من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)
أكتب إليك هذه الرسالة لأستشيرك في أمري، وأرجو ألا تستخف بمشكلتي أو تسخر منى لأنها مشكلة حقيقية رغم ما يبدو من بساطتها،وأنا مغلوب على أمري فيها،
فأنا يا سيدي رجل أعمل عملا ً محترماً.. ولى دخل معقول.. وأقيم في شقة جميلة وواسعة، فى حي راق، مؤثثة بأثاث جيد.. ولدى كل ما احتاج إليه من سيارة وكماليات.. وقد تخرجت في سن الثالثة والعشرين وبدأت حياتي العملية بعدها بعام، وكنت أعيش مع أمي وشقيقتي الوحيدة التي لم يكن عمرها يزيد على 8 سنوات بعد رحيل والدنا رحمه الله. وكانت ظروفنا الاجتماعية طيبة فقد ترك لنا أبى معاشا وبعض المدخرات وإيرادا معقولاً لبعض الأملاك. وكغيري من الشباب كانت لي بعض العلاقات خلال سنوات الجامعة وبعد التخرج، لكنها لم تصل إلى درجة تدفعني إلى الارتباط مع أي ممن عرفتهن، وبعد أن عملت واستقرت حياتي بدأت أمي تطالبني بالزواج.. وتسألني الم تعرف زميلة لك في الجامعة تتمنى زواجها؟
فأجيبها بالرفض، لأني في قرارة نفسي كنت قررت ألا ارتبط بإنسانة إنشاءات معها علاقة مهما كانت براءة هذه العلاقة! وهكذا بدأت أمي تختار لي من بين قريباتي.. وعرضت علي أحداهن وبسطت أمامي مزاياها من جمال وأخلاق.. وأسرة.. وحالة مادية مقبولة فلم أجد بها عيباً، ووافقت مبدئيا وطلبت منها أن تجس نبض أسرتها، فقامت بالمهمة سعيدة وجاءت لي بالقبول.. ولم يبق إلا أن تفاتح أهلها.. فإذا بى فجأة اكتشف في الفتاة عيوباً لم أكن منتبهاً لها فأعدت النظر في الموضوع وفكرت فيه طويلاً.. ثم تراجعت ورفضت فشعرت أمي بالإحراج..
وامتنعت عن زيارة هذه الأسرة التي امتنعت بدورها عن زيارتنا.. لم تلبث علاقتنا بها آن ساءت ثم انقطعت نهائياً! وبعد ذلك بشهور أعجبتني قريبة أخرى كانت تزورنا مع أمها.. ناقشت الأمر بيني وبين أمي طويلاً.. وانتهينا إلى أنها الأفضل والأجمل والأنسب وقامت بجس النبض مرة أخرى، ثم عادت إلي بالبشرى فإذا بى ارتعب وأعيد التفكير فأجد فيها عيوباً لم أدركها فتراجعت ثم أصررت على الرفض فخسرنا هذه الأسرة أيضا.
وبعد ذلك شهور أخرى تكررت نفس التجربة بنفس الخطوات وبنفس التفاصيل مرة ثالثة ثم مرة رابعة.. ثم مرة خامسة.. وفى كل مرة نخسر أسرة من أقاربنا أو معارفنا أو من جيراننا، حتى غضبت منى أمي واتهمتني بأني اعبث بها، وأنى أريد آن اقطعها عن الأهل والأصدقاء فلا نزور ولا نزار !!
وحين رأيت بعدها إحدى فتيات الأسرة في إحدى زفاف عائلي، وطلبت من أمي أن تصدقني هذه المرة وتقوم بعملية جس النبض.. رفضت رفضا باتا وسحبت يدها تماما من الموضوع، فبدأت اعتمد على شقيقتي التي كانت قد أصبحت في ذلك الوقت في الرابعة عشرة من عمرها فكان حظها معي أسوا.. ولم تلبث هي الأخرى أن رفضت أن تتحدث مع احد في موضوع زواجي، فنقلت نشاطي إلى دائرة الأصدقاء ووسطتهم في أمر زواجي.. فسارعوا بتقديم خدماتهم لي.. وخذلتهم جميعا بنفس الطريقة اللعينة: الترحيب والموافقة والفرح بالاختيار وبدء خطوات التمهيدية.. ثم التردد والوسوسة واكتشاف العيوب والاكتئاب والتراجع.. فنفض أصدقائي أيديهم منى يائسين.. بل قاطعني بعضهم عقابا لي على توريطهم في هذه المسائل الحساسة!!
وخلال هذه السنوات اقتربت منى أكثر من فتاة في محيط العمل، وأملت الزواج منى ونشأت بيني وبين كثيرات صداقات.. وميل عاطفي.. لكنى كنت أجهضه في اللحظة الحاسمة فينصرفن عنى يائسات أو لاعنات أو متهمات إياي بالخداع! وكل ذلك وأمي حزينة على حالي.. وتهددني بأني سأشيخ بلا زواج .. وأني سأمضى العمر وحيدا،
ومضت السنوات وأنا اكرر نفس الروتين اللعين مع زملاء العمل والأصدقاء الجدد، الذين لم يلسعهم ترددي من قبل، حتى ساءت سمعتي بينهم وعرفوا جميعا دائي وأصبحوا يحذرون بعضهم البعض من التعرض لأي موضوع زواج خاص بى، وكبرت شقيقتي وتزوجت وأشرفت على كل أمور زواجها حتى حفل الزفاف وانتقلت إلى بيت زوجها وعاشت حياة سعيدة وأنجبت، ومرضت أمي مرضا طويلا ثم انتقلت إلى رحمه الله وخلا البيت من حنانها.
وبعد فترة حداد نشطت من جديد لتنفيذ المشروع الذي لم يتم .. فوسعت دائرة بحثي، وقد تغيرت الدنيا وأنا لا أحس، فقد أصبحت الدائرة التي كانت واسعة أمامي شديدة الضيق بعد أن تقدم بى العمر، ومع ذلك فانا مازلت أتفاوض في أمر الزواج.. وأتفرج كل شهر على عروس مناسبة، وأسافر في مهام عاجلة إلى الإسكندرية أو طنطا أو أسيوط، لأتفرج على عروس دعاني بعض الزملاء لرؤيتها..
والداء القديم كما هو .. فهذه اصغر مما ينبغي، وهذه اكبر من المعقول .. وهذه تبدو متزمتة .. وتلك وحيدة يتيمة مما سيزيد المواجع !! وهكذا يا سيدي سنوات وسنوات وأنا ادخل الصالونات، واحضر الجلسات المدبرة في النادي أو العمل لعل الله يغير من ترددي، بلا فائدة، والدائرة تضيق أمامي شهرا بعد شهر وعاما بعد عام، فأخرجت منها الفتيات دون الخامسة والثلاثين، بعد أن بلغت منذ أسابيع سن الخمسين! وقبلت مبدأ الأرامل والمطلقات بلا أولاد، بعد أن كنت لا أتصور نفسي زوجا إلا لفتاة عذراء لم يسبق لها الزواج،ومنذ أيام اكتشفت أنى تفرجت وناقشت أمر زواجي من 122 فتاة منذ بدأت رحلة البحث عن زوجة مناسبة، وان معظمهن قد تزوجن زيجات سعيدة ومحترمة وأنجبن البنين والبنات، وأنى ندمت على ضياعهن من بين يدي وحزنت عليهن جميعا..وتساءلت أين كان عقلي حين رفضتهن؟!!
ورغم ذلك فأنا لا اسلم بالفشل.. وأتحسر على ما ضاع من العمر في التردد والوسوسة وإجراء الحسابات الطويلة، وأتعجب كيف يمكن ألا يوفق الله إنسانا لديه كل الإمكانيات ومكتمل الرجولة في هذا الأمر.. وأتعجب كيف يتزوج الآخرون بهذه البساطة، وقد استغرق منى التفكير في هذا المشروع 26 عاما ولم يتم حتى الآن، لأني مازلت أتحرى وادقق فيمن سأختارها لتكون شريكتي بحيث يكون الاختيار سليما وبحيث يضمن لي السعادة في حياتي المقبلة ، ويتجنب التعاسة التي أخشاها.. فهل عندك تفسير لحالتي هذه؟؟ وهل عندك حل لمشكلتي.. أي عروس تتوافر فيها كل الصفات التي أريدها بحيث اضمن السعادة معها؟
ولكاتب هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :
ربما استطيع أن أفسر لك بعض أسباب الحالة العجيبة التي تعانى منها.. لكنني بالتأكيد لا استطيع ولا يستطيع غيري أن يقدم لك شفاء منها أو حلا لها.. لأن علاجها بيدك أنت وحلها لن يأتي إلا من داخلك.. فأنت يا سيدي تعاني حالة اعتزاز شديدة بالذات، تتجاوز مرحلة الأنانية إلى مرحلة عشق الذات في النرجسية .. وبسبب هذا التقدير المبالغ فيه لنفسك ضننت بها على من عرفتهن من قبل .. وضننت بها على كل من عرض عليك لأنك تريد لنفسك عروسا لم تخلق بعد، وملاكا مبرئا من كل الهنات والعيوب، وفتاة مضمونة كالساعات السويسرية، لكي تهبك حياة سعيدة رفيعة المستوى تليق بك ..
لهذا فأنت تنسحب وتردد.. وتجرى حساباتك الدقيقة لتتأكد من أن من ستنال شرف معاشرتك سوف تحقق كل المأمول منها بلا أي هامش لاحتمال الخطأ.. أو الفشل.. أو التعاسة. ولهذا أيضا أبشرك بعزوبة أبدية.. وباجتماعات سرمدية لدراسة المشروع لن تنتهي إلا مع إيذان شمس العمر بالمغيب.. لأنه لا أحد يستطيع أن يضمن المستقبل سوى الله سبحانه وتعالى، ولأننا لسنا مطالبين في هذا الأمر وفى غيره من الأمور سوى بان نحكم العقل فى حدود قدراته، وان نتلمس أسباب الوفاق والنجاح في حدود الممكن، ثم نترك الأمر بعد ذلك لمالك الملك.. وندعو لأنفسنا بالسعادة والتوفيق.
أما التحسب الشديد.. والحسابات الدقيقة، فلم تضمن لأحد السعادة من قبلك ولن تضمنها لأحد من بعدك، لان لكل إنسان مهما بلغت دقة حساباته نصيبه المقدور من السعادة أو الشقاء، ولأنه ليست هناك حياة كاملة السعادة إلا في الجنة ولا حياة دائمة الشقاء إلا في الجحيم، وإنما هناك دائما سعادة وشقاء وآلام وأفراح، ونصيب كلا منا من الهناء أو المعاناة يتحدد بقدر ما ينال من نسب هذا المزيج العجيب الذي يصنع الحياة.
وأنت يا سيدي تعانى شيئا اخطر من ذلك، هو الشك وسوء الظن بالآخرين، اللذان يخلقان عندك مشكلة التردد الهاملتى هذا، فأنت ترى العيوب في الآخرين دون أن ترى فيهم محاسنهم.. وتتوجس شرا منهم دون أن تستبشر خيرا بهم، ثم تحزن وتندم حين تراهم وقد أثمرت زيجاتهم وعاشوا فضلاء أسوياء بعيدا عنك، ولهذا الشك وسوء الظن علاقة بأفكارك التي دفعتك إلى رفض كل من اقتربت منك، وأملت في الزواج منك معتبرا ذلك دليلا أكيدا على ضعف أخلاقياتها، ناسيا دورك الأساسي أنت في هذا الاقتراب الذي ينحدر إلى مستوى الغش والخداع، وأنت تسعد بقرب الأخريات، وأنت تضمر لهن في نفس الوقت أسوأ الآراء والظنون فيهن.. وهو انفصال شديد بين السلوك والمعتقدات من الطبيعي أن يضعك في هذا الموقف الغريب.. وان يضيع عليك كل الفرص الطيبة وان يسرق منك العمر وأنت مازلت تبحث عن الضالة المنشودة!
إنني في هذا المجال أؤمن بقول الشاعر : (إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه) لان التجارب السيئة تفقد الإنسان براءة المشاعر وتفقده حسن الظن بالآخرين، وتصور له أن الدنيا بأسرها هي ما لمسه بنفسه في بعض تجاربه السيئة المحدودة. ولهذا أيضا فأنى كثيرا ما اصدق قوله ميترلنك: (كن كاذبا تسرع إليك الأكاذيب) ففي أي طريق تذهب لن يكون قدرك غالبا سوى صورة من نفسك!
فإذا أردت لنفسك أن تنجو من الوحدة ومصاحبة الأوهام والأشباح في شيخوختك فتخلص من ترددك على الفور، واقتنع بأنك إنسانا عادى مثلنا ومثل الجميع، واقبل لنفسك ما قبله الآخرون لأنفسهم فلست بأفضل منهم.. ولا اخطر شانا، فالحياة يا صديقي عمل وزواج وسعى دائم لتحقيق إرادة الحياة في تطورها نحو الأفضل والأنفع، كما يقول بصدق أستاذنا نجيب محفوظ في إحدى روائعه.
ومن التقصير الشديد في حق نفسك التي تقدسها إلى هذا الحد، أن تحرمها من شرف المحاولة الجادة للوصول إلى السعادة التي تنشدها.. فان سعدت كان ذلك في غاية المنى، وان شقيت فلقد كفاك شرف المحاولة.. وكفاك انك كنت شجاعا ولم تهرب من المعركة .. وفى كلتا الحالتين لن تخسر أبدا في رأيي، لان هموم الزواج في مثل حالتك أنبل واهون كثيرا من هموم الوحدة والعزوبة الأبدية، ولا شك انك بخوفك من المستقبل تحرم إنسانة ما تستحقك من حقها المشروع في أن تهجع سفينتك إلى مرفأ الأمان معها، لهذا قال الإمام أبو حنيفة مشيرا إلى من تؤهله ظروفه للزواج ولا يتزوج : إن شرار الناس عند الله عزابهم !!
وقديما قال سقراط لأحد تلاميذه: (تزوج يا ولدى فان كانت زوجتك طيبة ستصبح سعيداً وان كانت زوجتك سيئة فستصبح فيلسوفا) فتحرك يا صديقي فلقد استغرق بناء السد العالي 9 سنوات فقط، وأنت بعد 26 سنة من التخطيط والأعداد لم تضع بعد حجر الأساس لمشروعك العجيب هذا.. فماذا تنتظر لكي تهرب من وحدتك إلى نادي السعداء.. أو إلى مجمع الفلاسفة؟
لطفا .. قم بمشاركة الموضوع لعله يكن سببا في حل أزمة أو درء فتنة …