أجمل رسائل بريد الجمعةقصص وعبرقضايا وأراء

ابتسامة الخجل .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

أنا سيدة جامعية نشأت في أسرة بسيطة بين أبوين طيبين، وكنت الابنة الوحيدة لهما إلى جانب شقيقين يصغرانني ، وكان أبى يعمل عاملا بسيطا فى مصلحة حكومية ، ويكافح في الحياة لإعالتنا وإسعادنا بما فى يده ، وقد حرص على تعليمنا وتشجيعنا على الدراسة والتفوق لكي نحظى بحياة أفضل من حياته ، كما كان يقول لنا دائما ، وكان يفيض علينا حبا وحنانا .

أما أمي فكانت ربة منزل طيبة لكنها عصبية بعض الشئ ، ربما بسبب ضغوط الحياة عليها . وقد وهبني الله جمالا منذ طفولتي ، ونلت احترام زميلاتي لتفوقي وجمالي ، وسعين إلى صداقتي ، ورغم براءة مشاعر الطفولة فقد أدركت منذ الصغر الفارق الاجتماعي الواضح بيني وبينهن ، وحاولت تغطيته بالاهتمام بمظهري وبالادعاء لصديقاتي أن أبى مدير كبير بالحكومة ، وكانت نيران الغيرة تنهشني حين اسمع من كل تلميذة من صديقاتي عن أبيها الذى يشغل منصبا مرموقا وبيتها المفروش بالأثاث الفاخر .. والرحلات التى يقومون بها .. الخ

فاستمررت فى الادعاء والأكاذيب عن أبى ووظيفته الخطيرة ، وشعرت ببعض التعويض فى تفوقي الدراسي عليهن جميعا ، لكن حبال الكذب قصيرة دائما فلم تلبث صديقاتي حين تقدمنا فى السن والدراسة وانتقلنا إلى المرحلة الإعدادية أن استشعرن كذب ادعائي ورقة حالي من خلال بعض المواقف الصغيرة ، كتهربي الدائم من دعوتهن لزيارتي فى المناسبات ، ومن عدم وجود تليفون فى بيتنا يستطعن الاتصال بى من خلاله ، ومن تجنبي تلبية دعوتهن للزيارة فى منازلهن ، ليس تحرجا منهن وإنما لأنني كنت كلما زرت إحداهن تشتعل نار الغيرة والحسرة فى نفسي ، فكانت النتيجة ان فترت العلاقة بيني وبينهن تدريجيا وانقطعت . 

وبدلا من أن اقدر لأبى كفاحه فى الحياة وإصراره على تعليمي أنا واخوىّ وجدت نفسي أضيق به وبأمي تدريجيا واحمّله فى داخلي المسئولية عن عدم نشأتي فى بيت جميل كبيوت زميلاتي ، ووجدتني _ وخاصة وأنا فى المرحلة الإعدادية _ أرهقه بمطالبي ..

ولا اقبل منه عذر إذا تأخر فى تلبيتها أو استمهلني بعض الوقت وأُكثر من الشكوى أمامه من بساطة حالنا ومسكننا ومن الأثاث المتواضع وقلة مصروفي وحرماني مما تتمتع به زميلاتي من مباهج الحياة ، فتثور أمي وتتهمني بالجحود والنمردة والغرور وتتوعدني بأنني لن أعرف طعم الراحة فى حياتي ، لأنني لا اعرف الرضا ولا أشكر الله على شئ ، ولا اُقدر لأبى تضحيته بضروراته الشخصية لكى يلبى مطالب أبنائه وأسرته ،

فهو لا يدخن ولا يسهر ولا يذهب إلى المقهى ولا يشترى لنفسه شيئا .. وينفق كل ما فى يده علينا ، ومع ذلك فلست راضية ، أما أبى فكان لا يشاركها ثورتها ويهدئها ويلتمس لى بعض العذر ، ويقول لها إن البنات يحتجن إلى ملابس كثيرة ليحافظن على مظهرهن ، وتتهمه أمي بالضعف معى ، وتنصحه بأن يتركني لنفسي لكي أتعلم الرضا وتقدير الظروف ولكيلا أنشأ أنانية لا أرى إلا نفسي . 

ولم يكن أبى يستجيب كثيرا لأمي .. بل كان يقتطع من قوته ليشترى لى ما أريد ويعطيني أحيانا فى السر مبلغا إضافيا لمصروفي ويطلب منى ألا أصارح أمي به .. اما شقيقاي فقد كانا راضيين بحياتهما ، ولا يلحان على أبى فى شئ ، وقد كافحا فى التعليم بسبب ضعف قدراتهما الدراسية حتى استطاع كل منهما أن يحصل على شهادة متوسطة بشق الأنفس ، وعمل كل منهما فى أكثر من عمل ، فى حين حصلت أنا على الثانوية العامة بمجموع كبير .. وتطلعت لاستكمال دراستي الجامعية ، وسعد أبى بنجاحي سعادة كبيرة ..

وسألني عما انوي أن أفعل بحياتي ، وأجبته بأني أريد الالتحاق بكلية عملية معينة ، وصرخت أمي تسألني : ومن أين لنا بتكاليف الدراسة وثمن الكتب فيها ؟ ولماذا لا تختارين كلية أخرى ؟ لكنى تمردت كالعادة وصرخت وولولت وبكيت ، ولم يحتمل أبى دموعي فطيب خاطري وأقسم لى انه سيفعل المستحيل ليوفر لى نفقات الدراسة الغالية ، وبالفعل عمل ساعيا فى شركة بعد الظهر منذ حصولي على الثانوية العامة وحتى خرج إلى المعاش من وظيفته الحكومية ، وكان يخرج من المصلحة فى الظهر فلا يرجع إلى البيت وإنما يتوجه إلى الشركة ليعمل بها من الثالثة بعد الظهر حتى العاشرة مساء ، ويرجع إلى البيت مهدودا ، وركزت أنا هدفي فى النجاح والتخرج والعمل لانتقل إلى مستوى آخر من الحياة . 

وفى الكلية العملية رجعت للأسف إلى أكاذيبي القديمة فزعمت لزملائي وزميلاتي أن أبى مدير كبير بالشركة التى يعمل بها ، وتحملت سنوات الدراسة الخمسة فى صبر وتقشف لأستطيع توفير متطلباتها وتخرجت فى كليتي وأنا فى الرابعة والعشرين من عمري وعزفت طوال دراستي عن الاقتراب من الزملاء والدخول فى قصص غرامية مع زملاء مكافحين مثلى يحتاجون إلى عشر سنوات بعد التخرج لبناء حياتهم والزواج ..

واتهمني بعضهم بالغرور والعقد النفسية وبأنني لا أريد إلا زوجا جاهزا فى كل شئ بدون كفاح وبدون مشاعر ، ولم يكن ظنهم فىّ بعيدا عن الحقيقة ، فلقد حسمت هذه المسألة خلال دراستي الجامعية وقررت انه لا فائدة فى هؤلاء الشباب الصغار الذين يتحدثون عن الحب والارتباط والكفاح معا لبناء عش الزوجية ، وان الأفضل لى هو أن أتزوج ممن يستطيع مساعدتي على بناء حياتي وتحويل مشروعي المهني الذى أمارس تخصصي فيه . 

وحين ظهرت نتيجة البكالوريوس رجعت إلى البيت سعيدة ، وانخرط أبى فى البكاء وهو يقبلني .. ورفع يديه إلى السماء شاكرا ربه ، وداعيا لى بالتوفيق فى حياتي ، وزغردت أمي مبتهجة ، ورغم ذلك لمزتنى بقولها انه عسى أن يتمر فىّ معروف أبى معي وأتذكر له فضله علىّ ! وبلا وعى منى وجدتني أقول لها : وأين هو هذا الفضل وأنا محرومة من كل شئ تتمتع به زميلاتي ؟ أليس هذا هو واجبه كأب مع ابنته ؟

رائج :   الخديعـــة المؤقتـــة ‏!‏! .. رسالة من بريد الجمعة

ثم لماذا تنجبوننا إذا كنتم غير قادرين على نفقتنا ؟ وصعقت أمي لردى وكادت الفرحة تنقلب إلى غم ، وهمت بأن تنفجر فىّ كعادتها معى ، فاذا بأبي يسد فمها براحة يده ويقبل رأسها ويرجوها ألا تفسد علينا هذه الفرحة ، وهو يؤكد لها إنني امزح معها ويسألني : أليس كذلك يا فلانة ؟ فأجبته بالإيجاب تجنبا للمتاعب .وانتهت بذلك صفحة طويلة متقشفة فى حياتي ، وبدأت أتطلع للغد المشرق ، وتعلق أملى فى أن تعينني كليتي كمعيدة فيها لتفوقي لكن التعيين تعثر .. ووجدت نفسي بلا عمل .

وبعد عدة شهور وفقت فى الحصول على عمل لا بأس به .. وبلغ أبى قمة سعادته ، أما أمي فواصلت انتقاداتها لى وتعجبها من امرئ لأنني رفضت ثلاثة شبان من الجيران تقدموا لى واحدا بعد الآخر فكنت ارفض المبدأ من قبل المناقشة لأنهم شباب مكافحون ولا يملكون شيئا ، حتى سألتني أمي مستنكرة : هل تنتظرين وزيرا ؟! ولو أجبتها بما كان فى ضميري وقتها لقلت لها انه ولا حتى الوزير الذى تتحدث عنه يرضى طموحي المادي ..

ولصارحتها بأنني أريد رجلا قادرا ماديا بغض النظر عن سنه ، لكنى كنت أتفادى المصادمات معها بقدر الإمكان . وبدأت عملي فى الهيئة العامة ، وقبل أن اقبض أول مرتب فى حياتي بأيام رحل ابى فجأة إلى رحمة الله بلا مرض سابق وهو فى الثالثة والستين من العمر .. فلم تسمح لى الظروف أن أسعده بهدية صغيرة من أول مرتب اقبضه ، وزلزلتني صدمة رحيل أبى إلى حد لم أكن أتوقعه أو أتصور عمقه ،

ووجدت نفسي بعد رحيله وحيدة تماما رغم وجود أمي والشقيقين معى ، وافتقدت سندي الأول فى الحياة ونبع الحب الطاهر والحنان الغامر الذى كنت انهل منه فى كل مراحل حياتي ، ولم أدرك للأسف عمق تأثيره فى حياتي ومدى حاجتي إليه والى حضنه الدافئ وابتسامته الطيبة إلا بعد أن فقدته ، وشعرت بألم شديد فى صدري حين تذكرت فى غمرة افتقادي له كيف كنت أنكره وأنا تلميذة جاهلة ومغرورة بالمرحلة الإعدادية فأتفادى زيارة زميلاتي لى بالبيت بكل الحيل حتى لا يرين مسكننا البسيط ولا يتعرفن على أبى ويلمسن رقة حاله وتواضع مظهره ..

ولو كنت قد عرفت وقتها قيمته الحقيقية فى حياتي لفاخرت به وبطيبته وحنانه كل زميلاتي بلا استثناء . ولا أريد أن أطيل الحديث عن هذه الفترة الحائرة من حياتي ، لكنى أقول لك انه بوفاة أبى لم يعد هناك في عالمي الصغير من هو مستعد لتبرير جحودي وغروري وتمردي والتماس الأعذار لى وتحملت مسئوليتي النفسية وحدي وعملت ثلاث سنوات فى هذه الهيئة دون أن أتمكن من تحقيق حلمي القديم فى المشروع المهني والارتقاء بحياتي ،

وان كنت قد حسنت كثيرا من مظهر مسكننا المتواضع وأضفت إليه صالونا لائقا وانتريه ، وخلال هذه السنوات الثلاث رحلت أمي عن الحياة رحمها الله رحمة واسعة ، وشعرت بالوحدة النفسية الحقيقية وأدركت بعد فوات الأوان كم كانت تحبني وتحرص على سعادتي ومصلحتي رغم نقارها المستمر معى وانتقادها الدائم لى . 

وبعد رحيل أمي بعام التقيت بشريك حياتي ، وتزوجت وأنا فى الثامنة والعشرين من عمري ، رغم أن جمالي كان يرشحني للزواج فى سن اصغر ، ولا أريد ان اذكر اية تفاصيل عن شريكي فى الحياة حتى لا يتعرف على نفسه من رسالتى ، لكنى اقول لك انه يكبرني (بعض الشئ) ويملك كل ما كنت اطمح فيه من مواصفات شريك الحياة ، واننى كنت واضحة معه من البداية فصارحته بأننى قد رفضت حب الشباب ومسائل العاطفة لاننى أريد رجلا عاقلا أمينا يتحمل مسئوليتى فى الحياة ويحقق لى أهدافي .. وتقبل هو الأمر بواقعية وتجاوب معى فى كل شئ .

وخلال فترة الخطبة والقران كان قد جهز لى مشروعي المهني البسيط وأعد شقته الجميلة للزواج .. وتزوجنا وبدأت عملي المسائى فى المشروع بعد شهر العسل ، ووجدت فى شريك حياتي رجلا طيباً وهادئ الطباع فاسترحت إليه وتفاهمت معه وأنجبت منه طفلة أصبحت الآن فى السادسة من عمرها وطفلا أصبح فى عامه الثاني .. وقد تفرق شقيقاي فى الدنيا الواسعة وسافرا للعمل فى الخارج فأصبح زوجي وأطفالي وعملي هم كل حياتي . 

اذن فما هى المشكلة يا سيدى ؟ المشكلة أنني أتذكر الآن كثيرا وجه أبى الطيب المتألم وهو يغطى حسرته بابتسامة الخجل من بنت الثانية عشرة من عمرها حين كنت لا اكف عن الشكوى وحين كنت أضغط على جروحه وأُشعره بعجزه وفقره وبساطة حياتنا وحرماني مما تتمتع به البنات الأخريات ، وأتذكر أيضا وجه أمي رحمها الله المستنكر والمتعجب وهى تتهمني بالجحود والتمرد والغرور …

أما لماذا أتذكرهما كثيرا وأبكيهما فى مناسبات عديدة ؟! فلاننى قد بدأت أرى نفسي وبعض ملامحي القديمة فى ابنتى الصغيرة ! فبالرغم من اننا نعيش فى مستوى لم أكن وأنا طفلة فى سنها احلم بواحد فى المائة منه ، فإنها هى أيضا ويا للعجب لا يرضيها شئ .. ولا تشكر على شئ .. ولا تكف عن الشكوى والمقارنة بينها وبين بعض زميلاتها الأكثر ثراء فى المدرسة الراقية التى ألحقناها بها ..

كما أنها كثيرة المطالب ولا تحتمل أي رفض لمطالبها .. وقد بدأت ألاحظ عليها بعض ملامح تمردها وغرورها منذ حوالي عامين ، وفسرته لنفسي بأنه من طبيعة الأطفال الصغار ، لكن المسألة استمرت بعد ذلك وأنذرتني بالخطر حتى وجدت نفسي أشتبك معها كثيرا وأضربها أحيانا لتمردها او لكثرة مطالبها ، فيتدخل أبوها بيني وبينها و ” يبرر ” لها كما كان يفعل أبى الراحل طيب الله ثراه !

إن ابنتي مازالت صغيرة ومازال تمردها وغرورها فى حدود الاحتمال والسيطرة لكن ما يقلقني حقا يا سيدى هو المستقبل .. فهل سيعاقبني الله بابنتي على ما آلمت به مشاعر أبى رحمه الله ، حين كنت أشعره بعجزه على الدوام عن توفير الحياة المناسبة لى ؟! فلم يكن ينهرني لذلك ولا يضربني وليته فعل ذلك إذن لعرفت قيمته وقتها وعرفت الرضا لكنه لم يفعل ..

رائج :   حكمة أكواب القهوة المختلفة

وإنما كان _ وقد أدركت ذلك بعد أن كبرت _ يشعر بالخجل منى ويبتسم ابتسامة خجولة تتجمع الدموع فى عيني كلما تذكرتها الآن ، وهو يعدني بأن يفعل كل ما فى وسعه لإرضائي ، إنني الآن الذى أشعر بالخجل من نفسي ومما فعلت مع أبي حين لم أقبل يده ورأسه وقدمه أيضا يوم تخرجي ، وأقول له أنه أعظم أب فى الحياة ،وأنني بدونه لم أكن لأساوى شيئاً ، وحين كنت أخجل من أن أقدمه لزميلاتي وأتفادى ذلك . 

إنني أكثر الآن من زيارة قبرى أبى وأمى ، وأترحم عليهما كثيراً وأدعو الله طويلا أن يغفر لى ما آذيت به مشاعرهما من غروري وتمردي ، فهل يستجيب لدعائي حقا ام تراه ينفذ فىّ عقابه العادل فى ابنتي وربما ابنى أيضا فيتمردان علىّ ويشعر إنني دائما بالعجز وعدم قدرتي على تلبية مطالبهما فى المستقبل ؟ فزوجي وان كان ميسور الحال فهو ليس مليونيرا ، وعملي فى مشروعي لم يحقق الكثير حتى الآن ، وابنتي تتحدث عن زميلاتها اللاتي لهن شاليهات فى الغردقة والساحل الشمالي ، فهل هو حقاً عقاب السماء لى ؟! 

إن الأب والأم فى حياة أبنائهما هما النجوم التى ترشدهم للطريق .. ومن أعماق قلبي أقول لكل فتاة : لا تقتلي أباك بالإنكار أو الخجل من ظروفه المادية ، وافتخري به أمام الجميع واستمتعي بحضنه وعطفه وحنانه لأنه لن يعيش لك إلى الأبد ، وكذلك بحضن أمك وقلبها وعقلها الناصح لك ولا تتمردي عليهما حتى لا تندمي بعد فوات الأوان .. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

لا يتعلم الإنسان الحكمة إلا بالثمن الغالي ، ولا يعرف أقدار من أحبوه وغمروه بعطائهم وحنانهم غالبا إلا بعد أن يفقدهم إلى الأبد للأسف .

ونصيب كبير من هواجسك تجاه طفلتك قد لا يرجع إلى سلوكياتها الطفولية أو إلى كثرة مطالبها أو ما تلحظيه عليها من ملامح الغرور وعدم اعتياد الشكر بقدر ما يرجع أساساً إلى شدة إحساسك أنت بالذنب تجاه أبويك وإدراكك الآن فقط وأنت تتعاملين مع طفلتك فى بعض المواقف المشابهة لما كان يحدث بينك وبين أبويك لعمق إحساسهما وقتها بالمرارة والحسرة والقهر والعجز عن إرضائك رغم كفاحهما فى الحياة من أجلك ، لهذا فان نصيبا كبيرا من تلك الهواجس ربما يكون نوعا من حساب النفس أكثر منه مؤشرات حقيقية تنبئ بخطر مؤكد لتمرد ابنتك عليك فى المستقبل ، ولا عجب فى ذلك ولا غرابة يا سيدتى ..

فنحن ندفع دائما ثمن أفعالنا فى الحياة بشكل او بآخر ، فان لم ندفعه فى خسائر حقيقية ملموسة .. دفعناه فى هواجس ومخاوف ومعاناة للإحساس بالذنب . ومن المحتمل جدا ان يكون ما تشكين منه من تصرفات ابنتك مجرد سلوكيات طفولية لم تشكل بعد ملامح مستقرة لشخصيتها التى ستصاحبها بقية رحلة الحياة ، لكنك بإحساسك بالذنب وبإدراكك ” المكتسب أخيراً ” للألم الذى كان ينطوي عليه والدك بالذات ، تضخمين من هذه النذر الصغيرة وتتخوفين من مؤشراتها ..

وأيا كان الأمر فلا مفر من التعامل مع هذه المؤشرات المزعجة بما يناسبها من الوسائل التربوية الصحيحة ، ولابد من مكافحة بذور التمرد والغرور والأنانية قبل ان تتأصل فى النفوس وتنبت ثمارها المرة . وفى كل الأحوال لابد أن نُعلم أطفالنا منذ الصغر أن آباءهم لا يملكون الدنيا وما عليها , وانهم ليسوا من صانعي المعجزات , ولا من أصحاب الخوارق ,

وانه ليس من طبائع الأمور ان ينتظروا أو يتوقعوا تلبية ما يبدون من رغبات أو مطالب كما لو كانت ارادة سنية واجبة التنفيذ , فهناك دائما حدود لما يمكن الاستجابة له وما لا يمكن , كما لابد أيضا من أن نغرس فى نفوسهم بذور الرضا بما يتيحه لهم الآباء والأمهات من أسباب الحياة والشكر عليها لربهم أولا ولأبويهم من بعده

ولابد ان يتعلموا ممارسة فضيلة الشكر مع الجميع ويعرفوا من حقائق الحياة ما تسمح به أعمارهم الصغيرة بإدراكه ومنها ان حظوظ البشر تتفاوت دائما لحكمة إلهية بين الثراء والفقر والصحة والمرض , والأهمية والعادية .. الخ وان الغالبية العظمى من سكان الكون كله هم من ” ملح الأرض” أي من البسطاء الذين يكافحون فى الحياة ليكسبوا رزقهم ورزق من يعولونهم وانه من واجبات الإنسان الدينية والأخلاقية ان يسلم بينه وبين نفسه بأن لكل إنسان ظروفه وقدراته وحظوظه التى تختلف عن حظوظ غيره ، ولكل إنسان فى النهاية من حظه ما ينبغي ان يرضيه ، ومن همه ما لا مفر من ان يشكوه مهما كان نوع هذه الهموم وليس من الضروري ان تكون مادية ..

لهذا فليس من الفهم السليم للحياة ولا هو حتى من المفيد للإنسان نفسيا وصحيا وعمليا ان يتطلع لحظوظ غيره وينشغل بها وبالمقارنة بينها وبين حظه فى الحياة ، ليس فقط لان فى ذلك اجتراء واعتراضا على مشيئة من يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، وإنما أيضا لان بحساب الربح والخسارة لا عائد له إلا الخسائر المؤكدة فى سباق الحياة ، فالحكمة الانجليزية القديمة تقول :

ان الحصان الذى يتلفت يمينا ويسارا تسبقه الخيول الأخرى فى الفوز بجائزة السباق . وكذلك الإنسان أيضا .. فمن واجبه تجاه نفسه ان يسعى للارتقاء بحياته وتحقيق أهدافه التى يطمح إليها ، وليس مما يساعده على بلوغ الهدف ان يهدر بعض طاقته النفسية والصحية فى الانشغال عن أهدافه فى الحياة بالتلفت يمينا ويسارا ومراقبة حظوظ الآخرين والتحسر لها والمقارنة معها ،

وبالتالي فى الحقد والكراهية والمشاعر السلبية العدائية التى تعوق تواصله مع الآخرين ، وتقلل من طاقته على العمل والإبداع والنجاح ، ولا تثمر فى النهاية سوى فساد الأوقات بالمعاناة والغيرة كما لا تثمر سوى الخسائر الصحية المؤكدة بسبب أمراض القلق النفسي والنظرة السوداوية للحياة التى تُفقد الإنسان الإحساس بجمال الأشياء وبقيمة ما حققه لنفسه حين يقارنه بما حقق الآخرون .

رائج :   فرانكوآراب || من كتابات د : أحمد خالد توفيق

لقد كان الفيلسوف ارسطو يقول (( إن أشقى إنسان فى الحياة هو الحقود لسبب بسيط هو انه قد أضاف إلى همه بنفسه ، همومه “بسعادة ” الآخرين وما حققوه لأنفسهم من أسباب )) ولا شك انك يا سيدتى قد حققت لنفسك بعض أهدافك فى الحياة لكنك خسرت فى نفس الوقت وخلال رحلتك الى هذه الأهداف أشياء جوهرية لا تعوض ، هى كل الأوقات الجميلة فى طفولتك وصباك والتى كان ينبغى لك ان تستمتعى فيها ببراءة المشاعر .. وجمال المرحلة وصداقة صديقاتك فى المدرسة ، وحبك للآخرين وحبهم لك ، ناهيك عن حب أبويك وعطائهما الدافق لك .. لقد أهدرت كل هذه الايام الجميلة بنيران الغيرة والحسرة والشكوى وإيلام مشاعر أبيك ، فكسبت الكثير بكفاحك الجاد فى الحياة ، وخسرت أيضا الكثير بهذه المشاعر السلبية التى رافقتك فى صباك وبواكير شبابك . 

وليس المهم دائما فى هذا الشأن الفوارق الطبقية وإنما المهم هو درجة الإحساس بهذه الفوارق ونوع هذا الإحساس .. فهذه الفوارق قائمة فى كل مجتمع فى دنيا الله الواسعة ، لكنها لا تنعكس بنفس الاثر على الجميع ، والا فلماذا اذن يشقى بها البعض ويتعذبون ، وينشغل عنها البعض الآخر من أصحاب النفوس المطمئنة ، فلا يكادون يشعرون بها ، وان شعروا بها لم ينعكس عليهم إحساسهم بها بالمرارة ولا بالحقد ؟! ذلك لانهم يسلمون منذ البداية بأن لكل انسان نصيبه من الحياة وبأنه ليس من شأن العاقل ان ينشغل بما أصابه الآخرون من خير ، فيستصغر شأن ما أصابه هو ويفقد استمتاعه به ويذهب سلامه النفسي بددا .

انه موقف نفسي أخلاقي عادل وحكيم من الحياة فبحر المقارنة بلا شطآن ، ومهما حقق الإنسان من انجازات فى حياته فلسوف يكون هناك دائما من هو أكثر منه مالا وأعز نفرا .. فماذا تفيده اذن المقارنة مع هؤلاء سوى ان يفقد الرضا عن نفسه وعما حقق ؟!

فيواصل ما اسماه الكاتب المسرحى الامريكى آرثر ميللر فى مسرحيته الشهيرة الثمن ((بسباق الفئران المذعورة )) وهو سباق يتعذب فيه من يعلون القيم المادية وحدها على كل شئ فى الحياة برغبة كل منهم فى ان يكون الأفضل والأحسن والأكثر ثراء وليس بأن يكون الأسعد والاكثر توفيقا فى حياته الخاصة .. والأكثر رضا عن نفسه وعن دنياه الخاصة وأسرته الصغيرة فينتهي كل شئ فى نهاية السباق الى حقيقة واحدة هى القلق الدائم والتطلع الأبدي لحظوظ الآخرين والمقارنة معها ..

ويكتشف الإنسان فى النهاية وبعد ضياع زهرة العمر أنه قد أضاع كل شئ لكى يصل بعد اللهاث الطويل الى حياة غير حقيقية ، وأهداف خائبة بمقاييس السعادة الحقيقية وصفاء النفس وسلامها . ولهذا ايضا فما زالت خسائرك مستمرة يا سيدتى ، واذا كنت لا أسمح لنفسي بأن أختار لأحد حياته ، فانى اقول لك انك بسبب (سباق الفئران ) هذا قد حددت لنفسك فى الحياة أهدافا مادية بحتة ونحيت من اجلها جانبا كل شئون العاطفة ،

فارتبطت بمن يكبرك فى السن (بعض الشئ ) مفضلة اياه على الشباب المكافحين الذين يبنون حياتهم خطوة خطوة ، وعبرت بتصرفك هذا عن اتجاه غير محمود لدى بعض الفتيات يعكس للأسف سيادة القيم المادية على كل ما عداها من القيم الأخرى ، ومنها قيمة العاطفة والسعادة وقيمة العمل والكفاح الشريف فى الحياة لتحقيق الأهداف المشروعة ، وتفضيل الوسائل الجانبية الاخرى لتحقيقها بلا عمل ولا كفاح ، كالارتباط بمن يكبرهن ( بعض الشئ ) .

وبسبب هذا السباق أيضا كانت شدة إحساسك بالفوارق الطبقية وتحسرك على ما لدى الآخرين وليس لديك ، وإرهاقك لأبيك لتعويض بعض ذلك ولو على حسابه وحساب إخوتك ، وكان أيضا إحساسك بالذنب الآن وتخوفك من ان تكرر ابنتك صورتك السابقة فى صباك وشبابك . وعلى اية حال ، فاني أنصحك بان تتفاهمي مع زوجك على توحيد الأهداف والقيم التربوية التى تلقنانها لابنتكما وطفلكما ، حتى لو اختلفتما فى الوسائل ، وقد اتفقنا على ما ينبغى ان يتشربه الأطفال منذ الصغر من قيم الرضا والعرفان والشكر والتواضع وعدم التطلع لحظوظ الآخرين وعدم الأنانية .

ولكى تتشرب ابنتك هذه القيم ، فمن الضروري ان يعينك على ذلك زوجك بالكف عن الضعف تجاهها وعن تبرير سلوكياتها ، ثم بمشاركتك الحزم معها لكبح جماح تمردها وغرورها فى المهد .. ولا مفر فى هذا الشأن من استخدام الوسائل العقابية الملائمة عند الضرورة من رفض تلبية بعض ما تطلب بإصرار ، إلى التوبيخ والنهر ، الى الحرمان من المصروف ، الى الخصام المؤقت حتى تقر بالخطأ وتعتذر ،الى الضرب الهين فى حالة الإصرار على الخطأ وتكراره . 

اما عن ندمك وبكائك على أبويك وتحسرك حين تستعيدين وجه أبيك وهو يغالب حرجه وإحساسه بالعجز والهوان بتلك الابتسامة الخجولة المؤلمة ، فلا بأس ببعض الدموع التى تطهرنا من آثامنا من حين الى آخر ، ولا بأس أيضا بغصة الندم المؤلمة على أخطائنا السابقة ،

لكى يرشحنا ذلك لنيل العفو والمغفرة ممن لا يغفر الذنوب سواه ، وكلما صح الندم وكثر الاستغفار اقتربنا من عفو من وسعت رحمته كل شئ سبحانه ، ولا شك ان ندمك واستغفارك الآن دليل أكيد على انك قد عرفت فى النهاية حقائق الحياة الجديرة بالاهتمام ، وخرجت من ( سباق الفئران ) التى تلهث دائما وراء أهدافها المادية وحدها ، وبدأت مرحلة جديدة من حياتك ستكون أكثر جمالا وإشراقا بإذن الله .

  • من أرشيف جريدة الأهرام
  • نشرت سنة 1995

Related Articles