الضغوط الإقتصادية كانت قد نالت من ألمانيا على مدار فترة الحرب ما تسبب فى ثورات جياع متتالية داخل ألمانيا .. فترة الحرب كانت أربعة سنوات و ربع و هى فترة طويلة لكى تقف ألمانيا موقف المتفرج و هى تتلقى الضربات الإقتصادية الواحدة تلو الأخرى .. كان لابد من رد .. و هنا جاء دور العملاء و الجواسيس ليقوموا بدور لم تستطع الآليات الحربية القيام به .. الإضطرابات الداخلية ..
الحرب الخفية كانت مفادها شيىء واحد .. إذا لم تستطع إقتحام حدود عدوك حربياً فعليك زعزعة استقراره داخلياً .. الواقع كان ينذر بحدوث الإضطرابات دون تدخل من أحد و لكن العملاء و الجواسيس كانوا عامل مساعد بالتأكيد .. الجنود مع طول فترة القتال سأمت الحرب .. فى روسيا و إيطاليا و فرنسا و إنجلترا و حتى فى قوات المركز ألمانيا و النمسا – المجر و الدولة الوحيدة التى ظل جنودها يحملون جزءاً من الحماسة للحرب كانت الإمبراطورية العثمانية لأنهم رأوا المشاركة فى الحرب دعوة للجهاد و لوحدة الخلافة الإسلامية أكثر منها مشاركة لأغراض سياسية ..
كما حدث فى ألمانيا تكرر الأمر فى كل الدول المشاركة تقريباً .. زيادة فى الأسعار مع نقص فى الأجور و قلة فى معدلات الرعاية الإجتماعية و الطبية جعل النقابات العمالية تضرب أكثر من مرة فى إنجلترا و فرنسا و روسيا و إيطاليا و معها وصلت تلك الأخبار إلى جبهات القتال و التى أصابت الجنود بنوع من الوهن و ضيق الصدر خصوصاً مع ضعفهم الواضح أمام القوات الألمانية و عدم قدرتهم على إختراقهم ..
زاد الأمر سوءاً ضعف الخطط الإستراتيجية التى كان يضعها القادة العسكريين فى قوات الحلفاء فشعر الجنود أنه يتم إلقاؤهم فى نار المعارك دون خطط مدروسة جيداً مما يجعلهم فريسة سهلة فى أيدى الألمان .. حتى صار ترك القتال أمنية تراود كل جندى من قوات الحلفاء فى ذلك الوقت ..
أمنية جعلت أكثر من 350 ألف جندى إيطالى يلقون أسلحتهم و يستسلموا للقوات الألمانية بقيادة إيروين روميل و زاد الأمر دراماتيكية حين كان الجنود الطليان يقتلون زملاؤهم الذين لم يرغبوا فى الإستسلام بالرصاص .. بجانب هذا العدد كان هناك عدداً يماثله تقريباً يترك آلياته و ينسحب جنوباً غير راغبين فى القتال ..
فى فرنسا قام الجنود فى أغلب الجبهات بعمل إضراب و الإختباء فى الغابات إعتراضاً على سوء الخطط العسكرية .. فى بريطانيا قامت طبقة العمال بعمل إضرابات لتحسين الأجور و التأمينات و المعاشات التقاعدية مما أجبر ديفيد لويد جورج رئيس الوزراء على الإستجابة لمطالبهم لأن توقف الصناعة كان أكبر عامل يؤثر على قدرة الجيش على الإستمرار .. الإقتصاد وحده يستطيع إنجاح أو إفشال كل شيىء من وجهة نظره ..
على عكس ما قام به رئيس الوزراء البريطانى رفض القيصر الروسى نيقولا الثانى تلبية مطالب العمال مما حفز الشعب للقيام بمسيرات سلمية و التمركز فى ميدان زنامينسكى وسط مدينة بتروجراد أو سان بيترسبرج الآن .. و بناءاً على أوامر القيصر قامت قوات الجيش بفتح النار على المحتجين ..
أكثر من 50 مدنياً قتلوا ذلك اليوم فكانوا الشرارة التى أشعلت الثورة الروسية فى عام 1917 .. مع الوقت رفض ضباط الجيش تنفيذ أوامر القيصر فى قتل المحتجين العزل و إنضموا لهم مما ساهم فى تسريع وتيرة الإنشقاقات فى الجيش حتى سقط القيصر و قامت حكومة مؤقتة بإدارة البلاد ..
وضع مثل هذا لابد و أن تستفيد منه ألمانيا بالتأكيد فساعدت فلاديمير لينين زعيم الحركة البلشفية لدخول روسيا عبر أراضيها و دعمته بالأموال هو و حزبه الذى كان يضم جوزيف ستالين لنشر أفكاره الشيوعية فى روسيا و كانت رغبته هى إنهاء الحرب و عدم إثقال كاهل الدولة بمزيد من النفقات العسكرية ..
وعد الناس بالخبز و السلام و الأمن فلامس قلوب الشعب الفقير من ناحية و لامس قلوب الجنود الروس المنهكين على الجبهة من ناحية أخرى مما ساهم تدريجياً فى إستيلائه هو و حزبه على الحكم بعد تأسيسه لميلشيا الجيش الأحمر بالأموال التى دعمته بها ألمانيا و كان أول قراراته هو سحب الجيش و الإنسحاب رسمياً من الحرب .. قرار ساهم فى تحرير القوات الألمانية فى الجبهة الشرقية و تعويض النقص فى الجبهة الغربية .. راهنت ألمانيا على لينين و فازت بالرهان فى النهاية ..
ألمانيا لم تترك بريطانيا و أيضاً ساعدت الحركات القومية الأيرلندية بالسلاح .. تلك الحركات الداعية لإستقلال أيرلندا عن المملكة المتحدة .. يجوز لم تنجح فى النهاية بسبب بعد المسافة و بسبب صعوبة المرور من بحر الشمال إلا أنها حاولت المساعدة قدر أستطاعتها .. أيضاً قامت إنجلترا بإعدام الثوريين الذين أدينوا بالتعاون مع ألمانيا مما صورهم كضحايا فى أعين الشعب الأيرلندى و بالتالى زرع بذرة الإنفصال فى نفوسهم مما أثار المزيد من التوترات داخل المحيط البريطانى ..
فى المقابل بريطانيا لم تسكت و ساهمت فى تفكك إحدى أهم حلفاء ألمانيا و زعزعة إستقرارها الداخلى .. الإمبراطورية العثمانية ..
الإمبراطورية العثمانية كانت بالفعل مريضة و نعم لم تكن عادلة فى توزيع المناصب القيادية و نعم كانت تعامل الدول العربية التى كانت تحت سيطرتها معاملة المقاطعات و ليست كدول كبيرة لها الحق على الأقل فى إدارة شئونها بمفردها لكنها فى الأخير كانت أخر حصن لبلاد المسلمين و أكبر كيان إسلامى وقتها و نجاح بريطانيا فى تشجيع القبائل العربية فى الإنقلاب على الإمبراطورية كان أكبر نجاح عملى على الأرض لاقته القوات البريطانية ..
بريطانيا قدمت عرضها عن طريق اللورد هربرت كتشنير للقبائل العربية فى بلاد الحجاز تحت قيادة الشريف حسين أمير مكة مفاده أنه إذا ساعدتها القبائل فى تلك الحرب فإنهم يضمنون لهم الإستقلال ببلادهم و حمايتهم و ضمان أمنهم و أيضاً دعمهم بالقوة العسكرية و التكنولوجية لتجعلهم فى مصاف الدول الكبرى ..
عرضاً سال له لعاب الشريف حسين خصوصاً مع إغداق بريطانيا عليه بالذهب و التلميح له دوماً بأنه إذا سار الأمر على ما يرام فإنه سيكون زعيم العرب .. بريطانيا لم تكن لتفى بوعدها أبداً تحت أى ظرف من الظروف و لم يكن فى حساباتها أبداً دولة إسلامية عربية قوية فهى جاءت أساساً لإضعاف شوكة إمبراطورية إسلامية فكيف لها المساعدة بقيام واحدة مكانها .. بكل أسف إبتلع الشريف حسين الطعم بسهولة ..
بريطانيا لم تكتفى بإتفاقها الذى أتمته فقط و لكن زرعت ضمن قوات الشريف حسين جاسوسها الأشهر بالنسبة لنا كعرب تى لورانس أو كما هو متعارف عليه بيننا لورانس العرب ..
( تى لورانس ) أوصى بعدم مواجهة الثوار العرب لأى سرية أو كتيبة تركية فى أرض مفتوحة لأن موازين القوى تميل بشدة للقوات التركية و عوضاً عن تلك المواجهة فقد أوصى بحرب العصابات و إنهاك القوات العثمانية عن طريق نهب القوافل التجارية و تفجير خطوط السكك الحديدية .. دور ( تى لورانس ) لم يكن فقط نقل الأخبار و لكن الأهم كان تغذية النعرة القومية و تنميتها فى نفوس الثوار العرب مع رسم صورة نموذجية لدولتهم القادمة و التى فيها يحكم العرب أنفسهم ..
الخطة البريطانية كانت بالأساس تهدف إلى الإستيلاء على مدينة القدس لما لها من أهمية تاريخية و دينية ما سيساهم بكل تأكيد فى إنهيار معنوى كبير للقوات العثمانية و لكى يتم ذلك كان يجب الإستيلاء على ميناء العقبة و ميناء العقبة محمى بمدافع تشابه التى واجهها الأسطول البريطانى فى مضائق الداردنيل ما يعنى خسائر فادحة لا يجب حدوثها مرة أخرى ..
كان البديل هو التمرد العربى و بالتالى رحلة عبر الصحراء لمسافة 600 ميل حتى الوصول للميناء و الهجوم عليه من الجهة غير المحمية ما سيسهل بكل تأكيد مهمة احتلال القدس .. بعد سقوط العقبة جاء دور الجنرال الإنجليزى ألينبى قائد القوات البريطانية فى المنطقة فقام بتجهيز آلياته الحربية و توجه نحو القدس لإحتلالها و هو ما حدث بالفعل يوم 11 ديسمبر 1917 حين دخل القدس مشياً على الأقدام مع ضباطه .. ضباطه الذى كان بينهم ضابط شاب يبلغ من العمر 28 عاماً إسمه ( تى لورانس ) ..
فجأة وجد العرب أنهم قد خدعوا و أنهم كانوا مجرد وسيلة لإحتلال القدس و إضعاف الإمبراطورية العثمانية فهم لم ينالوا إستقلالهم بل ما حدث أنهم حصلوا على أسياداً جدد بدلاً من أسيادهم السابقين و هو ما أقر به ( تى لورانس ) بعدها بفترة طويلة حيث قال نصاً :
( لقد إعتبرنى العرب عميلاً للتحرير و ممثلاً للحكومة البريطانية و طلبوا منى تأكيداً مكتوباً خطياً على تلك الوعود .. و هكذا كان على المشاركة فى المؤامرة و طمأنة الرجال على جائزتهم التى سينالونها .. كنت أشعر دائماً بخجل مرير فلو كنت ناصحاً صادقاً مع العرب لكنت نصحتهم بالعودة لديارهم و أن لا يتحملوا مخاطرة القتال من أجل هذه الأمور )
فى الوقت الذى ارتاحت فيه ألمانيا من خطر الروس فى الشرق فقد تهاوت دفاعات إحدى أهم حلفائها فى الجنوب الشرقى و مع دخول الولايات المتحدة للحرب فكان لزاماً عليها إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن .. من الواضح أنه يجب عليها القيام بحملة كبيرة و شاملة لعلها ترجح كفتها على أعدائها قبل أن تجد جيوش 4 دول على جبهتها الغربية .. فهل تستطيع ؟