من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)
قرأت رسالة ” الأشغال الشاقة ” للفتاة ابنة الثامنة عشرة التي تشكو من سوء معاملة زوجة أبيها لها واضطهادها وتكليفها بكل الأعمال الشاقة في البيت , مما يؤثر على فرصتها في الدراسة ولست أريد أن اكرر مطالبتك لها بالصبر إلى أن تبدأ حياتها .. أو أن أعيد تذكير زوجة أبيها بعدالة السماء التي تعاقب كل آثم بما فعل .. وإنما أريد أن أروي لكاتبة الرسالة قصة حياتي وأعاهدك ألا أخفي منها ما قد يخجلني أو حتى ما يتعارض مع وضعي الذي ستعرفه من سياق الرسالة فيما بعد ثم أدعو الفتاة بعد ذلك أن تفهم ما أريد أن أقوله لها
وابدأ بأن أقول لك : إني ولدت بين أبوين مختلفي الطباع الأم ربة بيت لا حول لها ولا قوة والأب رجل أعمال مغامر وله سهراته ودنياه العريضة فتم الطلاق بعد سنة واحدة من مولدي .. وانشغل أبي بدنياه ونسيني تماماً وتزوج .. وبعد قليل تزوجت أمي .. من موظف شاب لم يرحب بأن تنتقل إليه عروسه ومعها وليدها بالطبع ..
فكان الحل الذي اتفقت عليه الأسرة هو أن تضمني خالتي مع أولادها كابن جديد لها مقابل مساعدة مالية بسيطة من خالي ومن خال أمي , وقبل زوج خالتي ذلك الوضع .. ونشأت بين أطفال احسبهم إخوتي وأم أظنها أمي وأب أتصوره أبي .. وظل الوضع على هذا الحال إلى أن كبرت والتحقت بالمدرسة ثم تلقيت أول إشارة إلى أن من أعيش في كنفه ليس أبي حين لاحظ احد المدرسين أن اسم الأب يختلف عن اسم ولي الأمر الذي يوقع على شهاداتي الدراسية
وسألني عن ذلك فلم أحر جواباً ثم سألت أخوتي فعرفت الحقيقة وكانت هذه هي صدمتي الأولى في الحياة إذ بدأت أفهم وأنا في سن صغير سر قسوة خالتي وزوجها علي وحدي من بين باقي ” إخوتي ” مع أني متقدم في الدراسة منذ عامي الأول ويجيء ترتيبي الأول دائماً في كل سنة , في حين يرسب بعض إخوتي أو ينجحون بصعوبة , وعرفت أيضاً لماذا يتم تكليفي وحدي بكل الإشغال الشاقة في البيت , ولماذا يتحتم علي أن أصحو في الفجر في شتاء الإسكندرية القارص لأحضر الإفطار لزوج خالتي من محل بعيد , امشي إليه على قدميَّ في شتاء الإسكندرية نصف ساعة في صقيع الصباح لان هذا المحل بالذات يجيد صنع الطعمية !
أما عن متاعب الحياة الأخرى فكثيرة ولا أريد أن أكررها لكني سأقول لك فقط إن عشائي لسنوات عديدة كان قرشاً واحداً أتقاضاه كل ليلة بعد أن تصرخ أمعائي من الجوع فأشتري بنصفه رغيفاً وبالنصف الآخر عسلاً أسود والتهمه في لحظات فلا يسد لي جوعاً , أما الليالي التي بت فيها على الطوى لعقاب حرمني من قرش المساء أو لأي سبب آخر فلا عدد لها .. وأما ملابسي فما يشتريه لي خالي أو خال أمي كلما استطاعا ذلك , وأما مذاكرتي فمعظمها في الشارع تحت عمود النور كما ترى في الأفلام المصرية القديمة لان زوج خالتي حدد لي موعداً لإطفاء لمبة الكهرباء الصغيرة ذات الـ25 واط في العاشرة مساء توفيراً للكهرباء وخيرني إذا أردت الاستذكار بعدها فلأذاكر لأولاده أولاً وإلا فلا مذاكرة .
فكنت أحاول مساعدة أبناء خالتي بقدر جهدي ولا أضن عليهم بمساعدة , كما كنت أحاول أيضاً ألا أهمل مذاكرتي وأنا من يعرف أنه لا سند للإنسان في الحياة إلا تفوقه فكنت أستأذن أحياناً لدخول الحمام ثم اخرج الكتاب من جيبي وأخطف بضع دقائق للمذاكرة , ولا أنسى يوم أن ضبطني زوج خالتي سامحه الله مرة وأنا اختلس المذاكرة في الحمام فكان عقابي علقة قاسية تركت آثارها على جسمي شهوراً .
ورغم ذلك فلقد كانت الحياة تمضي بين قسوة دائمة ولمسات عطف متقطعة وبين اضطهاد من خالتي وزوجها …ورحمة وعطف من أبنائهما …بل وعطف أيضاً من أسرة من جيراننا كانت تقدر لي تفوقي وتحثني على الصبر والكفاح , وكانت أسرة مسيحية سيكون لها في حياتي شأن ستعرفه بعد قليل .
ووصلت إلى الثانوية العامة .. وفي هذه السن نكبت بوفاة خالي وخال أمي اللذين كانا ينفقان علي فأصبحت بلا نصير وأعلن زوج خالتي أنه لم يعد يستطيع أن يتحمل عبئي أكثر من ذلك لأنه أدى الواجب وما هو أكثر منه وأنه يجب أن يتحمل أبي مسئوليتي .
أبي .. وأين هو طوال هذه السنوات وكيف الوصول إليه , وهو لا يعرف حتى شكلي .. فأعطاني زوج خالتي رقم تليفونه وطلب مني أن أتصل به وأن أبحث لنفسي عن مأوى جديد لأن أبناءه كبروا وضاق بهم المسكن ولم يكن باقياً على امتحان الثانوية العامة سوى 15 يوماً وكانت الشهور السابقة أقسى فترات حياتي من ناحية سوء المعاملة فلم أحصل دروسي خلالها جيداً , فأسرعت اتصل بالرقم وجاء صوت أبي الذي لا يعرفني ولم يرني وقد صرت الآن في التاسعة عشرة من عمري , وأجابني بحذر وأنكر أنه صاحب الرقم وإنما هو شريك له في مكتبه التجاري ثم طلب مني أن أزوره ليبحث معي الأمر , فذهبت إليه وأنا متأكد أنه أبي ولا أعرف لماذا ..
ودخلت شقة بمحطة الرمل على الكورنيش فرأيت لأول مرة رجلاً في الخمسين من عمره يبدو خبيراً بالحياة فبدأني بأن ” أبي ” مسافر إلى ليبيا في عمل وأنه شريكه ثم راح يسألني عن حياتي ولم تهتز شعرة في رأسه حين قلت له أني بلا مأوى وسأتقدم لامتحان الثانوية العامة بعد 15 يوما ثم أعطاني جنيهاً وطلب مني الاتصال بالرقم بعد أسابيع بعد عودة ” أبي ” إن شاء الله !
ووجدت نفسي وحيداً في شوارع الإسكندرية لا أعرف أين أذهب ولا أستطيع العودة لبيت خالتي وليس من بين أصدقائي من تسمح له ظروفه باستضافتي في تلك الفترة .
ولم أجد مكاناً اذهب إليه سوى الشارع الذي تربيت فيه فعدت إليه ووقفت حزيناً بين بعض أصدقائي وكانت قصتي معروفة بينهم , فإذا بابن أسرة جيراني المسيحيين التي حدثتك عنها يا سيدي يستدعيني لمقابلة أبيه فصعدت معه .. ففوجئت به يعرض علي أن يستضيفني قي بيته فترة الاستعداد للامتحان وما بعده .
وجاء عرضه لي هدية من السماء فقبلته شاكراً .. وعشت معهم وواصلت الليل بالنهار في الاستذكار وتقدمت للامتحان ونجحت بمجموع 71 % فقط .. وتقدمت بأوراقي لمكتب التنسيق فرشحت لهندسة أسيوط .. لكني قررت فجأة أن أتقدم لكلية الشرطة عسى أن تقبلني فأجد لنفسي مأوى داخل جدرانها وشجعني جيراني الطيبون على ذلك , وفي كل مرة كنت أسافر فيها للقاهرة لإجراء الاختبارات كانوا يعطونني جنيهاً لأنفق منه على سفري وعودتي وجئت مرة لأحد الاختبارات فوجدته قد تأجل لليوم التالي فلم أجد وسيلة لقضاء الليلة في القاهرة سوى المبيت في عربة ترام العباسية بعد أن شرحت للسائق حكايتي فتركني أبيت فيها مقسماً لي أنه لو كان في حجرته موضع لقدم لاستضافني فيها !
وفوجئت بتفوقي في كل الاختبارات وقبولي بالكلية .. وأصبحت المعجزة التي تنتظر حلاً من السماء هي الحصول على مبلغ 67 جنيهاً لرسوم السنة الأولى و 25 جنيهاً لرسوم الملابس .
وكان ” ابي ” الذي أنكر نفسه مني قد كف عن إنكاره لشخصيته واعترف لي بأنه أبي ووعدني بالمساعدة لكنه تخلى عني فجأة في اللحظة الحرجة ليس عجزاً ولا بخلاً وإنما أنه كان إنساناً بوهيمياً عبقرياً في كسب المال وعبقرياً أيضاً في إنفاقه في سفه وحين جاء موعد سداد الرسوم لم يكن معه ما يدفعه لي فبدأ أصدقاء المدرسة يساهمون في جمع المبلغ , فلم يستطيعوا إلا تدبير مبلغ 25 جنيهاً , وبقيت العقبة الكبرى وهي مبلغ 67 جنيهاً , وجاء يوم دخول الكلية وأنا لا أجده فأبرقت إلى الكلية معتذراً عن التأخير بدعوى أن أبي يجري عملية جراحية , ورحت أنتظر أن يفي أبي بوعده لي ويعطيني المبلغ حتى مضى آخر موعد حدده لي بلا جدوى فيئست تماماً وسلمت أمري لله .. وبدأت أعيد مبلغ الـ 25 جنيهاً إلى أصدقائي , فإذا بجيراني الذين احتضنوني خلال هذه الفترة العصيبة يقدمون لي مبلغ الـ 67 جنيهاً كاملاً لأدفعه للكلية .
وحين بكيت تأثراً مسح الأب الطيب على رأسي وقال لي : إنه ليس إعانة لكنه هدية وسوف تردها لي أو لأولادي حين تصبح رجلاً عظيماً , وشغلتني الأم والابنة والأبناء بالضحك والهزار حتى تخففت من آلامي ودخلت الكلية وأمضيت فترة المستجدين وهي 45 يوماً وأنا في غاية السعادة لأن لي مأوى وطعاماً وخرجت في أول إجازة مزهواً بالبدلة الميري وسافرت إلى الإسكندرية وذهبت إلى بيت خالتي لكي أخفف عن جيراني الطيبين الذين تحملوا إقامتي معهم كل تلك الفترة ففوجئت بعد الاستقبال الفاتر بزوج خالتي يقول لي في صرامة إنه لا مكان لي عنده فذهبت إلى بيت أبي , فقابلني مقابلة عادية ودعاني لتناول كوب من الشاي ثم طلب مني الانصراف لأن زوجته ليست مستعدة لاستضافتي فخرجت إلى الشارع حزيناً …
وذهبت إلى لوكاندة متواضعة بقروش في الليلة ودخلت إلى غرفة عارية من الأثاث وفي غاية القذارة وخلعت بدلتي وجلست على السرير , وتجمعت في صدري فجأة كل أحزاني وآلامي فانفجرت في بكاء متواصل لم أبك مثله طوال حياتي ورغم كل ما لقيته من عناء .. ورفعت رأسي إلى سقف الحجرة ” وخاطبته ” بصوت مسموع : زملائي عادوا بالفرحة لأهلهم وقوبلوا بالعناق والقبلات , وأهلي لم يقابلوني إلا بالإنكار فهل يرضيك هذا .. وأين اذهب ولمن ألجأ ؟ فهل يرضيك هذا ودموعي تهطل ولا أقول تسقط حتى لم يعد في عيني دموع .. فإذا بسكينة من عند الله تهبط علي فجأة فأقوم فأتوضأ وأصلي ركعتين لله وأنهض من صلاتي واستلقي على السرير وأروح في نوم هادئ كأني عائد من نزهة على شاطئ البحر .
وفي اليوم التالي أقرضتني ابنة خالتي بضعة جنيهات أخرى تضاف إلى ديوني القديمة التي سأردها عندما أعمل بإذن الله .. وذهبت إلى جيراني الذين وقفوا معي في شدتي وجلست بينهم ساعات طويلة وعدت للكلية ومضت شهور الدراسة وتفوقت كعادتي واقتربت إجازة الصيف وكلما اقترب موعدها فرح الطلبة وحزنت أنا .. ووجدت نفسي ذات مرة أمام كبير المعلمين بالكلية وكان رجلاً فاضلاَ فتشجعت وطلبت منه طلباً غريباً هو أن تسمح لي الكلية بالبقاء فيها خلال أجازة الصيف !
فاتسعت عيناه من الدهشة وسألني عن السبب .. فرويت له كل ظروفي ودمعت عيناه تأثراً وهو يستمع إلي ثم قال لي : دع هذا الأمر لي وثق في رحمة الله .
ثم جاءت الأجازة فأرسلني بخطاب منه إلى مدير امن الإسكندرية الذي درس حالتي وتأكد من صدق كل بياناتي فأصدر قراراً لا أظن أنه له سابقة من قبل وهو أن أقيم وأنا طالب في استراحة ضباط الشرطة بالإسكندرية وأن تُصرف لي وجبة غداء كل يوم في نادي ضباط الشرطة , وكتب تقريراً بحالتي للكلية .. وكانت هبة أخرى من هبات السماء لي , لكنها لم تستمر في العام التالي بكل أسف إذ نقل مدير الأمن وجاء آخر لا يعرف قصتي فحرمت من تلك الميزة , وكنا قد بدأنا كطلبة نتدرب في أقسام الشرطة .. فطلبت أن يكون تدريبي في نوبة الليل لأمضي الليالي ساهراً فيها وأنام في النهار في كبائن بعض الضباط الذين يعرفون حالي على الشاطئ وهكذا …
ورغم كل ذلك فقد كنت أنجح بدرجة جيد جدا كل سنة ولا أتوانى عن مساعدة زملائي بالكلية في دروسهم .. وعرف عدد منهم قصتي فكان كل منهم يدفع عشرة قروش كل يوم في جمعية يقبضها أحدهم كل أسبوع ويدسها في جيبي سراً لأنفق منها في شئوني .. وإن عشت الدهر كله فان أنسى فضل هؤلاء الطلبة عليُ كما لن أنسى أن بعضهم قال لي ثائراً إنه حين يتخرج سوف يعث في الأرض فساداً انتقاماً مما يفعله جيل الكبار بالأبناء الذين لا حول لهم ولا قوة وكيف رددته إلى صوابه وذكرته بأن في الناس خيراً كثيراً لكن سوء حظي هو الذي أنشأني في أسرة تمزقت خيوطها ..
وكما لن أنسى فضل الأسرة الطيبة التي احتضنتني وكنت أزورها كل إجازة وامضي مع أبنائها وبناتها كل وقتي وكانت كبراهن أكثرهم حناناً بي – فكان طبيعياً – أن أميل بقلبي لها وأكتم مشاعري عنها حتى صارحتني هي وصارحتها لكني أكدت لها إني رغم أني أتمناها لا أستطيع أبداً إيلام أبيها وأمها وإخوتها بمتاعب الزواج مع اختلاف الدين .. فإن ضمنتِ لي رضى أبويك بغير أي آلام نفسية لهما فإني سأكون اسعد الناس بها فتفهمت الوضع بتعقل تام وبلا مرارة واتفقنا على التضحية بحبنا من اجل أسرتها
ولم تلبث مشاعرها بعد شهور أن اتجهت إلى شاب آخر من دينها وارتبطا عاطفياَ وأعلنت خطبتهما وغالبت آلامي وسعدت لها بقلب يحمل لها كل الخير وحضرت إكليلها بين إخوتها وأبناء وبنات خالتي وكنا أسعد الناس بها وهي بالثوب الأبيض , ولم تمض شهور أخرى على الخطبة حتى كنت أؤدي امتحان السنة الثالثة بكلية الشرطة مع طلبة السنة الأولى بكلية الحقوق …وكانت لي شعبية بين الطلبة لتفوقي ولأني لا أتوانى عن مساعدتهم وأوزع عليهم ملخصات مدروسة لمراجعتها قبل الامتحان وأثناء انهماكي في الإجابة تنبهت إلى طالبة من طالبات الحقوق تجلس بجواري وتهمس لي بسؤال عن الامتحان لا تعرف إجابته .. فهمست لها بالإجابة , وبعد الامتحان جاءت إلى فراجعت معي الإجابة وطمأنتها على إجابتها وانصرفت لحال سبيلي ونسيت أمرها تماماً .
ومر عام آخر وبدأت امتحان السنة الرابعة فإذا بنفس الطالبة تجلس بجواري في نفس المكان وبعد قليل بدأت تهمس لي مستغيثة فلبيت النداء بقدر ما سمحت به ظروف عملية المراقبة وأنا خائف بالطبع والتقينا بعد الامتحان .. فكانت بداية لحب كبير في حياتي واتفقنا على الارتباط بعد تخرجي وتخرجت متفوقاً كالعادة وعينت في مدينتي الإسكندرية وأقمت في استراحة الضباط .. وأصبحت أتقاضى مرتباً قدره 43.50 جنيه ..
وبدأت أسدد ديوني القديمة كإقساط شهرية وأسافر للقاهرة كل شهر لزيارة خطيبتي – ثم بدأت سحب الظلام التي تكثفت فوق سماء حياتي منذ ميلادي تنقشع واحدة بعد الأخرى وربما لن تصدق ما سوف ارويه لك لكن ربي شهيد على أني لا احكي لك إلا الصدق والحقيقة , فقد علمني كفاح الليالي ألا أهمل واجباً .. وألا أتوانى عن خدمة إنسان في حاجة إلى خدمتي بعد أن ذقت مرارة النكران وافتقاد النصير …فإذا ما تسميه أنت في ردودك بجوائز السماء تنهال علي في كل خطوة من خطوات حياتي العملية ..كأني من المحظوظين مع أنه لا سند لي سوى عملي وكفاءتي واجتهادي فلا أتقدم لامتحان ترقية إلا وفوجئت بأني الأول بين الناجحين , ولا أقدم بحثاً في دورة تدريبية إلا أفاجأ به فائزاً بالمركز الأول حتى فوجئت بعد قليل باختياري في احد الأعوام الضابط المثالي .. والرياضي المثالي ..
ونودي على اسمي في احد احتفالات توزيع الجوائز أربع مرات لأصعد وأصافح الوزير وأتسلم جوائزي , فلفت نظره ذلك وسألني عن الجهة التي أحب انتقل إليها مكافأة لي وتوقع بالطبع أن يسمع مني أني أريد الانتقال إلى القاهرة أو شرطة السياحة مثلاً أو إلى المطار كما يفضل شباب الضباط ففوجئ بي أطلب منه نقلي إلى قنا لأحصل على سكن إداري أقيم فيه وأتزوج وأجمع شملي فيه مع فتاتي ووافق الوزير على الفور ..
وسافرت لقنا وحصلت على السكن واستدعيت أمي من الإسكندرية لتقيم معي لفترة تحت سقف واحد لأول مرة في حياتي واستدعيت زوجتي التي كنت قد تزوجتها ولم يكن لنا عش نجتمع
فيه .
ولم يستقر بنا الحال طويلاً هكذا إذ تغير المحافظ الذي منحني السكن وطلبوا مني إخلاء الاستراحة فأعدت أمي وزوجتي على مستقريهما وانتقلت للإقامة في معسكر الأمن المركزي ووهبت نفسي لخدمة جنوده وحل مشاكلهم وهم من أبناء الشعب الغلابة مثلي فكان دعاؤهم لي أن يفتح أمامي كل الأبواب المسدودة فحصلت على ترقيتين استثنائيتين خلال ستة شهور ..
ثم توالت علي ” الفتوح ” التي لا أعرف سرها فأصبحت ” فاكهة ” تتخاطفها الإدارات ,فانتدبني محافظ قنا الجديد مسئولاً للعلاقات العامة بالمحافظة .. وعينني أحد الوزراء بعد قليل مشرفاً على مصايف ضباط الشرطة بأحد الشواطئ , ثم انتدبتني إحدى هيئات الشرطة التي يقاتل أصحاب الصلات للعمل بها فعملت بها وحققت في عملي نجاحاً كبيراً وأخيراً حصلت على مسكن بالقاهرة واجتمع شمل أسرتي .
واعترف أبي بتقصيره في حقي وهو في مرضه الأخير , وبكى بالدموع وهو يطلب صفحي فسامحته بقلب صاف .. لم يلبث بعدها بقليل أن توفي فطلبت له الرحمة ورعيت زوجته وأصبحت تدعو لي كل يوم وتندم على عدم ترحيبها بي في سابق الأيام وكنت وريث أبي الوحيد مع زوجته فدخلت في نزاع قانوني مع مالك العمارة التي يقع فيها مكتب أبي التجاري بمحطة الرمل ..
وأنصفني القضاء وحكم لي بالمكتب فبعته وسلمت زوجة أبي نصيبها بشرع الله وحقوقه فوجدت بين يدي بضعة عشرات من ألوف الجنيهات وأنا من كاد مستقبل حياته كلها يضيع بسبب 67 جنيهاً … ومن كان يحلم بقرش زائد ليحس بالشبع بعد عشاء العسل الأسود الضئيل وماتت زوجة أبي وهي عني راضية فورثت شقة أبي السكنية بالإسكندرية وأصبحت أؤجرها في الصيف ,
وماتت أمي وهي راضية عني فورثت مالها في إحدى شركات توظيف الأموال وبفضل الله وحده كنت قد سحبتها قبل أن تنفجر كارثة الشركات بعام واحد لاشتري قطعة ارض مستصلحة ولولا ذلك لضاعت أو دخلت في متاهات طويلة , واستثمرت الأرض فجاءت بخير وفير وحافظت رغم كل شيء على صلة الرحم مع خالتي وزوجها , وظللت معترفاً له ولزوجته بفضلهما في كفالتي وأنا طفل مشرد ولأبناء خالتي بالود والجميل , ولأسرة جيراني بكل مشاعر الحب والوفاء وكنت أستقبل بالود والحب في بيت خالتي وبيت جيراني ولا أتوانى عن خدمتهم جميعاً , ثم خيرتني الوزارة ذات مرة بين السفر في رحلة لأمريكا وبين السفر في رحلة الحج مكافأة لي فاخترت الحج , وطفت بالبيت المعمور وشكرت ربي على نعمته .. وعلى أن حماني من الضياع ولم يورثني أية مرارة مما عانيته وأن غرس في قلبي حب الناس …وحب العدل وحب الحياة وعدت راضياً عن نفسي وعن حياتي .
وأنا الآن يا سيدي رجل في الأربعين اشغل منصبا يعتبر من المناصب الممتازة في هيئة الشرطة ولم ترشحني له سوى كفاءتي وفضل الله علي ولم أسع لهذا المنصب , وإنما هو الذي سعى إلي لان الله قد انعم علي برضاء كل من تعاملت معهم من رؤسائي ولا أعرف أيضاً سر ذلك كما أني وهو الأهم زوج سعيد تشاركني حياتي حبيبة القلب ” الغشاشة ” التي كنت اهمس لها بالإجابات في امتحان الحقوق .. وهي سيدة رائعة وطيبة وعطوفة وتحب الناس مثلي ومتدينة ووديعة وليس في حياتها نقطة سوداء سوى حكاية الغش في الامتحان هذه !
وقد حضرت معي الإكليل الكبير لابنة جيراني الطيبين ولم تحس بالغيرة لأنها تعرف أمانتي واستقامتي وحبي وإخلاصي لها …
وعندي من فضل الله ولدان وبنت اخترت أن اسميها اسما يذكرني بنعمة ربي وبفضله علي كل حين , وأعيش مستوراً والحمد لله .. وقد أصبح لي مال موفور تُسْتَحق عنه الزكاة فأخرجها وأنا أتعجب من فضل ربي وكرمه وقد ذابت المرارات منذ زمن طويل والتمست الأعذار للجميع وسامحت الجميع ولم يبق إلا أن أؤكد للفتاة ابنة الثامنة عشرة أن الله لا يتخلى عن عباده الصابرين .. فاصبري يا بنيتي كما صبرت ,وانتظري آلاء ربك وعقابه للظالمين .. والحمد لله أولا وأخيراً ..والحمد لله في كل حين .
ولكاتب هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :
هذه إحدى الرسائل القليلة التي يجد الإنسان نفسه بعد قراءتها فى حاله معنوية ونفسية أفضل مما كان عليه قبل قراءتها , وهذه أهم سمات أدب الحياة الإنساني النبيل أن يجد الإنسان نفسه بعد الانتهاء من قراءته أكثر حباً للناس وأكثر إيماناً بخيرية الحياة رغم ما يبدو فوق سطحها من بثور الألم والإجحاف .. وأكثر استعدادًا للصفح عن أخطاء الآخرين في حقه واستعدادًا لالتماس الأعذار لهم .. وأكثر إيماناً بأن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر الصابرين الراضين بقضائه وقدره والمكافحين لنيل حقوقهم العادلة من الخير والسعادة .
ولقد أحسست بكل ذلك بعد انتهائي من قراءة رسالتك المعطرة بعطر كل هذه المعاني الجميلة .. وشعرت كما لو كنت قد ارتويت بها ارتواءً نفسياً عميقاً ولا أريد أن أفسد غذاءها الروحي عليُ
أو على الآخرين بأي تعقيب طويل . .فإن كانت جوائز السماء قد انهمرت عليك بعد طول قهر ومعاناة فلا عجب في ذلك فإنما هو وعد الله الحق للمستضعفين .. وإن كنت قد أصبحت ترفل الآن في آلاء ربك بعد حرمان ومسغبة , فلا عجب فإن نعم آلائه على الصابرين كثيرة .. فبأي آلاء ربهم يكذِّب المتعجلون والقانطون .. وبأي حِمًى يحتمي الظالمون حين يُسألون عمن كانوا يقهرون ويجحدون .
ولا كلمة أخرى أكثر من ذلك وشكراً لك على ما أسعدتني به وإلى لقاء آخر إن شاء الله مع جوائز أخرى أكبر وأفضل سوف تبلغني بها في حينها بإذن الله .
لطفا .. قم بمشاركة الموضوع لعله يكن سببا في حل أزمة أو درء فتنة …