من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)
أكتب اليك هذه الرسالة بعد ان قرأت رسالة الطبيب التى نشرا بعنوان “الا قليلاً ” و يروى فيها كاتبها قصة رحلته من الأمية و هو فى سن الصبا يتفرج على كتبة الجمعية التعاونية و هم يسجلون الأرقام و الأسماء و يعتبرهم سحرة يأتون الأعاجيب , الى أن حصل على بكالوريوس الطب و احزنه أن أفلتت منه فرصة الحصول على تقدير جيد جدا و يشكو لك همه جراء ذلك .
و الحق أن هذه الرسالة قد دفعتنى لأن أروى لك و لكاتب الرسالة الأولى قصتى مع الحياة , فأنا يا سيدى شاب فى الواحدة و الثلاثين , نشأت فى قرية صغيرة بدمياط فوجدت نفسى أعيش مع أبوين مسنيين أنجبانى بعد فترة طويلة من الأنقطاع , فكنت طفلا وحيدا فى بيتهما الريفى البسيط و لى أخ و أخت قد غادرا البيت و تزوجا و أنجبا أطفالا فى مثل سنى , و كان أبى مزارعا بسيطاً فلم يستطيع أن يوفر لى امكانيات التعليم , فتوقفت عن الذهاب الى المدرسة بعد السنة الرابعة الأبتدائية , لأنى كما يقال لأمثالنا من البسطاء فى مثل هذه الظروف القاسية , قد أصبحت رجلا و على أن اخرج للعمل و أكسب قوتى بنفسى , فدفع بى أبى الى محل حلاق القرية فعملت صبياً به أتقاضى كل يوم خميس خمسين قرشاً كاملة !
و لم أكن قد تعلمت فى المدرسة شيئاً كثيراً فكنت لا أكاد أعرف الفراءة و الكتابة وواصلت العمل حتى بلغت سن الثامنة عشرة , فراودنى فجأة حلم التعليم , و فجره فى داخلى ما كنت أشاهد فى تمثليات التليفزيون من سخرية مريرة بحلاق القرية , فأردت ألا أعيش حياتى كلها داخل جدران محل متواضع للحلاقة بأحدى القرى , فأشتريت كتاباّ خارجياً لدروس الشهادة الأبتدائية , و رحت أقراه بصعوبة شديدة , و أستعين بشبان القرية المتعلمين على أستيعابه حتى ألتهمته التهاماً خلال شهور الصيف , ثم قرأته ثانية و ثالثة و رابعة و قررت دخول امتحان الأبتدائية من الخارج , و دخلته بالفعل وحصلت عىل الشهادة الابتدائية بمجموع 75% , و فى العام التالى دخلت أمتحان السنة الأولى الأعدادية و نجحت فيه ثم امتحان السنة الثانية و نجحت فيه ايضاً ..
و بلغت سن التجنيد فجندت و فى وحدتى العسكرية استدعانى القائد حين عرف بقصتى لقص شعره .. ثم أرشدنى الى كيفية الألتحاق بمدارس التحرير العسكرية , فألتحقت بها و حصلت منها على الشهادة الأعدادية , ثم نجحت فى السنة الأولى الثانوية و السنة الثانية و أنتهى تجنيدى فخرجت الى الحياة و ليس معى من المدخرات سوى مكافاة نهاية الخدمة و هى عشرون جنيها ً ,
فعملت لفترة فى أحدى شركات المقاولات بالقاهرة و أستطعت أن أدخر خمسين حنيها , و بدلا من أن أستمر اتخذت أصعب قرار فى حياتى , و هو أن أتوقف عن العمل و أن أعود الى بلدتى و معى كل ما أملك من حطام الدنيا و هو سبعون جنيهاً , لكى أواصل رحلة التعليم , فعدت اليها و عمرى 24 سنة , و دفعت من ” رأس مالى ” عشرين جنيهاً رسوما للالتحاق بفصول الخدمات فى مدرسة مدينة صغيرة مجاورة , و قررت أن اتفرغ عاماً كاملاً للحصول على الثانوية العامة , أعيش خلاله على ما تبقى معى من المال ,
و ذهبت الى المدرسة لأول مرة فألتف حولى الطلبة مرحين و هم يظنوننى مدرساً جديداً , ثم تكشف الحقيقة فشجعنى كثيرون منهم و كان فى المدرسة عدد من المدرسين من أبناء قريتى فأوصوا بى زملائهم .
فسمحوا لى بحضور فصولهم النظامية لأنى كنت شديد الحاجة الى المساعدة فى اللغتين الانجليزية و الفرنسية , ولا أقدر طبعاً على نفقات الدروس الخصوصية , فأصبحت أمضى نهارى كله داخل جدران المدرسة , أحضر حصص اللغتين الأجنبيتين كلها فى كل الفصول و أطوف وراء مدرسيها من فصل الى فصل فأحضر الدرس الواحد عدة مرات , ثم ينتهتى اليوم النظامى و تبدأ دروس فصول الخدمات فأحضرها جميعاً , ثم أعود الى بيتى فى القرية لأستذكر دروسى حتى وقت متأخر فى الليل , الى أن أنتهى العام الدراسى و تقدمت للأمتحان و أنتظرت النتيجة بقلب مرتجف ففوجئت بنجاحى بمجموع 57% ,
فأزددت أصراراً على أن أواصل الطريق الى النهاية , و كان نقودى قد نفذت بعد أن عشت عاماً طويلاً بخمسين جنيهاً فقط , لا أعرف حتى الأن كيف سدت رمقى و لبت أحتياجاتى , و كان أبى قد رحل منذ فترة عن دنيانا ففتحت محلاً صغيراً للحلاقة فى قريتى , و أنتسبت الى كلية التجارة بجامعة الزقازيق , و نظمت حياتى بحيث أعمل اسبوعاً فى محلى الصغير أجمع خلاله ما يكفى لتلبية أحتياجاتى و أحتياجات أمى من القوت الضرورى , ثم أنطلق الى المدينة الزقازيق أحضر المحاضرات و أذاكر و أعيش حياة طالب الجامعة أسبوع اخر و هكذا .
لكن المحل الصغير لم يصمد لهذا النظام فتراكم على ايجاره المتأخر و أسترده صاحبه فقررت السفر الى العراق للعمل خلال شهور الصيف , و ظهرت النتيجة و نجحت فى السنة الأولى فركبت الطائرة الى هناك و عملت حلاقاُ فى أحد محلات بغداد شهور بنظام نصف الايراد , فأعمل طوال النهار وحدى فى المحل , ثم يجىء صاحبه فى المساء فأحصى الايراد و أقتسمه معه ..
و كان سعيدا ً بى و بأمانتى ..و حزن حين غادرته بعد 4 شهور و عدت الى مصر و معى ألف جنيه لأواصل الدراسة و تفرغت لدروسى حتى جاء الصيف , فسافرت مرة أخرى و أستمرت الحال هكذا طوال سنوات الجامعة حتى حصلت على بكالوريوس و عمرى ثلاثون عاماً , و لم أرسب خلال رحلتى سوى مرة واحدة فى السنة الثالثة بكلية التجارة لقسوة ظروفى فيها لكنها كانت كبوة لم تتكرر ابداً .
و فى الشهور الأخيرة من دراستى الجامعية ذهبت لزيارة بعض أقاربى فالتقيت بقتاة من قريباتى تدرس فى السنة الثانية بكلية اداب عين شمس ,و لم أكن رأيتها من قبل فأحسست للوهلة الأولى بأن خيطاً ما يربطنى بها , و كانت تعرف قصة كفاحى مع التعليم و مع الحياة , فأبدت أعجابها بتصميمى على التعليم فترددت على بيت الأسرة أكثر من مرة لرؤيتها و التحدث معها فتقاربنا كثيراً , و تعاهدنا على الزواج و عندما حصلت على شهادة البكالوريوس تقدكت لخطبتها و عقدنا القران بعد قليل ,
و بدأت مرحلة جديدة من كفاحى لتكوين عش الزوجية , و كنت قد جمعت من سفرى كل صيف مبلغ الفى جنيه, فدفعتها كجزء من مقدم اليجار لشقة فى القاهرة , و عدت للسفر فعملت عدة شهور و تسلمناها و أثثناها بالتقسيط , و تزوجنا و اكتشفت أنى قد حصلت على شهادتى فى وقت لم تعد هناك قيمة للشهادة الجامعية , فخرجت أطلب العمل فى محلات القاهرة و وجدته بسهولة , و أنا الان أعمل فى أحدى المحلات بأجر قدره 8 جنيهات فى اليوم و أحصل على دخل شهرى لا يقل عن 300 جنيه , و زوجتى راضية عن حياتنا و عن عملى بل و فخورة به و بى و بكفاحى , لكنى لم أتخلص بعد من نفورى القديم من المهنة الذى غرسته فى نفسى سخرية التليفزيون و السينما من حلاق القرية .
و أشعر أحيانا أنى سرت فى طريق مسدود حين أصررت على التعليم و ضحيت بعملى فى الخارج من أجله , لكن زوجتى لا تشاركنى هذا النفور , و لا ترى فى الوظيفة املاً يستحق المعاناة أو يستحق أن يفسد سعادتنا فهى راضية بى هكذا .. و تريدنى الا أشقى بوضعى كحلاق جامعى , و أن أبتسم للحياة , و كلامها يخفف عنى الكثير و نفسها الراضية و قلبها الذى لا يشع الا الحب يشعراننى احيانا انى ملك و لست حلاق بالأجرة ,
و قد حملت زوجتى و نستعد الان لاستقبال جنين الحب الذى جمع بيننا , و حين أعود الى عشنا الصغير بعد يوم طويل أمضيه واقفاً على قدمى أحس بلأمان يغمر روحى و بنسائم الحب تحلق فى سماء مسكنى الصغير , و أشعر بالراحة بعد العناء , لكن قاتل الله القلق فأنا قلق على مستقبلى و أتمنى لو أستطعت أن أجد وظيفة أؤمن بها أيامى القادمة الى جانب فنى و مهنتى , لأن مهنتنا لا قلب لها و الازدهار فيها مرتبط بالسن و الشباب , فالشباب يقبلون على الان لكنهم حين أتقدم فى العمر سأصبح بالنسبة لهم موضة قديمة , و ربما لن أجد من يستخدمنى فماذا تقول لى .
ولكاتب هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :
انك “ملك” فعلا لا مجاز , لأنك تملك الحب الصادق الحقيقى ة تتنفس نسائمه مع شريكة حياة محبة راضية فخورة بك فى كل الأحوال , و تستعد لأستقبال ثمرة الحب التى ستخرج الى الحياة بعد قليل فتكتمل بها سعادتكما .
و أنت “ملك” ايضا لأنك تملك ارادتك القوية التى أستطعت أن تنتشل نفسك بها فى ظلال الأمية الى ضياء التعليم , و تمكنت بها أن تبنى لنفسك عشاً صغيراً جميلاً بلا سند من أحد سوى كفاحك و صلابتك فلماذا تفسد أيامك السعيدة هذه بالرثاء لنفسك ؟ لأنك لم تجد وظيفة بمؤهلك الجامعى , و لم يمض على تخرجك سوى شهور , و أنت فى مجتمع يطول فيه ظانتظار الخريجين لفرصة العمل بالسنوات , فأذا جاءتهم عجزت غالبا عن تحقيق أحلامهم فى المسكن و الزواج , فلماذا نشقى غالباً للوصول الى ما كان يبدو لنا مستحيلاً ؟ فأذا بلغناه زهدناه و استصغرنا شأنه و شقينا بالتطلع الى أهداف بعيدة أخرى ؟
ثم ما معنى الأمان الذى تبحث عنه و أنت تملك فناً تجيده و تستطيع أن تستثمره خلال فترة قصيرة أخرى فى مشروع خاص؟
تكون فيه سيد نفسك و تحقق من ورائه كل ما تطمح اليه من أمان و استقرار .
يا صديقى أن الوظيفة فى بلادنا بم تعد غالباً مصدراً للأمان و لا للوجاهة الأجتماعية , با أن السخرية المريرة التى كنت تشكو منها لم تعد تتجه الأن الى مهنة بعينها فى مجتمعنا أكثر مما تتجه الى الوظيفة و الموظفين بغض النظر عن أخلاقية السخرية من أى عمل شريف مهما كان وضعه .
و فى بلادنا الان نظم للتأمينات الأجتماعية لأصحاب الأعمال الحرة تبطل حجة الأمان الذى كانت تمثله الوظيفة ..لهذا فأنى أتفق مع زوجتك ¬باحتفائها بأمر الوظيفة و أراها فى هذه النقطة أكثر تقدميه منك , و أقل ثأثراً بهذه الرواسب الأجتامعية القديمة التى مازالت فيك, و تدفعك للنفور من فنك و مهنتك الشريفة .
و رغم ذلك فأذا كنت تبحث عن “لقب” فلا بأس اذا سمحت لك الظروف بالعثور على وظيفة بأن تعمل بها ساعات الصباح , على أن تستكمل باقى متطلبات حياتك من العمل الحقيقى الذى تمارسه الان , و الذى ستعرف قيمته أكثر اذا عثرت على وظيفة لن تقدم لك الا ربع الدخل الذى تحققه الأن , و أن كنت فى رأيى فى حاجة الى هذا “اللقب” الذى لم يعد يمثل شيئاً , لأنك حملت بالفعل لقباً لسمى منه حين حققت بكفاحك ملحمة تعليمك , و حين وفقك الله الى هذه الشريكة الفاضلة ..
و حين نجحت فى بناء عشك الصغير الجميل , الذى قد يغبطك عليه الكثير ممن أجزلت لهم الحياة العطاء فى حياتهم العملية , و حرمتهم من لحظة سعادة حقيقية يتنفسون خلالها نسائم الحب الذى يظلل حياتك الخاصة , فلا تبدد أمانك النفسى طلبا لأمان غير مضمون ,
و لا تسمح للخوف من المستقبل بأن يسرق أيامك و زهرة عمرك, فلقد علمتنا الحياة بأن من يغالى دائماً فى التحسب للمستقبل لا يستقر له جانب طوال حياته مهما تحصن ضد الزمن بشتى الاحتياطات , لأن المستقبل الذى تخشاه سيكون هو نفسه حاضره بعد سنوات , فأذا تمكن الخوف من أنسان تجاهه لم يستطيع أبداً أن يسترد اطمئنان قلبه مهما حقق من نجاح , لأنه يحمل معه خوفه من مرحلة الى مرحلة طوال حياته خوفا من مستقبل لا يملك أمره سوى الله سبحانه و تعالى .
فأصبر قليلاً يا صديقى و أنظر وراءك بين حين و اخر لترى الشوط الذى قطعته , و لترضى عن حاضرك و تطمئن الى مستقبلك , و لا بأس بأن تتذكر دائما قول الشاعر :
اصبرى أيتها النفس فأن الصبر أحجى … ربما خاب رجاء و أتى ما ليس يرجى
و أنت على أيه حال لم يخب لك رجاء حقيقى حتى الأن و لم تأتيك الحياة بما ليس يرجى لكنك تسير على الطريق .. و كل شىء يأتى لمن صبر و كافح و رضى بما حققه و بما أنعم عليه ربه , و من كانت له أرادتك لن تستعثى عليه غاية و لن يضل الطريق الى أهدافه ابداً بأذن الله.