فكر و ثقافةوعي

اليابان .. كيف بدأت المعجزة || ج2

اليابان و كيفية البناء بعد هزيمة الحرب العالمية الثانية

هناك عدة عوامل تسببت فى نهضة اليابان فبخلاف طبيعة الشعب نفسها و إعتقاده التام بأهمية العمل و أسباب أخرى متعارف عليها مثل الإهتمام بالتعليم إلا أن هناك أسباب أكثر جوهرية لامست الوضع الإقتصادى وقتها و من أبرزها :

1– بعد إنتهاء الحرب أرادت الولايات المتحدة أن تضع لها قدماً فى المعسكر الشرقى و اتسق هذا مع رؤيتها لليابان و إتخاذها كحليف بدلاً من معاداتها و من ثم يصبح إنضمامها للمعسكر الشيوعى أمر مفروغ منه .. احترمت عقائد اليابانيين .. لم تحاول تغيير تركيبتهم السكانية أو المساس بعاداتهم و تقاليدهم و هذا بخلاف المساعدات المالية بالطبع فقد قدمت لها منحاً وصلت إلى مليار و نصف المليار دولار خلال خمس سنوات فى إطار ما عرف بـ خطة مارشال و هو ما ساعد اليابان كثيراً فى تجاوز السنوات الخمس الأصعب فى تجربة نموها

2 – بعد تسريح الجيش اليابانى إنضم لصفوف العاطلين عن العمل حوالى خمسة ملايين عاطل إضافى و هو ما هدد البلاد بالمجاعة و لكن ما حدث على أرض الواقع كان مغايراً تماماً حيث تكفل قطاعى الحرف اليدوية و الزراعة بإحتضان جزء كبير من تلك الأعداد ما خفف من وطأة الأزمة

3 – إعداد برامج إقتصادية بلورت الفكر الإقتصادى الذى ستسير عليه اليابان خلال العقود التالية حيث تم اعداد تلك البرامج فى حلقات نقاشية و إجتماعات مستمرة قام بها أعلام السياسة و الإقتصاد فى اليابان ثم تم تفريغ تلك الإجتماعات فى شكل مسودة نهائية ظهرت للعلن فى مارس 1946 حيث ظهر فى هذه المسودة تفصيلاً لمشكلات اليابان الداخلية مع وضع إستراتيجية لحل تلك المشكلات بالإضافة لتوصيات لإعادة إعمار اليابان مرة أخرى

4 – دور الحكومة فى دعم ” الكريستو “ أو مجموعة الشركات العملاقة التى مثلت قاطرة النمو للإقتصاد اليابانى حيث كانت الحكومة تسمح للشركات بالإقتراض من البنوك بأكثر حتى من قيمتها السوقية و فى المقابل سمحت للبنوك بالإقتراض منها بأكثر من المسموح لها و تحملت هى مسئولية تلك المخاطرة مما أسفر عن مستثمر محلى قوى غطى إحتياجات السوق المحلية دون الحاجة لمستثمر أجنبى يغطى النقص محلياً بل ما حدث فعلياً أن المستثمرين المحليين نجحوا فى غزو أسواق العالم بالمنتجات اليابانية

5 – أحد أبرز مظاهر النمو الإقتصادى اليابانى كان إنشاء وزارة الصناعة و التجارة الدولية عام 1949 و هى نتاج إندماج وكالة التجارة الدولية مع وكالة الفحم مع  وزارة التجارة و الصناعة و تجلت عبقرية تلك الخطوة فى أسلوب إدارة الوزارة حيث تبنت إستراتيجية جديدة نوعاً ما قائمة على دعم قطاعات بعينها دون باقى قطاعات التصنيع حيث كانت تقيس قوة قطاعات الإقتصاد المحلى أولاً ثم تقيس توقعات النمو العالمى فى القطاعات الصناعية ثانياً ثم تدرس معدلات الطلب فى العشر سنوات التالية ثالثاُ ثم فى النهاية تدعم تلك القطاعات فى سوقها المحلى فيكون ناتج تلك العملية معدل طلب عالمى عالى بالإضافة لمنتج محلى عالى الجودة بسعر تنافسى و بوفرة كبيرة لكون اليابان سبقت الجميع بتوقع معدلات الطلب على تلك المنتجات

6 – سياسة توزيع التجارة الأجنبية أحد نواتج وزارة الصناعة و التجارة الدولية أيضاً حيث كان لها دوراً بارزاً فى تخفيض معدلات الإستيراد و منع المنتجات الأجنبية من إغراق السوق المحلية عن طريق وضع قواعد ساهمت فى عدم إستيراد إلا ما تحتاج إليه المشروعات الصناعية بالفعل و ما يساعد فى إتمام العملية الصناعية و بخلاف قدرة تلك السياسة على تخفيض حجم الإستيراد فهى ساعدت بشكل فعال فى دعم الصادرات و إدارة الإستثمار

7 – السياسات النقدية التى انتهجتها الحكومة اليابانية فى الستينات و السبعينات حين أقدمت على تخفيض معدل الفائدة فارتفعت دخول الأسر اليابانية مما شجعهم على الإستهلاك و زيادة الإستهلاك تعنى طلباً متزايداً بالتأكيد و حتى لا يصطدم هذا الإجراء مع إمكانية ضعف المعروض من السلع فى الأسواق قامت الحكومة من الناحية الأخرى بتقديم قروض ميسرة للتجار و المصنعين ساهمت فى دعم الإستثمار المحلى لأعلى درجة و معها تضاعف الناتج المحلى الإجمالى أكثر من 12 ضعف خلال 15 عاماً فقط و تجاوز حد المليار دولار لأول مرة عام 1980

8 – جهود الوزارات اليابانية المتعاقبة كان عاملاً حاسماً حيث يعود لها الفضل الأول فى حماية المستثمرين المحليين سواء صغاراً أو كباراً بعدم التوقيع على معاهدات تحرير التجارة قبل أن تمتلك اليابان التقنيات اللازمة لمنافسة السلع الأجنبية الواردة إليهم و هو ما وضح تماماً فى التشريعات و القوانين التى انحازت تماماً للمستثمر المحلى و بعد أن وصلت إلى الحد الذى يسمح لها بالمنافسة الشريفة مع السلع المستوردة تم تخفيف حدة القوانين تدريجياً بالإضافة لقيام اليابان بالإنضمام لتحالفات و تكتلات إقتصادية مثل منظمة التعاون الإقتصادى و صندوق النقد الدولى

* إذاً نحن أمام حالة فريدة من نوعها فهى دولة مرت بمراحل تاريخية متباينة بشدة فمن الطبقية و الإقطاعية لمئات السنين إلى الإنفتاح على العالم الغربى و إستقطاب أسلوب إدارته ثم إلى الدخول فى حروب إقليمية متتالية بغية التوسع ثم إرتفاع طموحها الإقليمى إلى ذروته فى الأربعينات من القرن الماضى ثم بسبب هزيمتها فى الحرب العالمية الثانية عادت إلى المربع صفر مرة أخرى لتحاول البدء من جديد فى ظروف أقل ما توصف به أنها كارثية ..

دولة تعداد سكانها وقتها قد تخطى المئة مليون نسمة يعيشون على أرض مساحتها تمثل 37 % من مساحة جمهورية مصر العربية تغطى الجبال البركانية نحو 80 % من مساحتها و الأراضى المتاحة للزراعة فيها ضئيلة للغاية و لا تملك أى موارد طبيعية تقريباً .. هذا شعب من المفترض أن يموت جوعاً إلا أنه صنع معجزة و أصبحت اليابان ثالث أقوى إقتصاد فى العالم بعد أن إستمرت فى المركز الثانى بعد الولايات المتحدة الأمريكية لفترة طويلة قبل أن تحتل الصين مكانها ..

دولة عانت بعد الهزيمة فى الحرب العالمية الثانية من البطالة و ضعف سوق العمل و من معدلات تضخم مهولة و إرتفاع أسعار السلع و نقصها فى الأسواق و كان يجب عليها السير فى طريقين ضد بعضهما البعض حيث كانت ترغب فى دفع عجلة التنمية و دعم الإستثمار الداخلى و بالتالى توجب عليها تخفيض الفائدة و فى نفس الوقت توجب عليها فرض مزيداً من الضرائب و اتباع خطة تقشفية لزيادة الإيرادات و تخفيض الإنفاق لأقل درجة مما يقلل معدل النمو بلا شك و هو وضع شبيه بما تمر به جمهورية مصر العربية الآن و إن كنا نحن فى وضع أفضل مما كانت فيه اليابان وقتها ..

اليابان صنعت معجزة بدون ذرة شك ..

رائج :   فيلم “الضيف” .. محاولة لحشر الأفكار في رأس الجمهور

كيف تستفيد مصر من تجربة اليابان ؟

هناك العديد من الإجراءات التى يجب علينا تطبيقها إذا كنا نطمح أن نسير على خطى اليابان منها على سبيل المثال :

– الشعب اليابانى يقدس العمل بطبعه .. نحن لا نملك تلك النوعية للأسف .. إذاً لابد أن ننمى هذا الشعور فى نفوس العاملين و هذا لن يحدث إلا إذا شعروا بالعدالة الإجتماعية و إذا شعر العمال بالعدل زادت إنتاجيتهم كرد فعل طبيعى .. يمكننا فى البداية تقديم حوافز إضافية للعاملين بشرط ربطها بحجم الإنتاح و جودته

– الإهتمام بالتعليم خاصة التعليم الأساسى لأنها الفترة التى يتم فيها غرس معانى الإنتماء للدولة و الوطنية و حب العمل و تقديسه فنحن إن خسرنا جيلاً فلا يجب علينا أن نستمر فى خسارة الأجيال القادمة

– تركيز جهود البنك المركزى لتفعيل دور أدوات السياسة النقدية و تعديلها لتشجيع الإستثمار خاصة الإستثمار المحلى ( تخفيض سعر الفائدة ) مع توسيع حجم الإئتمان عن طريق زيادة حجم القروض المقدمة للشركات و المؤسسات الصناعية و متابعة أداء تلك الشركات عن طريق تقسيم القروض على دفعات

– تقديم تسهيلات إئتمانية و ضريبية للمشروعات الصناعية التى تستخدم مواد خام محلية

– دعم الشركات المصدرة دعماً حقيقياً يساهم فى رفع حجم الصادرات مع التضييق على الواردات قدر المستطاع و عدم تجديد الإلتزام بأى إتفاقيات خارجية تسمح بإغراق السوق المحلى بالبضائع المستوردة

– تقليد اليابان فى قراءة المستقبل و معرفة حجم الطلب على القطاعات المختلفة عالمياً و محاولة التميز فى أحدها و دعمها

– الإهتمام بإنشاء المناطق الصناعية مع إنشاء البنى التحتية اللازمة لها من طرق و أنفاق و موانىء و مطارات مع تسهيل الإجراءات الجمركية

– محاربة الفساد بكل أشكاله و تقليل فترة التقاضى لأقل حد ممكن مع تغليظ العقوبات على الفاسدين لأنه بدون حرب حقيقية على الفساد كل ما سبق لن يؤتى ثماره

اليابان .. الدولة صغيرة المساحة قليلة الموارد كثيفة السكان و التى كانت حتى القرن الماضى دولة على هامش الكرة الأرضية تفتقر إلى التطور و تعرضت للهزيمة فى حرب عالمية و بفعل القنابل الذرية التى ألقيت عليها دمرت فيها بعض مدنها بشكل كامل و كادت أن تتعرض للمجاعة بسبب نقص الأغذية و ارتفاع نسبة البطالة ..

فى ظروف تعد مستحيلة لنهضة أى دولة نجحت اليابان فى صنع معجزتها الخاصة بفعل إرادة النجاح التى تولدت عند شعبها بعد خسارة كل شيء و بفعل مساعدات خارجية بالطبع و بمقارنة وضعنا الإقتصادى الحالى بوضع اليابان فى حينها فنحن فى ظروف أفضل كثيراً تمكننا إن شاء الله من العبور من أزمتنا الحالية فقط إذا أخلصنا النوايا و سلكنا مسلك الناجحين من الدول قبلنا ..

Related Articles