قصص وعبر

من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || الوسيم

“صباح الخير يا سيادة المديرة ..”
نطق (عماد) العبارة في خفوت، وبأقصى عذوبة أمكنه استخدامها، وهو يرسم على شفتيه ابتسامة جذابة، من تلك الابتسامات ، التي اعتاد التدرب على أدائها أمام المرآة، ثم لم يلبث أن اكتست بشيء من الثقة ، عندما التفتت المديرة إليه، وخلعت منظارها الطبي، وهي تتأمله في اهتمام .. 

كان يعلم أنه وسيم، جميل المظهر، يشبه كثيرًا ذلك الممثل الشاب، الذي لم يحمل من مؤهلات، في عالم السينما سوى وسامته الشديدة التي فتحت له أبواب التقدم والنجاح .. 
ويعلم أن المديرة ما تزال فتاة (عانس)، لم تفز بالزواج بعد، على الرقم من سنوات عمرها التي تجاوزت الأربعين ببضع سنوات، ولم تحظ أبدًا بما يمكن القول أنه شيء من الجمال ..
كانت دميمة بالفعل، ذات وجه أطول مما ينبغي، وعينين أضيق مما يمكن، حتى لتحار وأنت تتطلع إليها، فيما إذا كانت تغلق عينيها أم تفتحهما، أضف إلى هذا انفها الضخم، وشفتيها الغليظتين ..
إنها دميمة، دون أدنى قدر من المبالغة ..

وكانت أول مرة يلتقي فيها (عماد) بها مباشرة، على الرغم من أنه يعمل بالشركة منذ أسبوعين كاملين، ولم يكن من المفترض أن يكون اللقاء الأول لصالحه، إذ أن المديرة هي التي طلبت رؤيته، بعد أن غاب عن عمله يومين متتالين، دون إذن أو عذر ..
ولقد سمع الكثير عن صرامة المديرة وشدتها، في التعامل مع موظفيها، وسمع أكثر عن أولئك الذين طلبت مقابلتهم، لتمنحهم عقوبة أشد من الآخرين، وأكثر قسوة..
وعندما ذهب لمقابلة المديرة، كان قد اتخذ قراره في شأن أسلوب التعامل معها ..
لقد قرر الإيقاع بها في حبائله، كما فعل بالكثيرات من قبل ..
سيستغل وسامته وملاحته ، لدفع قلبها إلى الخفقان، وإشعال النيران في عروقها، حتى تنبعث أنوثتها مرة أخرى في نفسها، ويهوى قلبها بين يديه، و ..
ويصبح أقوى رجل في الشركة ..

كان يعلم أنها تكبره بأكثر من خمسة عشر عامًا، ولكن هذا لم يكن يعنيه كثيرًا، فهو يتصور أن هذا الفارق يجعل موقفه أكثر قوة، وموقفها أكثر ضعفًا ..
ويبدو أنه سينجح ..
ها هي ذي المديرة تتطلع طويلًا إلى وسامته في صمت، ومن الواضح أن جماله قد بهرها، حتى أنها لم تنطق بحرف واحد، إلى أن قال هو:
ـ لقد طلبتِ رؤيتي.

قالها مستخدما نفس الصوت الناعم، والابتسامة الجذابة، فاعتدلت المديرة، وتنحنحت، وكأنها تنفض عن نفسها ذلك الانبهار، قبل أن تقول:
ـ أأنت (عماد حازم)؟
أجابها وهو يتطلع إلى عينيها مباشرة:
ـ أنه أنا .
رأى نظرة دهشة تطل من عينيها، وهي تواجه نظراته المباشرة، قبل أن تشيح بوجهها، وتقول:
ـ لقد عبت يومين عم عملك يا أستاذ (عماد)، دون سبب واضح.
همس في نعومة:
ـ (عماد) .. لا داعي لكلمة أستاذ هذه .. يكفيكِ مخاطبتي باسمي مجردًا .. هذا يسعدني أكثر.
مرة أخرى تطلعت إليه في دهشة، وتخضب وجهها بحمرة الخجل، قبل أن تشيح بوجهها ثانية، وتقول في توتر.
ـ إنك لم تجب سؤالي بعد.
كان من الواضح أن أسلوبه قد ترك أثرًا واضحًا في نفسها ..
لقد شعر بهذا، وبخبرته الطويلة في التعامل معها، مما زاد من ثقته بنفسه، ودفعه إلى خطوة أكثر جرأة، وهو يقول:

ـ غبت لأنني لم أعد أحتمل.
سألته في دهشة:
ـ لم تعد تحمل ماذا؟
مال نحوها، هامسا:
ـ لم أعد أحتمل عواطفي الملتهبة.
ردت في دهشة بالغة:
ـ عواطفك؟
ثم همست مستنكرة:
ـ وما شأن عواطفك بالعمل؟

مال نحوها أكثر، ورسم في عينيه نظرة عاطفية، تفيض بالهوى والولع، وهو يجيب:
ـ الم تشعري بي أبدًا يا سيادة المديرة؟ .. ألم تلفت نظراتي إليكِ انتباهك؟. ألم تلاحظي أبدًا عواطفي نحوك؟
لمح تلك الارتجافة، التي سرت في جسدها، وهي تقول:
ـ ألاحظ ماذا؟
ترك صوته يتهدح وهو يقول:
ـ اعذريني يا سيادة المديرة .. أعلم أنك تفوقينني منصبًا، وأنني واحد من آلاف محبيكِ ومعجبيكِ، ولكن ما ذنب قلبي، الذي انتخبك من وسط كل نساء الأرض ليهبكِ نفسه، ويذوب في هواكِ؟!
اضطربت أكثر وأكثر، وأعادت منظارها إلى عينيها، وهي تقول:
ـ أستاذ (عماد) .. إنني ..
قاطعها وهو يقترب منها، ويهمس بصوت أكثر تهدجًا:
ـ لا ترفضي مشاعري .. أرجوكِ .. لا تقتلي قلبي المحب في مهد عاطفته السامية .. افضليني من الشركة، لو اقتضى الأمر، ولكن لا تجرحي مشاعري.
رآها تزدرد لعابها في توتر، وهي تبتعد بنصفها العلوي عنه، قائلة:
ـ أنت تعلم أنني لا أستطيع فصلك يا أستاذ (عماد) فالقانون لن ..
عاد يقاطعها:

ـ ارحمي قلبي إذن .. ربُّاه!! ما الذي فعلته لأتعذب أمام كل هذا الجمال؟
كانت إشارته إلى جمالها أكبر كذبة نطق بها، في حياته كلها، وعلى الرغم من هذا فقد رأى قشعريرة تسري في جسدها، وهي ترفع أصابعها دون وعي، لتتحسس أنفها الضخم، وشفتيها الغليظتين، فمد يده يرفع منظارها عن عينيها، وهو يقول:
ـ لا تخفي عينيك الجميلتين، خلف هذا المنظار .. دعيني أرى أجمل عينين في الدنيا.
تركته يخلع منظارها، وهي جامدة في مقعدها، تحدق في وجهه بنظرة عجيبة، جعلته يوقن من الفوز بهذه اللعبة الجديدة، فاعتدل هاتفًا:
ـ ربُّاه! .. ما أجمل عينيكِ! .. قلبي يذوب في سوادهما، ويسبح وسط رموشهما البديعة.
قالها دون أن يدري إن كانت عيناها سوداوين حقًا، أن أن هذا ظل جفنيها فوقهما، ورآها تلتقط المنظار من يده في رفق، وهي تقول في خفوت:
ـ أرجوك يا أستاذ (عماد) عد إلى مكتبك.

همس في نعومة:
ـ لا داعي لكلمة أستاذ هذه .. أرجوكِ.
رأى على شفتيها ابتسامة خفيفة، وهي تقول:
ـ فليكن .. عد إلى مكتبك يا (عماد).
كاد قلبه يرقص طربًا، عند هذه النقطة، فقد أعلنت بقوة انتصاره، مما جعله يهتف في سعادة:
ـ يا إلهي! .. لقد قلتها أخيرًا .. قلتها يا فاتنتي.
أعادت منظارها إلى عينيتها، وهي تقول:
ـ نعم يا (عماد) .. لقد قلتها .. عد إلى مكتبك قبل ان يتساءل الموظفون عن سر وجودك هنا لوقت طويل.
تهللت أساريره، وقال:
ـ بالطبع .. سأعود إلى مكتبي، وسنلتقي فيما بعد .. بالطبع.
غادر مكتبها وكل خلية من خلاياه ترقص طربًا ..
لقد حقق ما كان يسعى إليه ..
وضع المديرة في جيبه ..

أو بمعنى أدق .. قلب المديرة ..
عاد إلى مكتبه وثغره يحمل ابتسامة واسعة، أثارت دهشة زملائه، الذين لم يشاهدوا من قبل أحدهم يغادر مكتب المديرة، وهو يحمل مثل هذه الابتسامة، حتى أن إحدى زميلاته هتفت في فضول:
ـ لقد اكتفت بخصم اليومين من راتبك .. أليس كذلك؟
هز رأيه نفيًا في ثقة، وقال:
ـ مطلقًا.
سأله زميل آخر في دهشة:
ـ ماذا فعلت إذن؟
اتسعت ابتسامته الواثقة أكثر وأكثر ، وهو يقول:
ـ سيدهشك ما ستفعله.
كان واثقًا من أن قرارها سيدهشهم حتمًا، فقد غادر مكتبها وهو يضع قلبها في جيبه، ومن المستحيل أن تؤذي المرأة رجلًا وقعت في حبه ..
خبرته تؤكد له هذا ..

إنه سيتميز بحبها حتمًا بين أقرانه ..
ربما جعلته يرأس المكتب ..
أو منحته ترقية استثنائية ..
أو مكافأة خاصة ..
المهم أن قرارها لن يكون طبيعيًا ..
هذا ما يثق به تمامًا ..
ولم تمض لحظات، حتى اندفع سكرتير مكتب المديرة داخل الحجرة، وهو يهتف به:
ـ ما الذي فعلته بالمديرة يا (عماد)؟
ابتسم (عماد) في ثقة، وهو يقول:
ـ وما الذي يدعوك إلى لسؤال؟
لوح سكرتير مكتبها بورقة في يده، وهو يقول في انفعال:
ـ هذا القرار .. إنها لم تتخذ مثيلًا له، منذ عملت معها.
قفزت زميلته إلى السكرتير، وهتفت في فضول:
ـ دعني أقرأ هذا القرار.
جرت عيناها على السطور في سرعة، قبل أن تهتف في دهشة بالغة:
ـ مستحيل!

ثم رفعت عينيها إلى (عماد) مستطردة:
ـ ماذا فعلت بها حقًا يا (عماد)؟
اتسعت ابتسامة (عماد) الواثقة، وزميله يسأل السكرتير:
ـ ما هذا القرار بالضبط؟
تطلع السكرتير إلى (عماد)، وقال:
لقد أمرت بإحالته إلى التحقيق.
تلاشت ابتسامة (عماد)، وحلت محلها نظرة دهشة، لم تلبث أن استحالت إلى ذهول جارف، والسكرتير يستطرد:
ـ وطلبت إحالته أيضًا إلى طبيب نفسي، لفحص حالته العقلية.
ثم تطلع مرة أخرى إلى (عماد) يسأله:
ـ ماذا فعلت بها حقًا يا (عماد)؟
وانفجر (عماد) باكيًا..

————————————————————
(د. نبيل فاروق ـ كوكتيل 2000 ـ نداء الأعماق رقم 14)

رائج :   الخطأ الفادح .. رسالة من بريد الجمعة

مقالات ذات صلة