قصص وعبر

من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || صرخة

انطلقت تلك الصرخة العجيبة، تخترق أذني مجاهد، وتدفعه للقفز من فراشه مذعورا، بعد أن أيقظته من أعمق نوم حظي به منذ أكثر من شهرين.. وبكل انزعاجه تلفّت حوله..

كانت امرأته راقدة في الفراش، غارقة في نوم عميق، أدهشه أن تلك الصرخة المدوية لم تنجح في انتزاعها منه، على الرغم من حدّتها، فحدق فيها لحظات مستنكرا، قبل أن يغمغم، في سخط عصبي:
– يا للنساء!!

ولكن سرعان ما انتبه إلى ما هو أكثر إثارة للدهشة!!
فالمنطقة العشوائية التي يقيم فيها، والتي تنتفض لأقل مؤثر خارجي، كانت تبدو هادئة للغاية..
وربما أكثر مما ينبغي..
وفي توتر فتح النافذة شبه المكسورة، التي تُطل على الطريق مباشرة، ودفع رأسه خارجها، يبحث عن مصدر الصرخة..

ولكن كل شيء في الخارج كان هادئا..
وربما أيضا أكثر مما ينبغي..
والحارة الصغيرة كانت شبه خالية، إلا من شابين رثي الثياب، انهمكا في تقسيم ما بدا أنه حصيلة سرقات الليل..
وكان من الواضح أن المخدرات قد تركت أثرها في حركتهما البطيئة، وجفونهما المثقلة..

عاد يغلق النافذة، والتقط تلك الساعة الذهبية، التي انتزعها من يد واحدة من ضحاياه، وألقى نظرة عليها، وعلى عقاربها التي تشير إلى دقائق قليلة تجاوزت الثالثة صباحا، ثم ألقى الساعة على مائدة شبه متهالكة، وهو يغمغم:
– لا بد أنه كابوس.

عاد يرقد إلى جوار امرأته، وهو يستعيد أحداث يومه، بحثا عن سر هذا الكابوس..
لقد غادر المنطقة في السابعة مساء كعادته، وهو يحمل عدة الشغل، كما يُطلق عليها..
مسدس يدوي الصنع، وخرطوشتين مناسبتين له، ومطواة ذات نصل طويل حاد..

وفي العاشرة شاهد تلك السيارة الفاخرة تقترب..
سيارة ذات اسم شهير، يكفي ثمنها إطعام منطقته العشوائية كلها، لأكثر من أسبوع كامل..
وفي أعماقه، تداخلت المشاعر..

جزء من الغضب، من أولئك الأثرياء، الذين ينفقون كل هذا المال لشراء سيارة!!
أيا كانت فخامتها، فهي بالنسبة له مجرد سيارة..

وجزء آخر من النشوة؛ لأنه سيشفي غليله، ويحرق قلوبهم على ما أنفقوه..
كان يعلم أن الأسلوب الذي يتبعه تقليدي، إلا أنه كان يدرك فاعليته..
وبسرعة، استقر على متن دراجته البخارية، ووضع أمامه طبقا من الألياف الصناعية الخفيفة، عليها ثلاث بيضات..

وعندما اقتربت السيارة، التقط نفسا عميقا، وراح يرمي البيضات الثلاث، على زجاجها الأمامي..
وفي ظفر، شاهد البيضات الثلاث تتحطم على الزجاج، وتلوثه إلى حد يعوق الرؤية..
كان يعلم أن سائق السيارة لن يتوقف، ولكنه سينطلق بسرعة أكبر..

ولكن الرؤية لن تسمح له بالاستمرار..
وسيكون من حسن حظه هو أن يحاول السائق تشغيل مسّاحات الزجاج؛ للتخلص من لزوجة البيض..
عندئذ ستنعدم الرؤية تماما..
وسيضطر إلى التوقف..

ولهذا، فما إن زادت السيارة من سرعتها، حتى انطلق هو خلفها بدراجته البخارية..
وما هي إلا خمسة كيلو مترات، حتى حدث ما توقعه بالضبط..

اضطر سائق السيارة إلى التوقف، على جانب الطريق، الذي خلا أو كاد من السيارات، في طقس الشتاء البارد..
وما أن شاهد السائق يغادر السيارة؛ ليمحو آثار البيض، حتى أدرك أنه قد ربح المعركة..
وبسرعة، كان يقف بدراجته البخارية إلى جواره، ويشهر مسدسه في وجهه، صائحا في خشونة قاسية أتقنها:
– اترك السيارة وابتعد..

كان ينتظر امتثالا مذعورا اعتاده، إلا أنه فوجئ بالسائق ينقضّ عليه، محاولا انتزاع مسدسه منه..
وعندئذ انتقل الذعر إليه..
وسمع ذلك الدوي الشديد، ممتزجا بصرخة رعب هائلة..
لوهلة، تداخلت الأمور في رأسه، فلم يدرك ما حدث..

ثم استوعب الأمر كله، في اللحظة التالية..
استوعبه، عندما شاهد السائق يتراجع، وقد اتسعت عيناه عن آخرهما، من فرط الذهول والألم، وبقعة دم كبيرة تغطي صدره..

وفي نفس اللحظة، انتبه إلى تلك المرأة شديدة الذعر، واضحة الثراء، والتي تجلس منكمشة في المقعد الخلفي..

وفي نفس اللحظة، التي سقط فيها السائق جثة هامدة، التقت عيناه المرأة، اللتين حفر فيهما الرعب أقسى ملامحه..
ولم تثب إلى ذهنه عندئذ، سوى فكرة واحدة..
لقد رأته..

وبكل رعبها وذعرها، اندفعت تلك المرأة، تحاول الفرار من السيارة، إلا أنه وثب نحوها، وأسقطها بمعطفها الثمين أرضا، وجثم فوقها، فراحت تصرخ في رعب:
– لا تقتلني.. خذ كل مالي ولا تقتلني..

أراد أن يخبرها بأنه سيأخذ كل مالها، في كل الأحوال..
ولكنه لم يقل شيئا..
فقط سيطرت عليه فكرة أنها رأته يقتل..
ولا بد وأن ترحل..

صرخت المرأة، وصرخت، وصرخت..
ولكن صرخاتها لم تجد صدى، حتى في خلية واحدة من قلبه..
وبلا رحمة، مرر مطواه الحادة على عنقها، ورأى الدماء تتدفق منه في غزارة، وسمع من المرأة حشرجة مخيفة، قبل أن تتسع عيناها عن آخرهما..
لحظتها، ظهرت تلك الأضواء من بعيد..
وأصابه الذعر..
جثة السائق كانت ملقاة في وضوح، وجثة المرأة غارقة في دمائها، وفرصة سرقة السيارة ضاعت هباء، مع اقتراب السيارات السريع..

وفي تلك الليلة، لم يعد بطعام أو شراب إلى الكشك الذي يقيم فيه..
فقط بتلك الساعة الذهبية، التي قرر أن يبيعها للمعلم قدري، في الصباح التالي..
ولكنه علم الآن مصدر كابوسه..
وعلم لماذا بدت له تلك الصرخة الممتزجة بالحشرجة مألوفة..
إنها آخر صرخة أطلقتها المرأة، قبل أن يرديها..
لا بد أن عقله قد اختزنها، وأعاد إطلاقها في كابوسه..

نعم .. هذا ما حدث..
ولكن لماذا حدث؟!
تلك المرأة لم تكن أول ضحاياه..
وهي حتما ليست آخرهم..
فلماذا اختزن عقله صرختها بالذات؟!
لماذا؟!

لم يشغله السؤال أكثر من ثوانٍ معدودة، قبل أن يطرحه عن ذهنه، ويقرر العودة إلى النوم..
ولكن ما أن أعاد رأسه إلى الوسادة البالية، حتى انطلقت تلك الصرخة مجددا..
نفس الصرخة الممتزجة بالحشرجة..
وبنفس الصوت!!

وفي هذه المرة وثب من فراشه مذعورا..
إنه ليس كابوسا حتما!!
إنه لم ينم بعد، حتى يهاجمه ذلك الكابوس ثانية!!

إنها صرخة قوية..
عالية..
واضحة..
مدوية..
ولقد سمعها في صحوه..
وبكل وضوح..

ولكن امرأته لم تسمعها حتما؛ لأنها ظلت مستغرقة في نومها بنفس العمق، وهي التي يمكن أن تستيقظ مذعورة إذا ما أغلق الباب بشيء من القوة، عندما يعود..
والطريق في الخارج ما زال هادئا!!

فتح النافذة مرة أخرى، ورأى الشابين يستعدان للانصراف، بعد أن انتهيا من تقسيم المسروقات، فهتف بهما:
– هل سمعتما هذا؟!
التفتا إليه في دهشة متسائلة، فأضاف في عصبية:
– تلك الصرخة.

بدت عليهما حيرة مخدرة، وغمغم أحدهما:
– أية صرخة؟!
لم يجب تساؤله، وإنما أغلق النافذة في وجهيهما في عصبية، والتفت يحدق في امرأته النائمة، وقد سرت ارتجافة عجيبة في جسده..

ما الذي يعنيه هذا؟!
هل انطلقت تلك الصرخة بالفعل، أم إنه مجرد وهم؟!
وكيف لم يسمعها سواه، على الرغم من قوتها ووضوحها؟!
كيف؟!

جلس على مقعد يكاد ينهار من تحته، وبحث بين الخرق البالية عن سيجارة محشوّة بالمخدرات، تركها هناك من باب الاحتياط، وأشعلها بأصابع مرتجفة، وراح يدخّنها في شراهة عجيبة، وكأنما ينفث توتره مع دخانها..
أو يأمل هذا على الأقل!!
وبكل عصبيته راح يغمغم:
– إنه وهم.. مجرد وهم..

واصل تدخين سيجارته، أملا في أن تساعده على النوم، حتى لم يعد بها ما يمكنه تدخينه، فألقاها أرضا، وسحقها بقدمه في قوة، وهو يغمغم بكل عصبية:
– بالتأكيد وهم.

نهض مرة أخرى إلى فراشه، وهو يتساءل: ما الذي سيحدث، إذا ما وضع رأسه على وسادته مرة أخرى؟!
ماذا؟!
تردد لحظات، ثم حسم أمره، ورقد إلى جوار امرأته، وخفض رأسه إلى الوسادة في بطء، واستقر رأسه فوقها، دون أن يسمع تلك الصرخة، فتنهّد في ارتياح، وحاول أن يبتسم، وهو يسبل جفنيه، و…

وانطلقت الصرخة مرة أخرى..
وفي هذه المرة، لم تكن صرخة ممتزجة بالحشرجة فحسب..
بل كانت تمتزج أيضا بصرخة أخرى..
صرخته هو..

وفي هذه المرة، استيقظت امرأته مذعورة، تهتف به في رعب:
– ماذا حدث؟!
صاح بها، وهو يرتجف، وربما لأول مرة في حياته:
– هل سمعت تلك الصرخة؟!
أجابته مذعورة:
– بالطبع.. هل أصابك كابوس ما؟!

صاح بها في حدة:
– لست أقصد صرختي، بل تلك الصرخة الأخرى.
بدت مرتبكة مذعورة، وهي تسأله:
– أية صرخة أخرى؟!

فوجئت به يحدّق في وجهها في رعب شديد، ثم يثب من فراشهما، وهو يلوّح بذراعيه، صارخا:
– لا.. ابتعدي عني.. ابتعدي عني..
وتضاعف ذعرها ألف مرة..

هذا لأنها لم تدرك أنه، وعندما نظر إلى وجهها، لم يرها هي..
لقد رأى تلك المرأة التي قتلها..
رآها تنظر إليه، وتبتسم في تشفّ، ثم تفتح شفتيها..
وتصرخ..
نفس الصرخة المدوية، الممتزجة بحشرجة الموت..

وفي الصباح المبكر، وصلت الشرطة؛ لتلقي القبض على مجاهد بعد أن استخرجت بصماته، من مديته التي تركها خلفه، فوق جثة تلك المرأة..

ولكن رجال الشرطة، الذين ألقوا القبض عليه، أدركوا على الفور أنه لن يدان بفعلته..
هذا لأن مجاهد صاحب صحيفة السوابق الكبيرة، لم يكن ذلك الرجل الذي يمكن معاقبته على ما ارتكبه، أيا كان..

لقد صار رجلا مجنونا، جحظت عيناه من شدة الرعب، وراحت تنبعث من حلقه صرخة متصلة..
وبلا انقطاع.

رائج :   حب إيه اللي انت جاي تقول عليه؟ ج2 .. || من كتابات د : أحمد خالد توفيق

مقالات ذات صلة