أجمل رسائل بريد الجمعةقصص وعبرقضايا وأراء

الشمعة المنطفئة ! .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله) 

أنا قارئ دائم لبريد الجمعة وكثيرا ما تخيلت نفسي في موقف صاحب أية مشكلة يناقشها البريد‏,‏ ولم أتوقع أبدا أن يأتي يوم أرسل لك فيه ملتمسا منك كلمة مواساة لتطفئ نار همومي أو همسة أمل لتوقد شموع إيماني‏.‏ فأنا رجل تجاوزت الستين من عمري تزوجت منذ ما يزيد علي ثلاثين عاما من فتاة طيبة همت بها وهامت بي وقضينا معا سنوات من أجمل أيام العمر وفي بداية زواجنا عشنا السعادة بكل ما تعني الكلمة لكن هذه السعادة بدأت تتلاشي شيئا فشيئا بسبب تأخر الإنجاب

وكنا في أول الأمر لانهتم بذلك كثيرا‏,‏ إلا أن تأخر الإنجاب طال حتي بلغ خمسة عشر عاما أو تزيد‏,‏ طفنا خلالها أنا وزوجتي علي أطباء مصر وكلهم أكدوا لنا الواحد تلو الآخر أننا سليمان تماما وليس فينا ما يمنع الإنجاب غير أنها إرادة الله‏.‏ ولا أستطيع أن أصف لك كيف عشنا هذه الفترة العصيبة بين اليأس والرجاء وبين ضغوط الأهل وضغوط المجتمع فالإنسان أسير مجتمعه ولا يستطيع أن يفلت من قيوده‏,‏ وقد بلغ بنا اليأس مبلغا عظيما حتي كنا نجلس أنا وزوجتي ساعات نبكي بكاء مرا عاتبين ـ بكل أسف ـ علي الله أن جعلنا بين أهلنا فرادي بلا أنيس أو سند أو قرة عين حتي أصبحنا هدفا يسيرا للشامتين وعبرة للمشفقين

وبينما نحن بين المد والجزر حيث يرتفع إيماننا إلي عنان السماء في حالة الرجاء والأمل ثم ينخسف إلي سابع أرض في حالة اليأس والقنوط ـ بينما نحن كذلك إذا بيوم جميل مشرق تبشرني فيه زوجتي بأنها حامل‏!‏ ومهما فعلت فلن أستطيع أن أصف لك مدي فرحتي وسعادتي بهذا القادم الجديد إلي حياتنا وذهبنا إلي الطبيب الذي أكد لنا الخبر السعيد ومضي الحمل بسلام ولم يكن يعنينا أن يكون ذكرا أو أنثي فإذا به يأتي ذكرا جميلا تبارك الله في خلقه فسميناه ‏(‏ وحيد ‏)‏ وكان اسما علي مسمي وطرنا به فرحا وامتلأت حياتنا رغدا وسعادة وسعد من أجلنا الأقارب والجيران والأصدقاء‏.‏

وبدأ وحيد يشب عن الطوق ويكبر وتكبر معه آمالنا وأحلامنا فأصبح طفلا جميلا ثم غلاما مطيعا فمراهقا دمث الخلق رقيق المشاعر محبوبا من كل من يراه متفوقا في دراسته وله جاذبية متفردة وكنت أراقبه في كل مراحل نموه وأدعو الله أن يطيل عمري حتي أري أولاده يلعبون حولي‏,‏ وفي خضم سعادتي بولدي الوحيد هذه كان ينتابني هاجس غامض يملأ قلبي رعبا إذ كنت أتخيل أنني قد أموت قبل أن أفرح به عريسا وأسعد بأحفادي منه وعقدت العزم بيني وبين نفسي علي أن يكون يوم تخرجه هو يوم زفافه حتي أقفز علي الأيام وأعيش مع حفيد لي بعض الوقت‏.‏

رائج :   تحت المنظار ‏! .. رسالة من بريد الجمعة

ومضت رحلته في الدراسة بنجاح لفت الأنظار وكان من الأوائل دائما ولم أبخل عليه بشيء‏,‏ إذ كانت طلباته بالنسبة لي أوامر وأنهي دراسته الابتدائية ثم الاعدادية ووصل إلي الصف الثالث الثانوي هذا العام وكنا نودعه كل يوم بالقبلات ونستقبله بالأحضان وإذا تأخر بعض الوقت طار صوابنا من القلق وننزل إلي الشارع ننتظره علي ناصية الطريق حتي يأتي مبتسما ومداعبا وهو يردد أنه قد أصبح رجلا ويريد عروسا أيضا‏,‏ وأضحك علي ذلك وأبدي استعدادي لتلبية أول اشارة له في هذا الموضوع وفي أحد الأيام وبعد أن ودعنا ابننا بالقبلات كالعادة وهو ذاهب إلي مدرسته التي تقع بالقرب من شريط القطار قالت لي أمه انها تشعر بانقباض غريب في صدرها فقلت لها ربما كان ذلك بسبب الربو وذهبنا إلي الطبيب ثم عدنا وما هي إلا ساعات قليلة حتي أتي إلينا الناعي بخبر ابننا طالب الثانوية العامة‏!‏

فقد دهمه القطار بعد خروجه من المدرسة وهو يعبر الطريق‏,‏ وأظلمت الحياة في أعيننا ومرة أخري فإني مهما استدعيت من ذاكرة الكلمات فلن أستطيع أن أعبر لك عن مدي حزني وتعاستي إذ يكفي أن تعرف أننا لم نتحمل حتي كلمة المواساة من المواسين فأما أمه فقد أخذها الصمت بعد أن دعت بدعوي الجاهلية وظلت تردد ليتنا لم ننجب من الأصل ليتنا لم نره ليتنا بقينا عاقرين ثم طال صمتها وفقدت النطق‏,‏ أما أنا فقد كنت أكثر ثباتا نسبيا رغم أنني فقدت الرغبة في الحياة ولم أعد أري لها أي معني‏,‏ غير أني أحاول الآن أن أقارن بين حالنا بدون إنجاب وحالنا اليوم بعد أن أنجبنا وربينا ثم فقدنا ابننا في ريعان شبابه‏,‏ فأجد أن الحال الأول أهون آلاف المرات من الحال الثاني‏,‏ ففي الأول كان لدينا الأمل وكنا لا نعرف قيمة ما يفقد علي وجه اليقين أما في الحال الثاني فليس لدينا سوي اليأس وقد عانينا ما فقدناه وعرفنا كم هو غال وكم كانت الخسارة فادحة‏.‏

انه الآن وبعد مرور أربعة أشهر علي هذا الحادث أحاول أن أتأمل حكمة الله في حياتنا وقد أدركت أن حكمة الله في المنع هي عين حكمته في المنح‏,‏ فالمنع من الله هو عطاء أيضا فلو أننا رضينا بقدر الله فينا عندما كنا بلا إنجاب لسعدنا وارتاح بالنا وقد أدركت بعد فوات الأوان أن عدم الإنجاب كان رحمة من الله لو كنا نعي ذلك‏,‏ بينما كان الإنجاب ثم الفقد هولا شديدا لا يتحمله إلا الصابرون وما أقلهم فليرض إذن الذين لو علموا أن العقم نعمة كبري لشكروا الله عليها غدوا وعشيا‏.‏

رائج :   الحل الصعب ‏!‏! .. رسالة من بريد الجمعة

وأرجو منك أن تتوجه بكلمة إلي زوجتي توقد بها شموع حياتها وإيمانها إذ بالرغم من أنني خرجت إلي المعاش وأنا مدير لمدرسة ابتدائية إلا أنني فشلت في نزع فتيل الحزن من قلب زوجتي ـ ربما لأنني مكلوم مثلها وفاقد الشيء لا يعطيه ـ فلعلك تكون أقدر علي ذلك مني بما وعيت من هموم ومشكلات ليس لها عدد ‏..‏ ومن وعي التاريخ في صدره أضاف اعمارا إلي عمره كما قال الشاعر‏,‏ كما أرجو أن يكون فيما رويته عليك عبرة لكل من يعتبر أن العقم مشكلة تستحق الحزن عليها‏.‏

ولكاتب هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

لا تلم نفسك ياسيدي علي اقدارك التي لم تخترها لنفسك ـ ولا تحاول البحث عن اسباب ومبررات تفسر بها هذه الأقدار الحزينة فتزيد بذلك من معاناتك بدلا من ان تتخفف من بعض الأحزان‏,‏ وتتعزي عنها قدر الجهد والاستطاعة فمن قبيل محاولة التفسير أن تربط بين عدم تقبلك للحرمان من الانجاب لأكثر من خمسة عشر عاما من الزواج‏..‏ وبين فاجعة فقد الابن الوحيد الذي جادت به عليك السماء بعد طول الانتظار‏,‏ وان تشعر بأنك لو كنت قد تقبلت اقدارك وقتها لما وقعت الفاجعة‏..‏ أو لما اكتويت بنار الثكل وانطفاء الشمعة التي كانت تنير حياتكم‏..‏

والحق هو ان تأخر الانجاب عنك في بداية الزواج‏..‏ كان من تصاريف القدر‏,‏ وكان انجابك لابنك الوحيد واستمتاعك بممارسة احساس الأبوه الذي تلهفت عليه طويلا معه ثم انطفاء الشمعة الصغيرة قبل أن تتم نورها قدرا مقدورا لك‏,‏ولا شأن لسخطك علي تأخر الانجاب في بداية الزواج ـ بما جرت به المقادير بعد ذلك‏,‏ ومن واجب المكلوم أن يتلمس أسباب السلوي والعزاء وليس ان يضاعف من احزانه وهمومه‏,‏ بلوم النفس‏,‏ والشعور الخاطئ بالذنب من اقدار لا حيله له فيها‏..‏ وكأنما قد كان له دور معلوم في هذه الأقدار المسطورة من قبل مجيئه من عالم الغيب أو كأنما كان من الممكن ان يتغير القضاء المحتوم لو كان قد سلك في الحياة سلوكا مختلفا عما فعل‏..‏

رائج :   عائلة آل سعود … البجاحة عايزة لها بجاحة

وكل ذلك ليس سوي تداعيات للحزن العميق والاكتئاب ومحاولة لجلد النفس عقابا لها عن بعض خطراتها وشواردها‏..‏ والأفضل في مثل هذه الظروف الحزينة هو ان تردد ما قاله أحد كبار الصوفية في موقف مماثل‏:‏ الخير أردت ولا يعلم الغيب إلا الله‏,‏ ولا بأس بعد ذلك من محاولة النظر الي المحنة من الزاوية الأخري‏,‏ واستبدال احساس الندم علي أنك قد انجبت والاقتناع بأن حالك ربما كان أفضل لو كان الحرمان من الانجاب قد استمر الي النهاية‏,‏ ان تجري مع النفس حوارا هادئا ونحاول الاقتناع بانك وإن كنت قد اكتويت بنار الثكل المحرقة اعانك الله واعان زوجتك عليها ـ فلقد جنيت كذلك مشاعر الأبوة‏..‏ وبهجة الانجاب‏..‏ وايناس مداعبة الطفل الصغير ومراقبته وهو يحبو ثم يقف علي قدميه ثم يمشي ويجري ويملأ الدنيا بهجة وسرورا‏,‏ سنوات غاليات من العمر ـ وأنه لو رجع الزمن الي الوراء لربما فضلت ألا تحرم منها بغض النظر عما جرت به المقادير بعد ذلك‏.‏

كما أن ومن يغيبون عنا لا يموتون عند رحيلهم‏..‏ وانما حين ننساهم‏,‏ ونحن لا ننساهم ابدا ياسيدي‏..‏ لأنهم يعيشون دوما في قلوبنا وذكرياتنا‏..‏ وتملأ صورهم مخيلتنا ونسمع اصواتهم في آذاننا‏..‏ وهم حاضرون دوما في وجداننا مهما بعدت الذكري‏..‏ وبالتالي فان التجربة لم تذهب سدي رغم احزانها وآلامها‏..‏ وانما تركت لنا هذه الذكريات العزيزة والمشاعر الثمينة أما زوجتك الفاضلة فأني لا أجد من الكلمات ما أواسيها به‏..‏

لكني استعيد فقط ما قاله أحد الصالحين معزيا خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبدالعزيز في ولده الصالح التقي الذي قضي نحبه في مطلع الشباب حين قال له‏:‏ إن الذي كان لك في الدنيا سرورا‏..‏ قد أصبح لك في الآخرة أجرا‏.‏

ذلك ان الحال كذلك معك ياسيدتي ومن كان لك في الدنيا سرورا وبهجة وإيناسا‏,‏ قد أصبح لك في الدار الآخرة أجرا عظيما وسعادة باقية في الدار الأخري بإذن الله‏..‏ وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

مع تمنياتي الصادقة لك بأن تتعايشي بقدر الإمكان مع احزانك وتتقبلي اقدارك الأليمة في الحياة وألا تضاعفي من خسائرك بالاستسلام للحزن والقنوط الي ما لا نهاية‏.‏ والسلام‏.‏

مقالات ذات صلة