أجمل رسائل بريد الجمعةقصص وعبرقضايا وأراء

الزيارة المفاجئة‏ !! .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله) 

أكتب إليك لأستشيرك فيما يشغل فكري الآن ويقض مضجعي‏..‏ فأنا سيدة في الخمسين من عمري‏,‏ عشت حياتي الزوجية في سلام مع زوجي إلي أن اختاره الله إلي جواره قبل سنوات قليلة‏,‏ وقد تجاوزت صدمة رحيله عن الحياة بالصبر والايمان‏,‏ وشكرت ربي علي ما وهبني من نعمة الأبناء والحياة الهادئة‏,‏ وسعدت بزواج ابنتي الكبري وسفرها مع زوجها إلي الخارج‏,‏

وبتخرج ابني الآخر وعمله بوظيفة جيدة وشعرت بأن رسالتي في الحياة قد أوشكت علي التمام‏,‏ حيث لم تبق أمامي سوي الابنة الصغري التي تدرس الثانوية العامة‏,‏ فوجهت لها كل اهتمامي وحرصت علي توفير الجو الملائم لها‏,‏ وأدت امتحانها وظهرت نتيجته فكان مجموعها أقل من أن يسمح لها بالالتحاق بالكلية التي ترغبها في مدينتنا ‏…‏

ورشحها مجموعها بكلية مناظرة ولكن في إحدي جامعات الجنوب‏..‏ فواجهت الخيار الصعب بين أن أحرمها من الالتحاق بالكلية التي ترغبها لتظل تحت رقابتي وإشرافي‏,‏ وبين أن أسلم لها برغبتها في الالتحاق بكلتيها المرغوبة مع ما في ذلك من متاعب اغترابها بعيدة عني وقلقي عليها من الغربة‏..‏ وبعد تفكير طويل شاركني فيه الأبناء‏,‏ استقر الرأي علي ألا أحرمها من رغبتها في الدراسة التي تفضلها وأن تسافر للاقامة في عاصمة المحافظة التي تقع بها الجامعة علي أن تقيم مع بعض زميلاتها كما تفعل فتيات أخريات في مثل ظروفها‏,‏ وسعدت إبنتي بهذا القرار‏,‏ وبدأت تستعد للمرحلة الجديدة في حياتها‏..‏

وجاء موعد سفرها للدراسة‏..‏ فأعددت لها كل ما تحتاجه في غربتها وزودتها بنصائح الأمهات في مثل هذه الظروف وأوصيتها بالأخلاق الحميدة والملابس المحتشمة ومصادقة الفاضلات من زميلاتها دون غيرهن‏,‏ وسافرت إبنتي مودعة من بالدموع حيث أنه أول فراق بيني وبينها منذ ولادتها‏,‏ وسافر معها أخوها إلي عاصمة المحافظة‏..‏

وبحث لها عن سكن مشترك مع بعض زميلاتها وترك أخته بين زميلات السكن وفي رعاية صاحب البيت الذي يؤجر شققه للطالبات المغتربات في مدينته‏,‏ ورجع ابني فطمأن قلبي الملهوف وأكد لي أن إقامة طالبات هذه الجامعة المغتربات في شقق سكنية مع زميلاتهن أمر منتشر في هذه العاصمة‏,‏ وأن أصحاب المنازل التي تؤجر للطالبات يتعهدونهن بالرعاية ويحرصون علي سمعة منازلهم‏..‏

واطمأن قلبي بعض الشئ ومضت شهور الفصل الدراسي الأول ثقيلة وبطيئة‏,‏ ورجعت ابنتي في أول أجازة لها فاستقبلتها بالأحضان والقبلات والدموع‏..‏ووجدتها كما عهدتها من قبل هادئة ومحتشمة في مظهرها وإن كانت قد اكتسبت من غربتها بعض الجدية والاعتماد علي النفس‏,‏ وانقضت فترة الأجازة سريعا ورجعت لاستكمال الفصل الدراسي الثاني‏..‏

وتكرر مشهد الوداع والبكاء‏,‏ ودعوت لها الله سبحانه وتعالي أن يحميها من كل سوء‏,‏ ثم انتهي الامتحان ورجعت ابنتي في اجازة الصيف فلمست هذه المرة اختلافا كبيرا في شخصيتها‏..‏ فلقد وجدتها ترتدي البنطلونات الضيقة والبودي وغير ذلك من الملابس الشبابية‏..‏ وناقشتها في ذلك وطالبتها بالعودة للملابس المحتشمة التي كانت ترتديها من قبل‏,‏ فأجابتني بأن هذا هو الشائع الآن في الجامعة وأنها لن تكون متخلفة عن زميلاتها‏!‏ وكررت معها المحاولة ونصحتها كثيرا وتشاجرت معها دون جدوي‏,‏ فاستعنت عليها بشقيقها الذي تحدث معها طويلا ثم رجع إلي يطمئنني علي أخته ويذكر لي أنه لاخوف عليها لأنها جادة وملتزمة‏.‏

رائج :   الملابس الكاملة .. رسالة من بريد الجمعة

وعادت إبنتي إلي كليتها‏..‏ ومن هناك أرسلت إلي تطلب نقودا إضافية لحاجتها إلي دورات دراسية‏,‏ وأرسلت إليها ما طلبته‏,‏ ثم تصادف أن زارتني صديقة لها تدرس معها بنفس الكلية‏,‏ وكانت ابنتي قد أبلغتني أنها تتلقي معها هذه الدورات فسألتها عن نظامها وجدواها‏..‏ واكتشفت من خلال حديثها أنها خالية الذهن عن هذا الموضوع نهائيا وأنها لا تتلقي مع إبنتي أية دورات دراسية‏!‏

وكتمت دهشتي عن هذه الصديقة‏..‏ وافترسني القلق والشك في إبنتي فقررت أن أريح نفسي من هذا العذاب بالسفر إلي المدينة التي تقيم بها والاطمئنان علي أحوالها هناك في سكنها وكليتها‏,‏ وركبت القطار بغير أن أبلغ ابنتي مسبقا بريازتي لها‏..‏ ووصلت إلي عاصمة المحافظة في الظهر واهتديت إلي المسكن الذي تقيم فيه مع زميلاتها‏..‏ وطرقت الباب فاستقبلتني صديقاتها ورحبن بي ولم أجد ابنتي معهن‏,‏ فجلست أنتظر عودتها‏,‏ ودخلت إلي غرفتها ورتبت ملابسها وأشياءها‏..‏

وقلبت في بعض أوراقها‏..‏ فإذا بي أجد خطابا بخط يدها إلي شخص لا أعرفه تدعوه فيه بزوجي العزيز وتحدد له موعدا للقاء في المسكن عقب سفر زميلاتها إلي أسرهن‏!..‏ وصعقت لما قرأته وشعرت بما يشبه الدوخة‏,‏ فتمددت علي الفراش لبعض الوقت لكي أحاول تمالك نفسي وانفجرت في البكاء وحدي في الغرفة المغلقة‏..‏ وأخفيت دموعي عن زميلات السكن إلي أن رجعت ابنتي في المساء وفوجئت بوجودي في غرفتها‏..‏

وفوجئت أكثر من ذلك بسؤالي لها من هذا الشخص الذي تدعوه زوجها العزيز وتوقعت أن تنكر كل شئ‏..‏ وتكذب ظنوني ومخاوفي‏..‏ ففوجئت بها تقول لي في هدوء أنها متزوجة بالفعل من هذا الشخص عرفيا‏..‏ وأنه يكبرها بعامين وأنها لم ترتكب حراما‏..‏ بل أن هذا هو السائد الآن‏..‏ وأنهما متفقان علي أن كلا منهما يستطيع أن يتخلص من الآخر في أي وقت يشاء فيه ذلك‏!‏

ثم تركتني واتجهت للمطبخ لتحضير العشاء وكأن شيئا لم يكن‏!‏ وتجمدت أنا في موقفي كأنما قد أصابني الشلل في جسمي وفي عقلي‏,‏ وحين رجعت بعد قليل كنت قد تمالكت نفسي فانفجرت فيها وانهلت عليها ضربا وركلا وصراخا فأسرعت بالفرار إلي الحمام وأغلقته علي نفسها من الداخل واعتصمت به رافضة الخروج منه حتي الصباح‏.‏

أما ما حدث لي بعد ذلك فأنا لا أذكر منه سوي أنني أغمي علي أكثر من مرة‏..‏
والآن ياسيدي فإنني حائرة في أمري وأمر ابنتي ولا أدري ماذا أفعل معها وبها‏,‏ فلقد تكتمت قصتها حتي الآن عن أختها وأخيها وكل أهلي‏,‏ ولا أدري ماذا سيفعلون معها إذا عرفوا بما حدث‏..‏ فهل أقوم بابلاغهم بما كان من أمرها أم أواصل تكتمه ومعاناته وحدي‏..‏ وهل أرغمها علي ترك هذا الشاب وترك كليتها كلها والعودة لمدينتي والالتحاق بأي كلية فيها أم ماذا أفعل‏..‏؟

رائج :   الخوف من الماء ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

وأين الخلل ياسيدي الذي أدي بنا إلي هذا الوضع الخطير‏..‏ هل هو في تربيتي وتربية زوجي الراحل لها؟
لقد أخذناها في تربيتنا لها بالحزم والحنان معا‏..‏ فكيف تسفر مثل هذه التربية عن هذه الكارثة ياسيدي‏!‏

ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

أبشع من ارتكاب الخطأ ألا يشعر مقترفه بأنه قد أتي أمرا إدا يستوجب الحساب والعتاب‏,‏ فضلا عن الرجوع عنه‏.‏ ذلك أن الاقرار بالخطأ هو الخطوة الأولي علي طريق الرجوع عنه وتقويمه‏..‏ أما التعامل معه وكأنه من طبائع الأمور وبديهيات الحياة‏..‏ فلا يكشف إلا عن خلل خطير في القيم والمفاهيم لدي مرتكبه لايبشر بأي أمل قريب في إمكان رجوعه عنه‏.‏

والانسان السوي قد يضل الطريق في بعض الأحيان لكنه يظل واعيا دائما بما اقترف ولا يجادل في خطأ ما فعل‏,‏ حتي ولو حاول تبريره والتماس العذر لنفسه فيه بضعفه أمامه‏,‏ أو بغير ذلك من المبررات‏..‏

أما من يرتكب أفدح الأخطاء ولا يراوده في نفس الوقت أي إحساس بخطأ ما فعل فإنه يضيف إلي أخطاء السلوك‏,‏ انحراف التفكير واهتزاز القيم‏..‏ وفساد المنطق‏,‏ وضعف الأمل في إصلاحه ورجوعه عن خطئة‏,‏ فضلا عن فجر المجاهرين بالخطأ الذين أرشدنا الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه إلي أن الله سبحانه وتعالي لا يحبهم وقد يترفق بالمخطئ علي استحياء‏..‏ ويضاعف العقاب بمن لا حياء له‏.‏

واحساس ابنتك بأنها لم تقترف حراما بمثل هذا الزواج العرفي الذي ارتبطت به بغير إذن أوليائها‏..‏ يكشف في الحقيقة عن انحراف في التفكير أفدح من الخطأ الذي ارتكبته نفسه‏.‏

فالزواج العرفي الذي يستوفي كل شروطه وأركانه إذا كان صحيحا شرعا‏,‏ فإن إقدام فتاة صغيرة علي الارتباط بشاب تحت مسمي الزواج العرفي بعيدا عن نطاق الأهل‏..‏ وبغير علمهم‏..‏ وموافقتهم هو خطأ أخلاقي فادح يتنافي مع كل القيم والأعراف العائلية والأخلاقية‏..‏ ولايمكن الدفاع عنه أبدا بأن مرتكبه لم يقترف حراما أو بأن هذا هو السائد في الجامعة كما تزعم ابنتك‏..‏

بل ولايمكن تبريره أو تفسيره إلا بالطيش والاندفاع والاستسلام للأهواء والرغبات‏..‏ وخيانة ثقة الأهل‏..‏ وافتقاد التقدير الصحيح للمسئولية الأخلاقية للانسان تجاه نفسه واعزائه ومن يهتمون بأمره‏,‏ فنحن لا نعرف كيف تم هذا الزواج العرفي المزعوم بين ابنتك وهذا الشاب‏,‏ وهل استوفي شروطه وأركانه وتم الاشهار عليه أم لا؟ وهل تم بنية الاستمرار وتحويله إلي زواج رسمي في المستقبل القريب‏.‏ أم بنية التمتع المؤقت خلال مرحلة الدراسة والاغتراب كما يوحي بذلك اتفاق طرفيه علي أن يتخلصا منه إذا شاء أحدهما ذلك في أي وقت‏!‏

رائج :   ابتسامة الخجل .. رسالة من بريد الجمعة

لكننا نعرف بكل تأكيد أن الزواج العرفي الذي يفتقد الاشهار ونية الاستمرار باطل باتفاق مذاهب أهل السنة‏.‏ وأن الظروف المحيطة بالقصة كلها لا توحي بفهم طرفيه لقدسية الزواج واستمراريته والادراك الصحيح لحقائق الحياة‏.‏ وتكفي سرية هذا الزواج واتمامه بعيدا عن نطاق الأهل لكي تحيط به الشبهات وتخرجه من نطاق الزواج المشروع الي نطاق آخر لا يختلف كثيرا عن نطاق العلاقة السرية المتشحة برداء زائف من المشروعية‏!‏

وإني أري لك ياسيدتي ألا تتحملي كل هذا العناء وحدك‏.‏ بل تشركي معك فيه ابنك الأكبر وابنتك المتزوجة‏,‏ علي أن تبدئي خطواتك لاصلاح ما فسد بدراسة وضع ابنتك الحالي بعد هذا الزواج المزعوم‏,‏ فإذا كان قد سبق السيف العزل ولم يعد هناك ما يرجي سوي تصحيح الخطأ واسباغ الشرعية الحقيقية عليه‏,‏ وإن من واجبك كأم أن تسعي مع ابنك إلي أهل هذا الفتي وتطالبيهم بتحمل مسئولية ما اقترف ابنهم في حق ابنتك‏,‏ ومساعدتك علي تحويل هذا الارتباط العرفي الشائن إلي زواج صحيح مشروع‏,‏ وذلك وبعقد قرانه علي ابنك واعتبارهما خطيبين ينتظران انتهاء الدراسة لبدء رحلة الزواج الحقيقية‏.‏

أما إذا كان الأمر غير ذلك‏,‏ فإن الظروف الشائكة تتطلب منك أن تلازمي ابنتك حيث تقيم‏,‏ وتفرضي عليها رقابتك واشرافك إلي أن تمضي الفترة المتبقية من العام الدراسي في سلام‏,‏ علي أن تحاولي خلال ذلك اختبار مدي جدية ابنتك في التمسك بهذا الشاب وعمق رغبتها فيه‏,‏ وظروف هذا الشاب نفسه وصدق رغبته في الارتباط بابنتك‏,‏ فإذا اطمأن قلبك إلي جديته وأمانته وصدق رغبته في ابنتك‏,‏ فليتقدم مع أهله لخطبتها منك‏..‏ مع تخلصهما في نفس الوقت من هذا الزواج المريب‏.‏

أما إذا تكشفت لك التجربة عن عبث هذا الشاب وعدم جديته‏,‏ فإن خير ما تفعليه هو أن ترجعي مع ابنتك عقب ادائها الامتحان هذا العام إلي مدينتك وتفرضي عليها الانتقال من هذه الكلية إلي أية كلية أخري مناظرة أو غير مناظرة لكي تكون تحت أنظارك لكي تبرأ من آثار هذه النزوة المدمرة وتثوب إلي رشدها‏..‏ وتدرك أن انقاذها من الضياع أهم كثيرا من نوع الدراسة التي تهواها أو العمل الذي ترغب قي ممارسته بعد التخرج‏,‏

فهي لم تغترب عن الأهل لكي تنخرط في علاقة سرية مؤقتة تتسربل بقناع الزواج العرفي مع شاب عابث وإنما لكي تحقق أهدافها في الحياة ولقد أجرمت في حق نفسها وأسرتها حين غفلت عن الهدف الأساسي من اغترابها وتورطت فيما تورطت فيه‏,‏ ومن واجبها أن ترضي بدفع الثمن العادل لما اقترفت من أخطاء فادحة حتي ولو ا قتضي ذلك تغيير مسارها في الدراسة والحياة‏!‏

من أرشيف جريدة الأهرام

 نشرت سنة 2004

مقالات ذات صلة