أيضاً خاصة بعد إقرار بنود تضبط العلاقة بين المستثمر و الدولة مع وضع خطوطاً عريضة لكيفية التعامل فيما بينهم .

– تدخل الدولة الحاسم فى تحديد مستوى الأجور لضمان حد أدنى كريم لمستوى المعيشة للفقراء لأنه لا يمكن إنتظار نتائج إيجابية من أُناس بطونها خاوية .

– ضمان المشاركة الفعالة للنقابات العمالية فى تحديد مصير الشركات عن طريق مشاركتها فى صنع القرار و عدم تركها فى يد مجلس الإدارة وحده و هو ما يرفع من درجة الإنتماء للمؤسسة و للدولة ككل بالتبعية .

– إستبدال العملة المصرية بأخرى جديدة يظل عاملاً مساعداً قد يفيد فى إعادة ثقة الشعب للعملة المحلية مرة أخرى .. عاملاً ثانوياً بالتأكيد لكن يظل له دور قد تحتاجه الدولة لتطبيق باقى البنود التى طبقتها ألمانيا .

– عنصر أخير من الممكن تطبيقه لاحقاً و هو الإعتماد على الطاقة النظيفة فألمانيا أصدرت قانون الطاقة المتجددة EEG و المقر عام 2000 لتكريس التوجه نحو الطاقة النظيفة و إستلهام مبادىء الإستدامة و هو ما قد يساعد مصر لاحقاً فى تقليل نفقات الطاقة خاصة إذا وضعنا فى حسباننا أننا نملك أفضل مكان فى العالم لإنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية ألا و هى الصحراء الغربية .

قد نكون بالفعل نطبق بعض تلك البنود التى طبقها الألمان قبلنا بعشرات السنين لكن ينقصنا الرقابة على نتائجها .. ينقصنا الإرادة القوية و الجدية فى متابعة النتائج و إصلاح الأخطاء التى تظهر لأنه لا توجد تجربة بلا أخطاء .. ينقصنا التكاتف الشعبى و إحساس الشعب بأهمية تلك الخطوات و الإقبال عليها .. ينقصنا توعية الأجيال الحالية أن تلك الإجراءات ستأتى بنتيجة فقط لو الكل إلتزم بها .. ينقصنا إقناع الشعب خاصة الشباب منه بأن تطبيق تلك البرامج يضمن العدالة الإجتماعية و لكن بالتدريج .. بمعنى أخر ينقصنا التواصل الفعال .. ينقصنا الكثير نعم و لكن لازال بإمكاننا تطبيق نظام السوق الاجتماعي على الحالة المصرية لو أننا فقط نملك اليقين فى نجاحنا .

Related Articles