من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)
هل تذكرني؟ .. إنني الفتاة التي كتبت لك منذ 11 عاما تقريبا أشكو إليك همي حين رحلت أمي عن الدنيا وتركتني وحيدة .. وقد تزوجت شقيقاتي، وتزوج شقيقي الوحيد من زوجته الأفعى التي حاولت إبعاده عنا، وقد كنا كل شيء له في الحياة من قبل مما جعلنا نعتبرها سببا غير مباشر في وفاتها ..
وقد شكوت لك وقتها من إحساسي المرير بأنني قد أصبحت عبئا إنسانيا على الآخرين بعد أن كنت ابنة غالية وشقيقة محبوبة وكيف تنقلت بين بيوت شقيقاتي المتزوجات، ووجهت باستنكار أزواجهن لوجوديعندهم لأسباب مختلفة، فهذا إمكاناته المادية محدودة ولا تسمح له بتحمل عبء جديد، وهذا متدين ولا يرتضى وجود فتاة شابة مثلي في بيته درءا لوساوس الشيطان! .
وهذا يرفضني لمجرد العناد فقط مع زوجته لأنها قد سبق لها أن رفضت إقامة والده معهما من قبل، وأنا بين هذا وذاك أسمع همس الكلام المهين وأتألم في صمت وعجز وانتظر تقرير مصيري، إلى أن رسبت ذلك العام في الثانوية العامة، فاجتمعت شقيقاتي وقررن أن أقيم في بيت شقيقي المتزوج رغما عنإرادة زوجته وانتقاما منها لما فعلته بأمي، وقبلت بذلك مضطرة لأنهلم يكن أمامي بديل آخر، وانتقلت للعيش في بيت شقيقي المتزوج، وانطويت على نفسي في حجرتي،
لا استطيع النظر في وجه زوجة شقيقي الأفعى وأنا أرى فيها قاتلة أمي، وحاصرتني الأفكار الشيطانية من كل جانب حتى فكرت كثيرا في الانتقام منها لولا أن تذكرت قدرة الله تعالى واكتفيت بما كنت ألمسه من سوء معاملة أخي لها، ووجدت فيه بعض العزاء. وفي هذه الظروف التعيسة كتبت إليك رسالتي ورددت علىّ في باب الردود الخاصة تطالبني بضرورة أن أنسى شبح الماضي، وأن أترك للزمن أن يضمد جراحي وأخرج من قوقعتي وأهتم بدراستي وأحاول الحكم على الآخرين من خلال تعاملهم معي ..
وليس من خلال أفكار سابقة عنهم، وأن أثق في أن عدالة السماء سوف تقتص من الظالمين في النهاية .. وقرأت ردك علىّ وارتحت إليه كثيرا وقصصت الجزء فالخاص بي من صفحتك واحتفظت به مع مسودة رسالتي لك في دولابي، وكلما انتابني الحزن والتشاؤم، أخرجت هذه القصاصة وقرأتها من جديد وتفكرت فيها،
ثم بدأت الاستعداد لامتحان الثانوية وانشغلت باستذكار دروسي، فإذا بي أرى أشياء غريبة لم أكن ألتفت إليها من قبل أو أشعر بها .. فبدأت أشعر على سبيل المثال بأن الأفعى التي كنت على يقين من أنها قد قبلت بوجودي في بيتها كارهة، ليست فيما يبدو غاضبة لإقامتي معها .. فهي بعد أن تفرغ من مذاكرة أبنائها تحمل إلي كوبا من اللبن أو العصير مع طعام العشاء ثم تجلس إلى جواري وأنا أتناول عشائي أو أذاكر وتنشغل بالقيام ببعض الأشغال اليدوية،
ورغم ضيقي بذلك في البداية ورغم صدودي لها إلا أنني بدأت بعد حين أتقبل وجودها بالقرب مني وأنا أذاكر، وبدأت أسأل نفسي ماذا يدفعها لأن تتظاهر بالحنان معي وأخي ليس موجودا في البيت؟ .. ولم أجد إجابة مقنعة لهذا السؤال .. ثم بدأت أيضا أتفهم طبيعة عمل شقيقي التي تقتضي غيابه عن البيت طوال اليوم. فلا يرى حتى أبناءه حين يرجع لبيته في بعض الأحيان ووجدتني أتساءل :
هل كانت زوجته هي حقا من شغلته عنا وعن أمي قبل رحيلها عن الحياة .. حتى كنا نختلق قصص المرض الوهمية لأمي لكي نجذبه إلينا بدلا من زوجته! .. أم ترى أن طبيعة عمله كانت السبب الأساسي في هذا البعد والابتعاد؟ ووجدتني أحاول أن أفكر في أمر زوجة شقيقي لأول مرة بطريقة مستقلة عن الأفكار والآراء التي وجهت مشاعري وسلوكي تجاهها على النحو السابق .. ويوما بعد يوم، وأسبوعا بعد أسبوع، وجدتني استجيب لمحاولات زوجة شقيقي الاقتراب مني ولحنانها معي وأستريح إليه إلى أن جاء يوم ووجدتني أسألها بغير تدبر : هل تحبينني حقا؟ .. وهل كنت تحبين أمي من قبل ؟
فاغرورقت عيناها بالدمع وأجابتني بأنها لن تدافع عن نفسها فيما يتعلق بموضوع أمي لكنها ستترك للزمن أن يجيب عن هذا السؤال أما عن مشاعرها نحوى، فلقد وهبها الله الذكور دون الإناث وكم تمنت أن تكون لها ابنة تحبها وترعاها، وأنها وجدت في هذه الابنة .. ولي أن أصدق ذلك أو لا أصدقه، ثم تركتني وانصرفت دامعة .. وتفكرت في كلماتها طويلا وسألت نفسي :
وماذا يدعوها لان تتظاهر بغير ما تحس به تجاهي ولست أملك ضرا ولا نفعا .. ولماذا لا أصدقها وماذا أخسره إذا أنا صدقتها وتجاوبت معها .. وانتهيت من حواري مع نفسي إلى أنني سعيدة بكلماتها حتى ولو لم تكن صادقة فيها كل الصدق .. وواصلت اهتمامي بدراستي وتقدمت لامتحان الثانوية العامة ونجحت فيه بتفوق، وسعدت زوجة شقيقي بنجاحي سعادة طاغية وتمنيت أنا أن تنسى شقيقاتي أفكارهن السابقة عنها ويأتين إلى بيتها لتهنئتى بالنجاح ومشاركتنا الفرحة، لكنهن لم يفعلن ذلك للأسف،
وظللت أواظب على زيارتهن حرصا على صلة الرحم، والتحقت بإحدى الكليات النظرية المرموقة، وتغير إحساسيبالحياة وبزوجة أخي، وبأخي نفسه وأولاده، وبكل شىء، وأصبحت عضوا فعالا ومشاركا في الأسرة، وليس عضوا منزويا منعزلا يجتر أحزانه القديمة في غرفته ويتوجس من كل حركة وبادرة !
وفي اليوم الأول لي في الكلية وجدتني استشير زوجة أخي فيما ارتديه من ملابس قبل الذهاب للجامعة فراحت تختار لي بحماس وفرح ما تراه مناسبا لي، وفي كل مساء تجلس معي بعد انتهاء أعمال البيت والمذاكرة، ونتبادل الأحاديث الجميلة وتسألني عن أحوالي في الكلية، وأروي لها ما صادفني في يومي، فإذا احتاجت هي لشراء ملابس للأولاد أصرت على اصطحابي معها لنتبادل الرأي فيما نشتريه، وإذا احتجت أنا لشراء ملابس عرضت عليّ الخروج معي ومساعدتي في شرائها إلى أن تشابكت الخيوط بيننا وبدأت أشعر تجاهها شعورا جديدا يشابه شعوري القديم تجاه أمي الراحلة رحمها الله .
ومضت سنوات الدراسة الجامعية في طريقها وتخرجت من كليتي وعملت بإحدى شركات الكمبيوتر وتعرفت فيها على زميل لي بالعمل وتبادلنا الإعجاب والتقدير، وتقدم هو لخطبتي ورحب به أخي، وبدأنا الاستعداد للزواج ففوجئت بزوجة شقيقي تعرض أمامي كل ما اشتريناه معا خلال السنوات الماضية من مستلزمات للبيوت وتقول لي إنها كانت تدخره لجهازي،
بالإضافة لأشياء أخرى اشترتها وحدها بل وفوجئت بها أيضا تعرض عليّ الإقامة بمسكن والدها القديم الذي انتقلت منه لمسكن آخر في حي راق، إلى أن ينتهي خطيبي من إعداد مسكن الزوجية، وتزوجت وسط فرحة زوجة شقيقي وأخي وإخوتي، وبدأت منذ الأيام الأولى للزواج استشعر حساسية العلاقة بين أم الزوج وزوجة الابن، وأجابني الزمن على السؤال الذي طرحته على زوجة شقيقي قبل سنوات .. هل كانت تحبأمي أم تكرهها؟ ..
فأنا أحب أم زوجي لكن ما يؤلمني منها هو انتقادها الدائم لي وحرصها على استفزازي في غياب زوجي، فلقد تأخرت في الإنجاب بعد الزواج، وبالرغم من أن التحاليل قد أكدت عدم وجود موانع طبية لدينا إلا أن والدة زوجي راحت تكوينيبالكلام اللاذع فتذكرت ما حدث حين أنجبت زوجة شقيقي طفلها الأول وتذكرت شعور أمي بأن هذا الطفل هو السبب في جفاء أخيلها وبعده عنها لفترات طويلة،
حتى تمنت لو لم يكن قد أنجب لكي تظل هي حبه الوحيد واهتمامه الأول، ووجدت والدة زوجي على العكس من أمي على استعدادا لان تزوجه من أخرى لكي تتعجل رؤيةأحفادها منه، ورغم ذلك كله فلقد تجاوزت عما أشعر به وحمدت الله كثيرا على حياتي، وأعانني على ذلك إيماني بان أعمالناديون ترد لأصحابها وقد يكفر الله لي بذلك ذنوبي بصمتي على الباطل وإتباعي آراء غيري بالنسبة لزوجة شقيقي ..
وأجريت محاولة للإنجاب عن طريق الأنابيب وفشلت أيضاوتضاعف الألم والمرارة واستسلمت لحالة من الضغوط والتشاؤم وقررنا أنا وزوجي أن نكف عن تكرار المحاولة لكيلا نتعلق بحبال الأمل الواهية بعد استنزافنا الكثير من المال في المحاولتين السابقتين، وأرهق ذلك زوجي ماديا ومعنويا .
ومضت بضعة أسابيع ثم فوجئت بزوجة شقيقي تقدم لي 5 آلاف جنيه وتقول لي أنها تريدني أن أكرر المحاولة للمرة الثالثة وألا أستسلم لليأس من رحمة الله، وتصر على ذلك بالرغم من معارضة أخي وشقيقاتي وترددي أنا وزوجي في الإقدام على المحاولة مرة أخرى .. وواصلت زوجة شقيقي الضغط علي لإجراء التجربة من جديد، وأكدت لي أن الله سبحانه وتعالى لن يتخلى عنى لان كل جنيه في هذا المبلغ الذي تقدمه لي حلال، ويحمل دعاء الأم لابنتها، ودعاء الأم لابنتها مستجاب بإذن الله .
وبكيت تأثرا بصدق مشاعرها وحرصها على سعادتي، وبكت هيأيضا لبكائي وحثتني على التمسك بالأمل. وخضعت للتجربة مرة أخرى، وبعد الفترة المحددة ذهبت مع زوجي وزوجة أخي لمعرفة النتيجة وأنا أرتجف خوفا ورجاء، فإذا بالطبيبة تبشرنا بنجاح التجربة، فأجد نفسي محمولة في الهواء وزوجي يدور بي حول نفسه فرحا وطربا والدموع تتساقط من عيني،
والطبيبة تضحك وزوجة أخي تبكي فما أن هبطت إلى الأرض بسلام حتى اندفعت إليهاأعانقها واقبلها وأجفف دمعها ودموعي ورجعنا إلى البيت ونحن نمشي فوق السحاب، وشعرت بشعور جميل وغريب حين استقرت البويضة المخصبة في رحمي ومرت شهور الحمل بطيئة وسعيدة ومثيرة ورزقني الله بطفلتي الجميلة وبعد رجوعي إلى البيت من المستشفى بفترة بدأت في إعادة ترتيب دولاب ملابسي لكي اخصص ركنا منه لحاجيات طفلتي الوليدة
واستعنت بزوجة شقيقي في ذلك وراحت تخرج أشيائي وملابسي وتعيد ترتيبها فإذا بها تجد مسودة رسالتي القديمة إليك منذ 11 عاما ومعها قصاصة الرد عليها وتقرؤها فتبكي فانزعجت أنا لظني أنها قد حزنت لرأيي السابق فيها، فإذا بها تقول لي والبشر يطفح من وجهها إنها لا تحاسبني على إحساسي تجاهها قبل 11 عاما، لكنها سعيدة لأنها قد استطاعت أن تحول مشاعري تجاهها من النقيض إلى النقيض.
أما شقيقاتي فقد أصبحن الآن يأتين إلى بيت شقيقي في غيابه بعد موقف زوجته الرائع مني قبل تجربة الأنابيب وبعدها، وأصبحتكل منهن تراها الآن من منظور مختلف دون تأثر برأي أميالسابق فيها يرحمها الله وقد نسين الآن كل شيء حدث قبل ذلك من خلافات ومشاحنات وأصبحن جميعا وأنا معهن هيئة دفاع مشترك عنها إذا أغضبها أخي أو أهانها كما كان يفعل من قبل..
ولقد ذكرني عثور زوجة شقيقي على رسالتي القديمة إليك بأن اكتب لك هذه الرسالة لأبلغك بأخباري السعيدة لكي تسعد بسعادتي، كما تأثرت من قبل بتعاستي وحيرتي، ولكي اعترف لك بالندم على سوء ظني السابق بزوجة أخي وأقول لك أنني قد وجدت فيها أُمًّا ثانية رعتني ومازالت ترعاني بعد أن فقدت أمي الأولى يرحمها الله،وأنني قد عملت بنصيحتك فاكتشفت أشياء ثمينة لم أكن لاكتشفها لو كنت قد ظللت على عزلتي ورفضي للآخرين دون تبَّصر.. والسلام عليكم ورحمة الله..
ولكاتبة هذه الرسالة أقول (رد الأستاذ عبد الوهاب مطاوع) :
من المفيد دائما يا سيدتي أن نكون على استعداد لان نغير آراءنا في الآخرين إذا ثبت لنا بتجربة التعامل معهم خطؤها، بل أنه ليرقى إلى مرتبة الإثم أن نظل على عدائنا لهم رغم ثبوت خطأ ظنوننا فيهم وان نكتم شهادة الحق التي توصلنا إليها في أمرهم بعد أن ذاع بين الغير رأينا السلبي فيهم.
فذلك واجب ديني وأخلاقي يمليه علينا الحق والعدل والإنصاف، ويدفعنا إليه كذلك خوفنا الكامن في أعماق النفوس من أن نتعرض نحن أيضا لأحكام الآخرين الظالمة لنا، ثم لا يبرئنا احد منها إذا انكشفت لهم الحقيقة ذات يوم والمنصفون من البشر هم من لا يترددون في الاعتراف بخطأ بعض ظنونهم في الآخرين والندم عليها إذا آذوا الغير بأقوالهم أو أفعالهم اعتمادا عليها،
والحق أننا مطالبون بتحري الإنصاف في مواقفنا تجاه الآخرين وعدم التأثر بآراء البعض فيهم ما لم يثبت لنا بالتجربة والدليل العقلي صحة هذه الآراء وعدالتها ذلك أنه من طبيعة البشر أن يميلوا لتصديق السوء في الآخرين بأسرع مما يميلون لتصور الخير فيهم ولقد علمتنا تجربة الحياة أن من يبادر الآخرين بسوء الظن فيهم سوف يجد غالبا طعاما كافيا يغذي به سوء الظن هذا ويذكيه وأن من يبادر بتصور الخير فيهم سوف يجد أيضا غذاء كافيا لتدعيم ظنه الحسن فيهم.
والكاتب الانجليزي سير آرثر هلبس يقول لنا: إن من يستسلم لسوء الظن في أحد يتلمس فيه عادة ما يثبت له سوء ظنه به ويرى ما قد لا يراه فيه الآخرون أو يلتفتون إليه تماما كما تسمع أذن المؤرق خلال الليل كل صوت خافت لا يسمعه النائم المطمئن.
والخطأ الأكبر الذي يقع فيه الإنسان هو أن يتأثر بآراء الآخرين فيمن يكرهونهم وأن يبني أحكامه الشخصية عليهم على أساسها والكاتب الفرنسي مارسيل بروست يقول لنا: إن الإنسان حتى ولو كان رافضا لما يسمعه من ذم للآخرين فإنه قد لا يستطيع أن يحجب المؤثرات النفسية السلبية لما سمعه من ذم فاحش في احد من التأثير على بعض أفكاره عنه وبعض جوانب رؤيته له وموقفه منه لهذا فلقد نهانا ديننا الحنيف عن الغيبة والإسراف في ذم الناس والتهلل لذكر معايبهم ونقائصهم
وحدد لنا رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه معنى الغيبة بأنها ذكر الآخرين في غير وجودهم بما يكرهون أن يذكروا به أو ينسب إليهم ولأننا لا نستطيع أن نحجب مؤثرات الآراء السلبية للبعض في الغير عن التسلل إلينا فمن الأفضل لنا ألا نرحب بسماع هذه الآراء وألا نشارك القائل في إثمه وإسرافه على نفسه ولو بالسماع بل انه من الحكمة أيضا ألا نستريح لمن يغالي في ذم الآخرين والقسوة عليهم ليس فقط لأنه يؤثر من حيث لا نشعر على آرائنا فيهم ويحرمنا من بعض القدرة على التواصل السليم معهم وإنما أيضا لأنه يشركنا معه في الإثم الأخلاقي الذي يرتكبه هو بالإسراف في اغتيابهم واتهامهم بكل سوء.
والرسول الكريم صلوات الله عليه وسلامه هو نفسه من طلب من الآخرين ألا يبلغوه شيئا يوغر صدره على أصحابه لأنه يحب أن يخرج إليهم وصدره سليم ، وقديما قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: نزهوا أسماعكم عن سماع الخنا كما تنزهون ألسنتكم عن النطق به فان المستمع شريك القائل ..
والشاعر العربي القديم يقول : فسامع الذم مقر به.. وقابل الغيبة كالقائل وفي كل إنسان مهما بلغ سوء الظن به جوانب خيرة لو استطعنا اكتشافها والتماسها والتعامل معها لتجنبنا الكثير من العناء وسوء الفهم والعداء الذي لا طائل تحته .. وفي كل الأحوال فانه من المفيد أن نكون على استعداد لان نعدل عن سوء الظن بالآخرين ونندم عليه ونتعامل معهم على أساس ما تكشف لنا من جوانب خيرة فيهم من خلال تجربتنا الشخصية معهم
ذلك أن اخطر ما يهدد العلاقات الإنسانية هو الأحكام المسبقة التي نستسلم لها دون تبصر ولا اختبار حقيقي ثم نتعامل على أساسها مع الآخرين فنرفضهم او نسيء الظن بكل ما يصدر عنهم ونتغافل أو نتشكك في كل ما يتعارض معها وليس من الحكمة أن يحرم الإنسان نفسه من عطاء الآخرين العاطفي والنفسي له لأنه يتشكك في دوافعهم لهذا العطاء أو يميل لتفسيره بمبررات نفعية إذ ماذا نجني من التفتيش في الضمائر فنتهم الآخرين بأنهم ليسوا صادقين في مودتهم لنا مادامت التجربة العملية معهم تكشف لنا عن مظاهر هذه المودة وتؤكدها لنا؟ وماذا يفيدنا أن نفسر هذه المودة بأسباب خداعية أو أن نرجعها إلى المكر والخبث والرغبة في كسب تأييدنا لهم ماداموا يلتزمون معنا بآداب التعامل ويظهرون الود لنا ويؤكدونه بالأفعال وليس بالأقوال فقط ولا يؤذوننا في كثير أو قليل؟؟..
إن قصتك يا سيدتي مع زوجة شقيقك تؤكد كل هذه المعاني وتثبتها ومن ابلغ دروسها هو ان من واجبنا تجاه أنفسنا أن نحاول دائما أن نتمثل مواقف الآخرين ودوافعهم وظروفهم قبل الحكم عليهم وان نحاول دائما ألا نتأثر بأحكام الآخرين المسبقة عليهم ما لم تثبت لنا تجربة التعامل الشخصي والاختبارات المتكررة معهم صدق هذه الأحكام فلقد أدركت أنت بالتجربة الشخصية حساسية العلاقة بين الأم وزوجة الابن
حين وجدت نفسك في موقف زوجة شقيقك من والدتك يرحمها الله فأدركت بعض أسباب تحاملها على زوجة شقيقك في الماضي، والتمست لزوجة أخيك من العذر ما لم تكوني قادرة على التماسه لها لو لم تتفهمي بالتجربة بعض جوانب هذه العلاقة الشائكة وعايشت شقيقك في حياته الزوجية فأدركت بعض أسباب انشغاله عنكم قبل رحيل والدتك عن الحياة مما لم يكن يجد تفسيرا له لديكم سوى انه من اثر اجتذاب الأفعى له ورغبتها في الانفراد به دونكم،
وأثبتت لك تجربة التعامل مع هذه السيدة نفسها أنها لم تكن تلك الأفعى التي تنفث سمومها فيمن حولها وإنما هي بشر كالبشر لها مشاعرها وعواطفها وأحزانها وأفراحها ولقد وجدت فيك حين تفتحت لها مسامك الابنة التي تعوض لها حرمانها من الإناث فرعتك كما ترعى الأم ابنتها وأجزلت لك العطاء النفسي والعاطفي والمادي، ورحبت بك حين ضاق بك الآخرون ولو لم تراجعي أفكارك السلبية عنها لما أتيح لك أن تستقبلي عطاءها لك ولحرمت نفسك بلا ضرورة من قيمة إنسانية كبرى كنت في اشد الاحتياج إليها بعد رحيل أمك عن الحياة..
فالمرء مهما بلغ به العمر إنما يحتاج إلى العطف الإنساني من جانب القريبين منه ويفتقده بشدة إذا خلت حياته منه غير انه لا ينال العطف من الآخرين إذا لم يكن على استعداد لان يتبادل هذا الإحساس النبيل معهم ولا ينال الحب إلا إذا كان قادرا على منحه للآخرين ولا يحظى بالثقة من احد إذا كان ممن لا يهبون ثقتهم لأحد والطريق الوحيد لان يحظى الإنسان بالعطف الإنساني والحب والثقة هو أن يكون مستعدا لان يهب الآخرين كل هذا العطاء النبيل، فيحصد ثماره في حياته ويشعر بالطمأنينة والسلام ولا يحصد الإنسان شيئا من ذلك وهو يرفض الآخرين وينعزل عنهم ويتوجس منهم، وينطوي تجاههم على اسوأ الظنون.
فشكرا لك على رسالتك الجميلة التي أرهقت ذاكرتي المجهدة أصلا حتى تذكرت بعد قراءتي رسالتك القديمة وردى عليها وشكرا لك على شجاعتك الأدبية والأخلاقية في نقد الذات والاعتراف بخطأ ظنونك السابقة في زوجة شقيقك وندمك عليها، وهنيئا لك سعادتك وطفلتك وزوجك وحياتك العائلية الآمنة.. وهنيئا لك قبل ذلك وبعده هذه الأم الفاضلة الرءوم التي عوضتك بحبها وحنانها ورعايتها وعطائها الغامر لك عن حرمانك من والدتك الراحلة وعن سنوات التعاسة والحيرة والشعور المرير بفقدان السند والنصير، خلال فترة التنقل المؤلمة بين بيوت الشقيقات .. والسلام.
- نشرت عام 1996
- من أرشيف جريدة الأهرام