أجمل رسائل بريد الجمعةقصص وعبرقضايا وأراء

الاختيار الحر ‏! .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

أنا شاب أبلغ من العمر ‏30‏ عاما‏,‏ نشأت في أسرة متماسكة وكنت الابن الوحيد علي أربع بنات‏,‏ وكانت لأختي التي تصغرني بثلاث سنوات وهي صديقتي المقربة التي أبوح لها بأسراري‏,‏ صديقة عزيزة تعرضت وهي طفلة لحادث مؤلم حيث صدمتها مقطورة‏,‏ فنتج عن الحادث بتر في إحدي ذراعيها وإحدي رجليها‏,‏ فحرمت وهي طفلة من اللعب والجري

وأصبحت تذهب إلي مدرستها وهي تتعثر في أجهزتها التعويضية‏,‏ غير أن الله سبحانه وتعالي قد عوضها عن ذلك بالجمال والأخلاق وخفة الظل‏,‏ كما أنها لم تنطو علي نفسها‏,‏ ولن تشب نفسها المرارة‏ …‏ وإنما واجهت الدنيا بالابتسامة وخفة الروح فوهبها الله القبول لدي الآخرين‏,‏ وأحبها كل من تعامل معها ‏..‏ ولقد كنت أتعامل معها كأخت لي‏,‏ غير أن مشاعري تجاهها اختلفت بعد ذلك‏,‏ وبدأت أحب رؤيتها وسماع أخبارها‏,‏ ثم بدأت أشعر نحوها بالحب ‏..‏

وحاولت في النهاية أن أقاوم هذه المشاعر وأن أنساها لكني فشلت وصارحت أختي بها وأنا أتوقع أن تنهرني أو تنفرني من الارتباط العاطفي بصديقتها هذه بسبب ظروفها الخاصة‏,‏ ففوجئت بها سعيدة للغاية بتفكيري في صديقتها‏,‏ وقالت لي إنها قد تمنت في أعماقها ذلك‏..‏ وتشعر عن ثقة بأنها تبادلني نفس هذه المشاعر‏,‏ ولكن في صمت وبغير أن تصارح أختي بذلك‏.‏

فاطمأننت وازددت اقترابا من هذه الفتاة حتي بدأت أمي تشعر بحبي لها وفاتحتني في الأمر وطلبت مني ألا أفكر في الارتباط بها ذات يوم‏,‏ فلم أعلق بشيء لأنني لم أكن مستعدا في ذلك الوقت للزواج من ناحية‏,‏ ولا أملك من ناحية أخري الشجاعة علي الإقدام علي هذه الخطوة‏.‏

ثم تحسنت أحوالي بعض الشيء وجاء الوقت المناسب للزواج‏.‏ وعرضت علي أمي فتاة جميلة‏,‏ فوافقت عليها اعتقادا مني أن خطبتي لها سوف تنسيني فتاتي الأخري‏.‏ وغضبت مني أختي تضامنا مع صديقتها وقاطعتني لفترة‏,..‏ وتمت الخطبة وشهدتها فتاتي الأولي وهي تتظاهر بالتماسك والقوة وإن كنت لم أنس حتي الآن نظرتها الكسيرة لي‏.‏

وحاولت بكل جهدي التواؤم مع خطيبتي والتفاهم معها‏,‏ لكني فشلت في ذلك فشلا ذريعا‏,‏ فقد كنت أقارن دائما بينها وبين فتاتي الأولي‏.‏ فأجدني عاجزا عن تقبلها‏,‏ وسلمت بالفشل بعد فترة‏..‏ وقمت بفسخ الخطبة لكيلا أظلمها أو أظلم نفسي‏,‏ وعدت للتفكير في الارتباط بفتاتي السابقة من جديد واستجمعت شجاعتي ذات مرة وفاتحت أمي في ذلك‏,‏ فصرخت في وجهي وأقسمت أنها لن تدخل لي بيتا إذا ارتبطت بها‏.‏ وتركت أمي لنفسها وأنا آمل في أن تغير من موقفها بعد حين‏,‏ ومضت فترة دون أن أفاتحها في الموضوع مرة أخري‏,‏ حتي خيل إليها أنني قد عدلت عنه أو نسيته‏…‏

وبعد محاولة أخيرة مع أمي كررت خلالها نفس موقفها السابق ‏..‏ وإن كان بحدة أقل‏,‏ تجرأت وأقدمت علي خطبة فتاتي ‏..‏ وحزنت أمي لذلك وتجاهلتني ‏..‏ وبعد الانتهاء من استعدادات الزواح تم الزفاف في مسكن فتاتي القريب من مسكن أسرتي‏,‏ وسعدت بحياتي الجديدة معها ولم يكدرني شيء سوي استمرار أمي علي موقفها‏,‏ ورفضها دخول بيتي وتحذيرها لشقيقاتي من مساعدة زوجتي في أعمال البيت‏,‏ لكني لم أشعر علي أية حال بأي نقص في قدرات فتاتي كربة بيت وقامت بأعمال البيت علي وجه مرض‏.‏

وساعدتها الأجهزة الكهربائية علي ذلك‏..‏ ومضت بنا الأيام ‏..‏ وأنا أحاول الحفاظ علي علاقتي بأمي ‏..‏ فأزورها وأقوم بكل واجباتي تجاهها‏ ..‏ واستجدي الكلمة الطيبة منها ‏..‏ وهي كما هي لاتوصد بابها دوني ولا تشعرني في نفس الوقت برضائها عني‏,‏ ولا تزورني في بيتي‏..‏ ولا تقبل زوجتي‏.‏

ولاحظنا بعد فترة من الزواج تأخر الحمل ‏..‏ فبدأنا رحلة الطواف علي الأطباء‏ ..‏ وانتهت للأسف باكتشافي أنني غير قادر علي الإنجاب ‏..‏ وشعرت بالحزن الشديد وعرضت علي زوجتي أن أطلقها لكي تعيش حياتها وتتزوج من آخر وتنجب أطفالا‏,‏ فرفضت ذلك بعنف شديد وقالت ليإنني لو فعلت فلسوف أكون قد آذيتها أذي بليغا مرتين‏,‏ الأولي حين خطبت غيرها وأنا أعلم أنها تحبني وأنا أحبها‏,‏ والثانية حين أنفصل عنها ‏..‏ وأكدت لي زوجتي أنها لن تقدر علي مواصلة الحياة بدوني‏..‏ ورجتني ألا أفكر في هذا الأمر أبدا‏.‏

ومنذ ذلك الحين وأنا حائر في أمري‏ ..‏ أشعر في بعض الأحيان بأن من واجبي أن أطلقها ولسوف تنساني ذات يوم وتعيش حياتها ‏..‏ وأشعر في أحيان أخري بأنني لا أقدر علي هذا القرار ولا أريده‏ ..‏ فبماذا تنصحني أن أفعل خاصة أنني لا أقدر أحيانا علي النظر في وجهها من الخجل‏,‏ وهل تكتب كلمة لأمي لكي تغير موقفها من زوجتي‏,‏ وتقول لها إن الانسان لا يعيش مع جسد بل مع روح وكيان وأن فتاتي لم تمنعها إعاقتها من شيء في حين حرمتها أنا من حقها في الإنجاب بسبب ظروفي؟

رائج :   من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || الشمس الباردة

ولكاتب هذه الرسـالة أقـول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

ولماذا تعجز عن النظر في وجه زوجتك خجلا منها؟ وماهي جريرتك في الحرمان من الإنجاب سواء أكان مؤقتا أو دائما‏,‏ وهو قدر مقدور علي من يمتحن به؟

إن الإحساس بالذنب تجاه زوجتك قد يكون مفهوما إذا كنت قد علمت بعجزك عن الانجاب قبل الزواج وكتمته عن زوجتك‏ ..‏ أو إذا كنت قد اكتشفته بعد الزواج وقصرت في طلب العلاج منه وهو ممكن‏,‏ أو إذا كنت قد أكرهت زوجتك علي العيش معك رغما عنها ورفضت إطلاق سراحها حين طلبت منك ذلك‏,‏ أو حتي إذا كنت قد تحايلت علي زوجتك عاطفيا وابتززت مشاعرها ومارست عليها ما يشبه الإكراه العاطفي‏,‏ لكي تقبل باستمرار الحياة معك إشفاقا عليك ‏..‏ أو عجزا عن إيلامك علي عكس رغبتها الكامنة في أعماقها في التخلص من ارتباطها بك وأنت لم تفعل شيئا من ذلك ‏..‏ وإنما اكتشفت عجزك عن الانجاب وقد يكون مؤقتا وصارحت زوجتك به وخيرتها في أمرها فاختارتك بملء إرادتها‏,‏ ونهتك عن التفكير في الانفصال عنها ذات يوم‏.‏

فما وجه الاحساس بالذنب أو النقص تجاهها؟
أليست الحياة اختيارات حرة للإنسان؟

وألم تقل أنت عن نفسك إنك عجزت في بعض المراحل عن الإقدام علي الارتباط بزوجتك هذه بسبب ظروفها الخاصة لأنك لم تكن وقتها تملك الشجاعة الكافية لذلك‏,‏ وأنه حين امتلكتها أقدمت علي الزواج منها وسعدت بحياتك معها بالرغم من معارضة والدتك واشفاق المشفقين عليك من الظروف الخاصة لزوجتك؟
لماذا إذن تتصور أن زوجتك أقل شجاعة نفسية أو أقل تقديرا لجوهر الأمور منك؟

أليس من حقها هي الأخري أن يكون لها اختيارها الحر ‏..‏ حتي ولو كان ذلك في وجه إشفاق المشفقين عليها من الحرمان من الأمومة‏,‏ كما كان الحال معك عند ارتباطك بها؟

وأليس أكثر الزيجات نجاحا واستقرارا هي التي يعوض فيها كل طرف نقص الآخر ويجبر كسوره فيتكاملان معا ويواجهان الحياة بقوة الحب والفهم والعطف والتضحية المتبادلة؟

إن الحياة لم تتوقف عند مجرد اكتشافك بعجزك عن الانجاب الآن‏..‏ فهي كما يقول لنا الكاتب الحكيم إريك فروم‏:‏ عملية ميلاد مستمر وإن كانت المأساة في حياة بعضنا هي أننا نموت قبل أن يكتمل مولدنا أي قبل أن تشهد حياتنا العدد الكافي من الميلادات الجديدة‏!‏

فكل مرحلة من حياتنا هي ميلاد جديد لنا ‏..‏ وزواج فتاتك منك واستقرارها العاطفي معك بعد اليأس منك ميلاد جديد لها‏..‏ وحبها لك وتمسكها بك بالرغم من مسألة الإنجاب بعد الاشفاق من الانفصال عنها ميلاد آخر لك‏,‏ ولسوف تتوالي الميلادات في حياتك بإذن الله وقد يكون من بينها حل مشكلة الإنجاب بعد طول الصبر والانتظار كما يحدث في حياة كثيرين‏,‏ فلماذا لاتعطي الصباح فرصة لكي يطلع عليك بأمل جديد ولو بعد حين‏,‏ أو لكي يحمل لحياتك قيمة أخري تعوضك عما ينقصك فيها؟

أما والدتك فلن أطيل في حديثي إليها وإنما سأقول لها فقط إنني أتفهم جيدا دوافعها الأمومية لموقفها من زواجك‏,‏ فلقد أرادت لك ككل الأمهات الأفضل والأرفع دائما من ثمرات الحياة‏,‏ لكن السعادة ياسيدتي في النهاية ليست بمقاييس كمال الأجسام ولا بأية معايير جسمانية أو مادية‏.‏ ومادام الأبناء قد سعدوا بما اختاروه لأنفسهم حتي ولو كان دون ما أردناه نحن لهم‏..‏ فلماذا لا نسعد بسعادتهم ونمنحهم مباركتنا لحياتهم لكي يعيشوا في سلام؟

وأليست الأمومة عطاء من البداية إلي النهاية؟ فلماذا إذن تحجبين عطاء عفوك عن زواج ابنك علي غير إرادتك‏..‏ وعطاء أمنياتك الطيبة له ولزوجته بالسعادة والأمان في حياتهما‏!‏

 

مقالات ذات صلة