أجمل رسائل بريد الجمعةقصص وعبرقضايا وأراء

المثال المتكرر .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

لسنوات تقارب العشرين تابعت بريدكم وتفاعلت معه وعشت مشاكله‏..‏ فأنا سيدة في منتصف الثلاثينات من عمري‏,‏ نشأت في إحدي محافظات الصعيد بين أب ميسور الحال وأم كنت أراها قاسية واخوة وأخوات‏,‏ ولقد  بدأت عقدي النفسية تتشكل منذ الطفولة لسببين‏,‏ الأول سوء معاملة والدتي المستمرة لي ومقارنتها الدائمة بيني وبين أختي التي تفوقني جمالا‏,‏ وتشبهها إلى حد كبير‏,‏

بينما أشبه أنا والدي‏.‏ والثاني تعرضي لعدة تحرشات جنسية ممن يعد بمثابة جدي دون أن أجرؤ على مصارحة والدتي بذلك خوفا منها ومن قسوتها الشديدة‏,‏ وقد نشأت في هذا الجو‏,‏ وأذكر هنا موقفين محددين أثرا في كثيرا فقد خطبت وأنا مازلت في المدرسة الثانوية رغبة مني في الهروب من جو المنزل ومن أمي وضعف شخصية أبي معها‏,‏

ثم تعرضت لمشكلات كثيرة وانهرت وارتميت ذات مرة في حضن أمي طلبا للحنان ولكنها لم تحتضني‏,‏ وإنما أبعدتني عنها‏,‏ والآخر أني جاهدت قبل ذلك للحصول على مجموع لكي ألتحق بكلية ولا أكتفي بالدبلوم كما فعل معظم أخوتي‏,‏ فقابلت أمي ذلك بثورة شديدة‏,‏ اذ كانت تريد لي الاكتفاء بالدبلوم والزواج الذي تراه الحل الوحيد لنا‏,‏ وترغمنا عليه حتى ولو كان الزوج غير مناسب‏.‏

المهم أنني قاومت كل ذلك وأكملت تعليمي الجامعي وعملت بعد التخرج‏,‏ وكانت خطبتي قد فسخت‏,‏ فأصبحت أمي تلقبني بالعانس لوصولي إلى سن الـ‏25‏ سنة بدون زواج حتى من الله علي بالزواج من إنسان ممتاز وعلى خلق‏,‏ وحمدت الله كثيرا‏,‏ وبدأت حياتي معه وانا أمني نفسي بالسعادة ومحاولة تعويض كل ما فاتني في حياتي وبالذات مع أطفالي الذين سأكون لهم أما في غاية الحنان كما كنت أرى أمهات زميلاتي‏,‏

وسارت بي  الحياة ورزقت بولدين منحتهما حبا وحنانا بالرغم من بعض الثورات العصبية التي تنتابني من حين لآخر على أتفه الأشياء‏,‏ حتى وصل ابني الأكبر للصف الأول الابتدائي وبدأت محاولة تنظيم وقته ومذاكرته تحت اشرافي مع ثورات عنيفة جدا وتكسير لما في يدي إن احسست بأي تقصير من جانبه في هذه السن الصغيرة‏,

‏ أو إذا نقصت درجاته درجة واحدة عن الدرجة النهائية‏,‏ وانتهى العام الدراسي الأول ثم جاء العام الثاني فأصبحت أثور بشدة أكثر وأصرخ بشكل هيستيري متواصل واصبحت للعجب أكرر نفس عبارات أمي التي كانت تقولها لي وتصفني فيها بالفشل والخيبة وقلة الأدب‏,‏ وما إلى ذلك‏,‏ وبنفس الالفاظ وبنفس الطريقة البذيئة‏,‏

بل لقد تجاوزت كل الحدود عندما ظللت أضرب ابني حتى كسرت ذراعه ووضعت في الجبس لفترة‏,‏ وفي كل مرة تحدث مشاكل ضخمة بيني وبين زوجي تصل إلى حد حرج لولا تدخل الأقارب‏,‏ وفي كل مرة أجاهد نفسي لكيلا أصل إلى هذه المرحلة دون نتيجة‏,‏ ولقد بكيت بشدة بالأمس بعد أن ارتمى ابني في حضني فإذا بي أبعده عني بنفس القسوة والجفاء اللذين ابعدتني بهما أمي في موقف مماثل‏.‏

انني لا أريد أن أفقد أولادي ولا زوجي‏,‏ وأريد أن أمنحهم حبي وحناني ‏..‏ لا ثورتي وغضبي وضربي الوحشي لهم‏,‏ حتى صاروا في منتهي العصبية والعنف‏,‏ ولست اعرف أين هذا مما كنت أحلم لهم به‏,‏ إن الحنان والحب بداخلي لكني لا أستطيع إخراجهما لأولادي  والتعامل بهما معهم‏,‏ وأرى شبح الفشل يخيم على حياتي‏,‏ فهل صدقت مقولة أمي لي بأنني سأفشل في حياتي دائما وأرجع لها ذات يوم أجر أذيال الخيبة‏,‏ ساعدني يا سيدي ليس لأجلي‏,‏ فأنا قاسية لا أستحق الشفقة‏,‏ ولكن لأجل هؤلاء الاطفال الصغار الأبرياء الذين لا ذنب لهم سوى أنهم ولدوا لأم مثلي لا تقدر معنى الأمومة ولا تفهمه‏.‏

والشئ الأخير الذي أود قوله إن أمي كانت تسرق أبي كثيرا‏,‏ ونحن نعلم بذلك‏,‏ فهل تدري ماذا حدث لي بعد زواجي؟ لقد أصبحت أسرق زوجي في الفترة الأخيرة دون أي إرادة مني أو مقاومة وتحت مسميات كثيرة‏,‏ فهل أنا مريضة ولمن ألجأ؟‏!.‏

إنني أعيش في مجتمع مغلق ويصعب فيه اللجوء إلى الطبيب النفسي‏ ..‏ ولو فعلت لاتهمني البعض بالجنون فماذا أفعل؟


رائج :   دليل الوقاية الشامل لتأمين بيتك وأسرتك ضد فايرس كورونا

ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

أسوأ ما في النفس البشرية ـ كما قال المؤرخ البريطاني ارنولد توينبي ـ هو أن يقلد ما فعله جلادوه به مع الآخرين‏,‏ بدلا من ان يتعفف عن تكرار ما عاناه بنفسه مع غيره‏!‏ 

وانت يا سيدتي قد أخرجت للأسف أسوأ ما في النفس البشرية بتكرارك لأخطاء والدتك تجاهك مع ابنائك الصغار‏..‏ ولقد كان الظن أن تكون تجربتك الشخصية مع قسوة الأم والحرمان من عطفها وحنانها‏,‏ ومقارناتها الظالمة بينك وبين شقيقتك‏,‏ أكبر دافع لك لكي تقدمي  لأطفالك أثمن ما يستطيع أبوان أن يقدماه لأبنائهما على حد تعبير الروائية الانجليزية الشهيرة أجاثا كريستي‏,‏ وهو‏..‏ طفولة سعيدة خالية من بذور العقد النفسية‏!.‏

فكيف انجرفت إلى هذه القسوة السادية على أطفالك وأنت التي كابدت قسوة الأم عليك‏..‏ وجفاف مشاعرها تجاهك؟

وكيف انجرفت إلى تكرار ما كنت بكل تأكيد تنكرينه على والدتك‏,‏ وهو اغتيال مال الزوج بغير علمه‏!.‏

إن الضمير الأخلاقي في أبسط تعريف له هو قدرة المرء على التفريق بين الحق والباطل‏..‏ وهو شئ فطري في الإنسان‏,‏ لكنه يتأثر بالوسط الذي ينشأ فيه‏..‏ وهو كما قال أحد الفلاسفة المعاصرين يشبه أية عضلة من عضلات الجسم إن لم يستخدمها المرء ضعفت ووهنت‏,‏ ولهذا فان امتلاك الضمير الأخلاقي شئ واستعماله شئ آخر ولابد لنا لكي نحيا حياتنا على النحو الصحيح ألا نهمل أبدا عضلة الضمير هذه وأن نحتكم إليها دائما في كل أفعالنا وتصرفاتنا لكيلا تضمر وتذبل وننطلق في الحياة كالوحوش الضارية لا تحركنا إلا غرائزنا وشهواتنا ورغباتنا وانفعالاتنا العصبية‏.‏

فراجعي نفسك وضميرك يا سيدتي وابدئي صفحة جديدة مع أبنائك ومع شريك حياتك‏,‏ وتذكري كلما هممت بإيذاء أطفالك بدنيا أو معنويا أو بمد يدك إلى مال زوجك‏,‏ قصة الرجل الصالح الذي درب ابن شقيقته وعمره‏4‏ سنوات على أن يقول لنفسه كل يوم وهو في فراشه يستعد للنوم‏:‏ الله معه‏..‏ الله ناظر إلي‏ .. ففعل ذلك ثلاث سنوات حتى اعتاده فلما بلغ السابعة قال له خاله‏:‏ من كان الله معه‏..‏ وينظر اليه‏..‏ هل يعصاه؟‏!‏

فأجابه‏:‏ لا‏!‏

فأصبح بهذا التوجيه الحكيم من كبار العارفين بالله وهو سهل بن عبد الله التستري‏.‏

فهل يصعب عليك أن تفعلي ذلك؟‏..‏ أوليس تكرار مثال هذا العارف بالله أفضل لك ولابنائك ولزوجك وللحياة بصفة عامة من تكرار مثال والدتك الذي كابدت مرارته في الماضي؟

وما قيمة التجربة الشخصية إذن اذا كنا لا نستفيد بدروسها في تجنب تكرار ما سبق أن عانيناه نحن في حياتنا السابقة؟

إن الأمر لا يحتاج لأكثر من وقفة حازمة مع النفس ومراجعة أمينة لسلوك الانسان وتصرفاته‏,‏ وعزم صادق على ألا يكرر أخطاءه‏,‏ ويصلح من شأنه ويجاهد نفسه كلما وسوست له بما لا يرضاه الله سبحانه وتعالى ويتعارض مع أحكام الضمير‏,‏ بدلا من الانسياق الأعمى وراء الانفعالات المتشنجة‏..‏ والاستسلام الخائر لرغبات النفس التي تتنافى مع الحق والعدل والرحمة‏.‏

ولا بأس ـ إذا تطلب الأمر ـ باستشارة طبيب متخصص يشير عليك ببعض المهدئات الآمنة التي تحفظ عليك هدوءك وتعفيك وتعفي ابناءك الصغار من الثورات البركانية والانفعالات المدمرة‏.‏

من أرشيف جريدة الأهرام

 نشرت سنة 2004

مقالات ذات صلة