فكر و ثقافة

دوستويفسكي.. يحكي لنا عن رجل أراد السعادة لكنه تفنن في جعل نفسه تعيسًا

ولد دوستويفسكي سنة 1821 لعائلة من الطبقة المتوسطة حيث كان أبوه يعمل كطبيب في أحد المستشفيات الخيرية التي تعمل على علاج الفقراء والمحتاجين، وكان يسكن هو وعائلته في منزل ملحق بالمستشفى. لذا نشأ ديستوفيسكي مبصرًا للمعاناة التي تَخْفَى عن الأطفال في سنة.

أدب دوستويفسكي مأساوي بشكل مخيف، إنه يصر على فكرة أن السعادة مطلب مستحيل، وكأنه يحكي لنا عن نفسه، يحكي لنا عن رجل أراد السعادة من كل قلبه لكنه تفنن في جعل نفسه تعيسًا.

لعب ديستوفيسكي القمار من أجل اللهو لكنه خسر الكثير من المال، وأوصله إدمانه للقمار لحالة من الفقر والدين لازمته في معظم حياته.. وذلك حتى بعد أن أصبح من أشهر كتاب روسيا.

في بداية حياته، وقبل أن يصبح كاتبًا، عمل دوستويفسكي كمهندس بعد تخرجه، وكان يعيش في رغدٍ من تلك الوظيفة، لكنه سرعان ما التحق بجماعة من المثقفين كانوا يقرأون الكتب الممنوعة و يناقشونها في حلقات سرية، ورغم أنه لم يكن منتظم الحضور إلا أنه قبض عليه وحكم عليه بالإعدام لكن الحكم تم تخفيفه قبل دقائق من التنفيذ، وعوضًا عن الإعدام أُرسل إلى سيبريا لإمضاء حكم بالسجن لأربعة سنوات حيث عمل في ظروف قاسية في أعمال شاقة وجو قارص.

لكن الحياة خبأت لديستوفسكي بعض الخير فبعد عودته من السجن كتب أفضل رواياته ورسخ بذلك أقدامه ككاتب، حيث كانت كتاباته قبل دخول السجن تفتقد للنضج، وكانت ممتلئة باقتباسات من كتاب آخرين من الذين تأثر بهم دوستويفسكي ، يبدو أن حكم الإعدام الذي نجى منه في آخر لحظة، وفترة السجن أتاحت له فرصة التأمل في الحياة، والنظر إليها من منظور مختلف، ليخرج لنا بفلسفة فريدة من نوعها.

خرج دوستويفسكي من السجن ليكتب رواية ليس لها مثيل سابق، رواية بطلها في قاع السُلَّم البشري، بطل لم يكن أحد يتخيل أنه يستحق أن يُكتب عنه. روايته الإنسان الصرصار حكت عن موظف متقاعد متذمر بشكل كلي من الحياة وكاره للجميع، رجل غير عقلاني غير متسق مع ذاته وساخط على الجميع بما فيهم نفسه.. لدرجة أنه كان يذهب لحفلات لم الشمل التي كان يقيمها بعض زملاءه القدامى ليخبرهم كم كرههم جميعًا، كان يريد تحطيم أوهام الجميع وجعلهم تعساء مثله.

كان دوستويفسكي ينظر للأشخاص الذين لا يمكن أن ينظر إليهم أي كاتب كأبطال لرواية ويضعهم في الصدارة ليُظهر تلك الحالات الاستثنائية من البشر ويلقي الضوء عليها.

تلك الشخصية الغريبة أخبرتنا أن فكرتنا عن أن تغيير شيء ما في حياتنا سيشعرنا بالسعادة هو مجرد وهم، فلن نكون أسعد إن حصلنا على وظيفة جيدة، أو غيرنا حكومة سيئة أو وفرنا لأنفسنا منزلًا مريحًا،

أخبرنا ديستوفيسكي على لسان بطل تلك الرواية الذي سينظر إليه جميعنا نظرة استحقار: ” أن المعاناة ستبقى”. إن هذا الرجل الحقير المختل أُلبس على يد ديستوفيسكي حُلة الفلاسفة: وظل يخبرنا أن خططنا لتحسين العالم دائمًا ما تحتوي على أخطاء، لذلك فهي لن تقضي على المعاناة وإنما ستنقلنا من معاناة إلى معاناة أخرى.

فمحاولتنا لإزالة آلامنا هي مجرد محاولة بائسة تفضي دائمًا لتغير مركز الألم عوضًا عن إزالة الألم نفسه.. سيظل هناك ما يعذبنا دائمًا. فالفقير يعذبه الجوع والمترف يعذبه خلو الحياة من هدف، والعاطل يعذبه قلة العمل، والعامل يعذبه عمله. إن التعاسة تلاحقك مهما حاولت الهرب.

كما يهاجم بطل رواية الإنسان الصرصار ذو الشخصية السخيفة الساخطة، بشكل متقن فكرة أن التكنولوجيا ستجعل العالم أكثر سعادة، ويقول أنها لن تنجح أبدًا، لأنه بمجرد أن تُحل مشكلة ستخلق أنفسنا مشاكل أخرى، فالتعاسة محفورة على نفوسنا. ثم أن التكنولوجيا نفسها ليست الوسيلة الأفضل للإصلاح فلقد قاومت التكنولوجيا الأوبئة لتحدث التلوث، وزادت الإنتاج من خلال الميكنة ليزداد عدد العاطلين عن العمل، وزادت الفوهة بين الأغنياء والفقراء.

وحتى في عصرنا والذي لم يشهده دوستويفسكي ولا بطله فإننا نرى أن وسائل التواصل الاجتماعي مثلًا جعلت الناس أكثر انطوائية بدلًا من أن تُسهم في ربطهم ببعضهم البعض، وهي أحد أهم أسباب الاكتئاب في الوقت الحالي.

إن تلك الشخصية التي بدت للجميع في قمة النذالة أخبرتنا بما يجهله الغالبية عن الحياة.. أخبرتنا بحكمة أن هذه الحياة ألم مستمر.

وفي رواية أخرى “الجريمة والعقاب” يخبرنا دوستويفسكي أننا نجهل حقيقة أنفسنا رغم ظننا أننا نعلم كل شيء عنا. روديون راسكولينكوف الشاب الوسيم الذكي طويل القامة الذي يحبه معظم أصحابه كان يظن نفسه يحمل من القسوة ما يُمَكّنه ليصبح قاتلًا لا يكتشفه أحد.

راسكولينكوف كان يرى من أشخاص أمثال نابوليون مثله الأعلى، أشخاص استطاعوا بذكائهم أن يكونوا فوق القانون وأن يطوّعوه لخدمة أغراضهم. لذا قرر أن يحصل على ما يريد حتى ولو خرق القانون، وحتى لو ارتكب أعظم جريمة.

كان راسكولينكوف من أصل أرستقراطي لكن نوائب الزمن أوصلته وعائلته للفقر. ثم وضعته الحياة أمام إمراة عجوز تقرض الأموال بالربا، رأى راسكولنيكوف أن هذه المرأة العجوز الشريرة لا تستحق الحياة أما هو في ريعان شبابه يحتاج لأموالها أكثر، فقتلها وسرق بعض أموالها. كان يظن راسكولنيكوف أنه سيفعل ذلك بدم بارد وأنه لن يُكتشف لأنه ذكي، لكن يبدو أن راسكولنيكوف كان أقل قسوة مما اعتقد وبدأ يتألم من تأنيب ضميره، حتى دفعه ندمه على الجريمة أن يذهب بنفسه ويعترف بجريمته ليلقى العقاب المناسب ويحصل على الغفران.

أراد دوستويفسكي أن يخبرنا أنه بداخل كل من نسميهم وحوش، شخصيات كامنة ذات قلب طيب، إنه يريد أن يقول لنا أن الأشخاص الذين نسمع عنهم في الصحف، أنهم قاموا بأعمال تخريبة أو ارتكبوا جرائم قتل أو ألقوا بأنفسهم في المخاطر لا يختلفوا كثيرًا عن هؤلاء الذين يعيشون حياة مستقرة وتقليديه، إنهم يشبهوننا أكثر مما نتصور، هم فقط قد انزلقوا إلى ما هم عليه بسبب الظروف أو بسبب ضعف أصابهم في لحظة ما، ونحن لسنا معصومين عن هذا الانزلاق، لذلك فهم يستحقون التعاطف.

ديستوفيسكي يريد أن يقول لنا أنه لا أحد خارج دائرة الغفران. وقد اتخذ شخصية راسكولنيكوف الجذابة التي عندما تقرأ عنها لا تستطيع إلا أن تتعاطف معها. أراد دوستويفسكي أن يخبرنا أن الناس لن يستطيعوا التخلص بشكل كامل من عيوبهم، من جشعهم و أنانيتهم ، وشهوتهم. لذا علينا أن لا نكون قساة مع المخطئين منهم.

أراد أيضًا أن يخبرنا أن ما نظنه سيسعدنا ربما لن يوصلنا إلا للشقاء، ربما نجد أن الأمر الذي كنا نظنه خلاصنا هو في ذاته جحيمنا، لقد حصل راسكولنيكوف على المال، لكنه كان أكثر رقة من أن يتحمل تأنيب الضمير، وكان تأنيب الضمير أكثر ألمًا من الفقر الذي حاول هو أن يهرب منه.

عالم دوستويفسكي مأساوي كئيب لكنه يعلمنا الكثير مما لا نفهمه عن الإنسان، إنه يغوص داخل الصفات الإنسانية الغامضة ليعريّها ويظهرها للعيان، يجعل الأشخاص المجهولين المنبوذين أبطال، يخبرنا أنهم بشر. ديستوفيسكي يعلمنا الحكمة القديمة التي نادت بها الأديان أن الحياة ليست دار نعيم وأن الشقاء ينتظرنا في كل محاولاتنا لجعل الحياة أقل قسوة.

ديستوفيسكي يخبرنا أن التقدم التقني لن يجلب لنا أي سعادة. ويحاول أن يحرك عيوننا ناحية الأشياء الأكثر بساطة ويقول أنها هي المصدر الوحيد الذي من الممكن أن يعطينا بعض فرحة، شروق الشمس، نسمات الهواء، صوت المطر، لون الزهور، وضحكات الأطفال ، ورائحة بيت تسكنه أسرة يربطها الحب.

  • بقلمي: سمير أبو زيد
  • نشرت المقال في مجلة شخابيط بتاريخ 7 يوليو 2018

رائج :   معركة مجدو : اسطورة الصحراء التي لا تنسى

مقالات ذات صلة