من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)
أنا أم لشابة هي صغرى بناتي وقد حصلت على شهادتها الجامعية بتفوق وبدأت طريق الدراسات العليا وحصلت على الدبلوم وبدأت تحضر رسالة الماجستير,
فتقدم لها مهندس شاب ورحب به الجميع لكرم أخلاقه وأسرته الطيبة, وسعدت أنا بأن تعوض الأيام ابنتي عن يتمها المبكر حيث رحل عنها والدها وهي في السابعة من عمرها, وتم الزواج وانتقلت ابنتي إلى عشها الصغير وسط فرحة الجميع بها..
وما هي إلا بضعة شهور قليلة حتى شعر زوجها الشاب الممتليء بالصحة والعافية بآلام شديدة وتوجه إلى الطبيب, فطلب منه إجراء بعض التحاليل فإذا بها تظهر اصابته بمرض خطير, في نفس الوقت الذي أكدت فيه التحاليل من ناحية أخرى لابنتي أنها حامل في شهورها الأولى, وهكذا تبددت فرحة العروس الشابة بعرسها وبحملها.. وصارحنا الأطباء بأن زوجها لن يطول به العمر أكثر من بضعة شهور ونصح كثيرون بالتخلص من الجنين حتى لا يأتي إلى الحياة يتيما.. فتثقل به كاهلها بدلا من أن تبدأ مرة أخرى بعد القدر المحتوم ..
كما عرض عليها زوجها أن يعطيها حريتها ويعفيها من خوض رحلة المعاناة والمرض معه, لكن ابنتي رفضت نصائح الناصحين باجهاض الجنين, ورفضت كذلك عرض زوجها الكريم وأصرت على أن تقف إلى جواره في محنته الي اللحظة الأخيرة.. وأن تحتفظ بجنينها كذلك عسى أن يمد الله في أجل أبيه لكي يراه ويسعد به ولو لأيام قليلة.. وقالت لكل من عارضها إن ذلك هو ما يمليه عليها دينها وضميرها.
وبالفعل أعانها الله على ذلك فوضعت مولودها وجاءت طفلة جميلة.. واستجاب الله لدعاء أبيها بأن يمد في عمره حتى يراه فرآها وسعد بها سعادة طاغية.. وحقق له ربه أكثر من ذلك فعاش أربعة سنوات يصارع المرض كانت هذه الطفلة خلالها هي نقطة الضوء الوحيدة في ظلام الخوف من الغد ..
ثم جاء القدر المحتوم وابنتي إلى جوار زوجها في اللحظة الأخيرة.. وبكته طويلا وشعرنا جميعا بالحزن على هذا الإنسان الطيب الكريم ومضت ثلاث سنوات علي رحيله عن الدنيا وأرى الآن ابنتي وحيدة صابرة على أقدارها ..
ويراودني الأمل في أن تواصل حياتها الطبيعية مع زوج يرعاها ويكون سندا لها ولابنتها في الحياة, اذ كلما تصورت أنها ستمضي بقية عمرها وحيدة وهي مازالت في الثانية والثلاثين يعتصر قلبي الألم والحسرة ..
والمشكلة هي أنها تخاف من تكرار التجربة وكلما حدثتها في ذلك قالت لي إنه من الصعب في هذا الزمن أن يوجد الرجل الذي يتزوج أرملة لديها طفلة ويحسن عشرتها ويتقي الله في طفلتها اليتيمة, وأنا أخشى أن ألح عليها في الزواج فترتبط بإنسان لا يتقي الله فيها ولا في ابنتها فتلومني على مشورتي لها بالزواج وألوم أنا أيضا نفسي لإلحاحي عليها.. لقد أصبحت لا أعرف أين الصواب وأين الخطأ في ذلك.. فهل تشير علي؟
ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :
ليس في المسألة طرف مخطيء وطرف مصيب فرغبتك في أن تتجاوز ابنتك محنتها وتبدأ حياتها مرة أخرى رغبة عادلة ومشروعة .. ومخاوف ابنتك من أن ترتبط بمن لا يحسن عشرتها أو يرعى الله فيها وفي طفلتها اليتيمة مخاوف مفهومة وطبيعية في مثل ظروفها المؤلمة ..
غير أن الفضلاء كثيرون يا سيدتي ومن كان لها مثل وفاء ابنتك وضميرها الديني والأخلاقي لابد أن تعوضها السماء عن أحزانها .. وتجمع ذات يوم قريب بينها وبين من يقدر لها وقوفها إلى جوار زوجها المريض, ورفضها التخلي عنه في محنته الأليمة وإصرارها على عدم التخلص من جنينها خوفا مما تخفيه لها الأيام .. وتفضيلها لأن تسعد قلب زوجها الحزين برؤية طفلته ومعايشته لها فترة ثمينة من العمر القصير ..
لقد أسعدت إنسانا محكوما بأقداره الحزينة وأبهجت قلبه الحسير ورطبت جفاف أيامه القليلة بهذا الاختيار النبيل, ومثل هذه السجايا الإنسانية والخلقية لابد أن تجد من يقدر صاحبتها حق قدرها ذات يوم .. ويسعي للفوز بها.