قصص وعبر

من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || ذلك الكوكب

“لم يبقَ من الطاقم سواي”.
هكذا بدأ رائد الفضاء تسجيل يوميات تلك الرحلة الفضائية، التي كاد من طول زمنها ينسى كيف ومتى بدأت..
وفي صعوبة، ازدرد لعابه، وحكّ رأسه براحته في توتر عصبي، قبل أن يتابع:
ـ الرحلة بدأت وفقا للبرنامج الذي درسناه بالضبط.. انطلقنا وسط احتفال كبير، والكل يعلم أنه قد لا يرانا مرة أخرى، ليس لثقتهم بأننا لن نعود، ولكن لأن السفر عبر الفضاء، بهذه السرعات الفائقة، ينكمش معه الزمن، حتى إننا إذا ما عدنا إلى كوكبنا فستكون قرونا من الزمن قد مرّت عليه، ولن نجد أحدًا ممن نعرفهم، وربما لا نجد حتى أحفادهم.. وربما لهذا اختاروا الطاقم كله من غير المتزوجين، وممن ليست لديهم عائلات تفتقدهم..

ازدرد لعابه مرة أخرى، وتطلّع إلى تلك الساعة الكبيرة، التي تملأ فراغ مقطورة القيادة، ثم تابع في مرارة:
ـ وكلنا في الطاقم كنا نعلم هذه الحقيقة، وارتضينا القيام بالمهمة، ولكل منا أسبابه ودوافعه.. بالنسبة لي، كانت فكرة أن أعود بعد قرون عديدة، أمرًا مثيرًا إلى أقصى حد، فسأعود لأجد الكوكب وقد بلغ ذروة التقدّم، وستكون عودتي حدثًا تاريخيًا، يجعل مني أعظم أبطال الكوكب كله.. وربما كان هذا حلمنا جميعًا، قبل أن ندرك هول ما سنواجهه..

التقط نفسا عميقا؛ محاولا تهدئة أعصابه الثائرة، وأوقف تسجيل اليوميات مؤقتا؛ ليتراجع في مقعده، ويغلق عينيه الواسعتين، مسترجعا تلك الذكريات البغيضة..
كانت أوّل مرة، ينطلق فيها رواد فضاء بهذه السرعة الفائقة، ولهذه المسافات الفضائية الشاسعة..
ولقد قضى علماء الكوكب ما يقرب من عامين لدراسة تداعيات هذا..
افترضوا الأفضل..
والأسوأ.

ولكن كل هذا كان مجرد فرضيات علمية، لا يمكن إثباتها أو نفيها، إلا من خلال الرحلة نفسها..
وكما يقضي القانون، تم إطلاع الطاقم الرئيسي والطاقم الاحتياطي بكل الاحتمالات..
وفي صدق حازم، طلب قائد فريق العلماء من الكل أن ينسحبوا إذا ما أرادوا دون أية مؤاخذة..
ولم ينسحب سوى شخص واحد..
وهكذا بدأ العد التنازلي..
وانطلقت الرحلة..

في البداية، لم تكن هناك أية مشكلات..
كل شيء كان يسير على ما يرام..
الطاقم كان يتمتع بروح معنوية عالية، ويؤدّي كل منهم دوره كما ينبغي..
ولكن مع العام الفضائي التالي بدأت المشكلة..

الكل صار عصبيا متوترا، والجميع يتشاجرون على أهون سبب..
حتى الشجارات نفسها، راحت حدتها تتصاعد..
وتتصاعد..
وتتصاعد..

ثم بدأت أولى حالات التمّرد..
أضخم أفراد الطاقم حجمًا، رفض فجأة تنفيذ الأوامر، أو أداء دوره المنوط به، وتشاجر مع كل من يطالبه بذلك..

في البداية كان شجارًا يمكن حسمه..
وبعدها ازداد الشجار عنفًا..
وفي مرحلة متقدّمة، تحوّل الشجار إلى اشتباك بالأيدي، تحوّل فيه أضخم أفراد الطاقم إلى وحش كاسر..
انتفخت أوداجه..
واحمّرت عيناه..
واحتقن وجهه..
وصار صوته أشبه بزمجرة وحشية..

وفي النهاية، حاول إفساد نظام الضغط والتهوية في المركبة، وتعطيل محركاتها..
ولما فشلت كل محاولات السيطرة عليه، لم يكن أمام قائد الطاقم إلا الانتقال إلى مرحلة الطوارئ القصوى..
وبلا تردّد.. قتله..
أغمض عينيه أكثر، وهو يتذكّر تلك اللحظة المؤلمة..

اللحظة التي أطلق فيها سلاحه على رأس زميله..
لم يكن قد فعلها، أو حتى تخيّل أن يفعلها من قبل..
وذلك الذي قتله، كان أحد أصدقائه..
بل أقرب أصدقائه إليه..

ولكنها مسئولية القائد..
ذلك الضخم كان يهدّد حياة الطاقم كله..
ولم يكن هناك من سبيل سوى.. قتله..
ولذلك فعل..

بعدها، سادت حالة من الوجوم والكآبة داخل مركبة الفضاء، لم تنتهِ إلا عندما انتقلت الحالة إلى فرد آخر من الطاقم..
كان الكل قد خضع لفحص شامل، وبدأ في تناول بعض العقاقير المهدئة، وعلى الرغم من أن الفحص لم يسفر عن شيء، فقد أصيب فرد آخر من الطاقم بالحالة نفسها..
وتعرّض للنهاية نفسها..
القتل..
وبيده هو..

الكل بعد الحادث الثاني صار عصبيا، متشككا، يتصوّر أن الآخرين يتربصون به.. ومرّ عام، ثم آخر، ثم عادت تلك الحالة للظهور..
وانتهت بالنتيجة نفسها..
وبيده أيضا..

تنهّد في عمق، عندما بلغ هذه المنطقة، من ذكرياته، قبل أن يعاود تسجيل اليوميات:
ـ وسائل الفحص والتشخيص الآلية، لم تجد في برامجها دليلا واحدا، يسمح لها بتشخيص الحالة، لذا فقد أوردتها تحت بند “تطوّرات غير متوقعة”، وبدا لنا أن الأمر يتعلق بمشكلة فيزيائية، تنشأ عن السفر بسرعات خارقة للمألوف.. والآن، وبعد ستة أعوام تقريبا، من سفر بدأ بلا نهاية، وسط فضاء أشبه بسواد مطبق، تلتمع فيه نجوم بعيدة، لم يعد باقيا من الطاقم سواي..

ألقى نظرة على الشاشات الهولوجرامية أمامه، ثم تابع في مرارة:
– وكلهم قتلتهم بيدي، وألقيت أجسادهم، أو قل جثثهم في الفضاء.
صمت لحظات؛ ليزدرد ألمه ومرارته، ثم قال:
– ولكن أخيرا تقترب المهمة من نهاية مرحلتها الأولى.. أخيرا رصدت المركبة كوكبا تحيا عليه مخلوقات عاقلة.. منذ قرون، وفكرة وجود كائنات عاقلة خارج كوكبنا، تبدو أشبه بضرب من الخيال.. العلماء يؤكدون حتمية هذا؛ نظرا لاتساع الكون، ووجود ملايين، بل مليارات المجرات فيه، والعامة يستنكرون ويرفضون، ويطالبون بدليل حي على هذا.. ولذلك كانت هذه الرحلة..

ما زلت أذكر كلمات أستاذي: “لو أن الاحتمال هو واحد في كل عشرة مليارات، فستبقى لدينا عشرات الاحتمالات؛ لأن الكون يذخر بمليارات المجرات، وكل منها تحوي الآلاف من الأنظمة النجمية، التي تدور في فلكها كواكب، قد يحوي أحدها حياة عاقلة”.

واليوم.. اليوم فقط، وبعد ست سنوات فضائية، رصدت أجهزة المركبة وجود حياة عاقلة، والمركبة تتجه نحوها الآن..
راجع التقارير، التي تراصت على الشاشات الهولوجرامية، في اهتمام قلق، ازدرد بعده لعابه مرة أخرى، وعاد يسجّل:
ـ العجيب أن هذا الكوكب، الذي رصدت أجهزة المركبة وجود الحياة العاقلة عليه، شديد الضخامة إلى حد لا يصدّق، حتى إنه يفوق حجم كوكبنا بآلاف المرات.. كوكب هائل، لو جمعنا كل سكان الكوكب، لأمكنهم العيش عن سعة، في واحد على مليار من مساحته.
بدا قلقه مضاعفا، وهو يتابع:
ـ ولكنني أرصد مركبات متحركّة سريعة، قد لا تشبه ما يوجد لدينا، ولكن من الواضح أنها تستخدم لأغراض النقل نفسها.. وهناك مركبات أخرى طائرة، عددها يقل عن الأولى، ولكنها تقطع الكوكب طوال الوقت.. من الواضح أنهم يشبهوننا إلى حد كبير.. وفيما عدا حجم كوكبهم الهائل، لقلت: إنهم نسخة مشابهة لنا.. السؤال الذي يقلقني هو: أهم عمالقة ككوكبهم؟!

لم يتلقّ جوابا لسؤاله بالطبع، فصمت لحظات، ثم أكمل:
ـ ووفقا لتقديراتي، فالمهمة قد تمت هنا، والمفترض أن تبدأ المركبة رحلة العودة، بعد تسجيل موقع هذا الكوكب العملاق، على الخريطة الكونية الشاملة..
بدأ في إدخال البيانات، في برنامج المركبة، حتى تبدأ رحلة عودتها، و…

ولكن المركبة لم تستجب..
لقد واصلت اقترابها من ذلك الكوكب العملاق أكثر..
وأكثر..
وأكثر..

هذا أمر لم يحسب حسابه جيدا..
الكوكب العملاق له جاذبية عملاقة أيضا..
جاذبية لا تملك المركبة فكاكا منها..
خاصة أن برنامج العودة يعاني من خلل ما..

إنه يعيد حساباته المرة تلو الأخرى، ثم يشير إلى نقطة الصفر..
وجاذبية الكوكب تجذبه..
وسرعة سقوط المركبة تتزايد..
وتتزايد..
وتتزايد..

وها هي ذي ملامح ذلك الكوكب تتضح..
وما زال برنامج العودة يشير إلى الصفر..
وفي يأس النهاية، هتف مسجلا آخر يوميات الرحلة:
ـ من الواضح أنها رحلة بلا عودة.. ستسقط المركبة على هذا الكوكب الهائل العملاق.. لن أعود إلى الوطن قط.. هنا ستنتهي الرحلة.. لن يعلم أحد بما فعلنا.. الرحلة كانت بلا طائل..

بدأت نيران الاحتكاك بالغلاف الجوي للكوكب العملاق تحيط بالمركبة، وأطلق برنامج العودة أزيزا عنيفا، مصرا على عبارة “النقطة صفر”، وراحت سرعة الهبوط تتزايد..
وملامح الكوكب تتضح..
وتتضح..
وتتضح..

واتسعت عينا رائد الفضاء عن آخرهما..
الآن فقط أدرك لماذا يصر برنامج العودة على الصفر!!
الآن فقط أدرك لماذا اتضحت له ملامح هذا الكوكب..
ولكن كلمة الآن هذه استغرقت ثواني معدودة..
وبعدها ارتطمت المركبة برمال ذلك الكوكب العملاق..
وبمنتهى العنف..

“أمر عجيب للغاية!!”.
نطقها أحد علماء الكوكب، وهو يشير إلى مركبة الفضاء، في حيرة كبيرة، قبل أن يضيف:
ـ هذه المركبة انطلقت بالفعل منذ قرنين من الزمان، وكنا ننتظر عودتها بعد قرن آخر.
قال كبير العلماء، في تفكير عميق:
ـ هل تعتقد أنها دارت دورة كونية كاملة، وعادت من حيث بدأت؟!
هزّ العالم كتفيه، وقال:
– وكيف يمكننا الجزم؟!

تطلّع كبير العلماء إلى مركبة الفضاء، قائلا:
– سيمضي وقت طويل، قبل أن نستطيع ابتكار ما يمكنه قراءة ما سجّلته أجهزتها.
غمغم العالم:
– ولكن هذا الحجم!

لم يكمل عبارته، فقال كبير العلماء:
– (آينشتاين) استنتج هذا رياضيا منذ عدة قرون.. الانطلاق بسرعات فائقة لمسافات طويلة.. الكتلة تنكمش، والكثافة تتزايد.
هزّ العالم رأسه، وغمغم:
– ولكن إلى هذا الحد؟!

 

رائج :   قصة محمد صلاح آخر … اتعلموها بقى!

رائج :   من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || العمالقة

ثم التقط مركبة الفضاء، التي لا يزيد حجمها على حجم لعبة أطفال، مواصلا في حيرة:
– لقد انكمشت، حتى صارت في حجم كرة سلة.. ترى كيف تعاملت أمخاخ طاقمها، مع هذا الانكماش الرهيب في الحجم؟!

زفر كبير العلماء، وقال:
– سنعلم كل شيء، عندما نتمكّن من صنع أجهزة، يمكنها قراءة هذه البيانات المنكمشة.. حقا إن نتائج السفر بسرعات تفوق سرعة الضوء أمر مدهش وعجيب للغاية!
وكم كان على حق.
*** 
بقلم : د. نبيل فاروق

مقالات ذات صلة