قصص وعبر

من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || في العمق

لم يدرِ كيف حدث هذا!
ولا كيف فعله!
ولا حتى لماذا!
فالأمر لم يكن حقا يستحق..
كل ما فعله زميله، هو أنه ضحك..

كان يروي له ثمة مشكلة واجهته مع زوجته، عندما فوجئ به يطلق ضحكة عالية، اشتم فيها رائحة السخرية..
ودون أن يشعر، من فرط غضبه وحساسيته، التقط أول شيء وجدته يده، وهوى على رأسه..
وحتى عندما رأى الدماء تتفجر من رأس زميله، وعيناه تجحظان، وهو يحدق فيه، بنظرة تحمل مزيجا من الدهشة والألم..

وربما العتاب والاتهام أيضا..
وعلى الرغم من أن تلك النظرة استغرقت ثواني محدودة، قبل أن يسقط زميله أرضا، فقد انحفرت في ذاكرته، حتى أنه يشعر أنه لن ينساها أبدا، حتى آخر يوم في حياته..
ولقد تجمدت حياته كلها، كما تجمد جسده لدقائق طويلة، وهو يحدق في جثة زميله، غير مصدق لما حدث..
هل قتله بالفعل؟!
هل صار قاتلا؟!

تداعت الأفكار في ذهنه المذعور، ورأى الشرطة تضع القيود في معصميه..
ورأى نفسه يقف أمام قاضٍ..
ثم أنشوطة حبل تحيط بعنقه، فى حجرة صغيرة مظلمة..
و..
ـ لا..

صرخ بالكلمة، وهو ينتزع نفسه من أفكاره السوداء، وراح يغمغم في عصبية:
ـ أنا لم أقصد هذا.. لست قاتلا.. لست قاتلا بالتأكيد.
ولكن لماذا أخدع نفسي؟!
أنا بالفعل قاتل..
وها هي ذا جثة ضحيتي أمامي..
فماذا أفعل؟!
ماذا؟!
أول شعور سيطر عليّ في تلك اللحظة، هو الغريزة الرئيسية لكل كائن حي..
غريزة البقاء..

لقد قتله وانتهى الأمر..
فكيف ينجو من العقاب؟!
كيف؟!
كيف؟!
حاول بعقله المضطرب دراسة الأمر في سرعة..
إنه يقيم في مدينة جديدة هادئة..
وفي طابق أرضي، ملحق به حديقة صغيرة..
ولكن شرفات المبنى كله تطل على تلك الحديقة الصغيرة..
ليس من السهل إذن دفن الجثة في الحديقة..
إلا إذا…
تذكر جيدا هدوء المكان، في فترة ما بعد منتصف الليل، وقفزت الفكرة اليائسة إلى ذهنه..
سيبدأ الحفر في الحديقة في الواحدة صباحا..
وسيدفن الجثة..

ثم يردم الحفرة، ويضع فوقها شرائح من النجيل الأرضي..
في موقفه هذا، بدت له هذه الفكرة منطقية وذكية، فارتدى ملابسه على عجل، واستقل سيارته إلى المدينة، وابتاع جاروف حفر كبير، وعدة شرائح من النجيل الطبيعي، ثم عاد إلى منزله، ينتظر قدوم الليل..
لم يستطع، ولم يجرؤ على دخول الحجرة، التي قتل فيها زميله، بل تفادى حتى الاقتراب منها، حتى تحين اللحظة..

مرت عليه الساعات كالدهور..
وتثاقلت الدقائق..
وأنّت الثواني..
وأعصابه تتوتر..
وتتوتر..
وتتوتر..
وأخيرا، دقت عقارب الساعة الواحدة صباحا..
وبكل توتره، حمل الجاروف إلى الحديقة، ونقل شرائح النجيل الطبيعي، ووضعها حيث يمكنه نقلها في سرعة..
وفي توتر، ألقى نظرة على شرفات البناية، وتأكد من أنها كلها خالية..
ثم بدأ الحفر..
لم يكن الأمر بسيطا..
كان – بالنسبة إليه – شاقا جدا..

ولقد وضع في ذهنه ضرورة أن يكون الحفر عميقا..
عميقا جدا..
وهذا حتى تختفي رائحة الجثة، تحت مئات الأمتار المكعبة من الأتربة..
هكذا هداه عقله..
هكذا فعل..
كان يحفر لبعض الوقت، ثم يتوقف لالتقاط أنفاسه..
وللتيقن من أن الشرفات ما زالت خالية..
ثم يواصل..

ويواصل..
ويواصل..
وهكذا..
ولقلقه الشديد كان الوقت يمضي بسرعة خرافية..
ويا لغرابة الوقت!
كان يمضي بمنتهى البطء، عندما كان ينتظر لحظة البدء..
وها هو ذا يمضي كالصاروخ، وهو يحفر..
ويحفر..
ويحفر..
وأخيرا، وقرب الرابعة والنصف صباحا، صارت لديه حفرة مناسبة.. والشمس ستشرق بعد ساعة واحدة تقريبا..
أصابه الهلع، عندما انتبه إلى هذا..

ثم بدأ ذهنه المكدود يجد حلا..
الحفر سيستغرق حتما وقتا أطول من الردم..
كل ما عليه إذن هو أن يسرع..
التقط أنفاسه، واندفع نحو المنزل..
وأمام الحجرة، التي شهدت الجريمة، توقف طويلا..
لم يكن يدري كيف سيلقي نظره على جثة زميله، الذي كان حيا يرزق، يطلق ضحكاته العالية، منذ أقل من يوم واحد..
توقف أمام الحجرة يقاوم..
ويقاوم..

ويقاوم..
ولكن الوقت يمضي في سرعة..
والشمس ستشرق بعد قليل..
لا بد له إذن من أن يسرع..
حسم أمره، وسيطر على مشاعره، ودفع باب الحجرة، و..
وتوقف ذاهلا..
فالحجرة بدت خالية تماما..
بقعة الدم كانت في موضعها..
ولكن الجثة لم تكن كذلك..
لقد اختفت..
تماما..
وقف جامدا، يحدّق في الأرضية..
وفي بقعة الدم..
وامتقع وجهه..
وشحب..

وارتجف جسده..
وانتفض..
وخفق قلبه..
ارتعد بين ضلوعه..
وكاد السؤال يقتله..
أين ذهبت الجثة؟!
كيف اختفت؟!
كيف؟!

دار ببصره في الحجرة، ولم يجد لها أثرا..
وارتجف جسده في عنف، وهو يتراجع عن الحجرة، ويلقي نظرة خارجها..
ولكن الجثة لم تكن هناك..
ولا في أي مكان آخر..
فأين ذهبت؟!
أين؟!
ارتجف جسده بكل الرعب، فلو أشرقت الشمس، فستفسد كل خطته..
واختفاء الجثة أمر غير طبيعي..
وعلى الإطلاق..

دفعه رعبه إلى العدْو في أرجاء الشقة، بحثا عن جثة، لا يوجد ما يبرر اختفاءها، و..
وفجأة، انطلقت من حلقه صرخة رعب..
وانتفض جسده في عنف بلغ أقصاه..
وتجمّدت كل أطرافه..
فعند مدخل حمام المنزل، وجد صديقه يقف محدقا فيه، دون أن ينبس ببنت شفة..
اتسعت عيناه عن آخرهما، وسقط فكه السفلي، و..
وانقضّ عليه زميله فجأة..
وشعر بتلك الضربة العنيفة على رأسه..
وسقط..
وأظلمت الدنيا من حوله..
تماما..
لم يدر كم ظلت الدنيا مظلمة، ولكنه عندما استعاد وعيه كان يشعر بألم شديد في رأسه..
بتثاقل في أنفاسه..
حاول أن يرفع يده إلى رأسه، ولكنه عجز عن هذا تماما..
ثم انتبه فجأة إلى الأمر.
أدرك دون مقدمات، لماذا يعجز عن رفع يده، ولماذا تثاقلت أنفاسه..
لقد كان مكمم الفم، ومقيد اليدين والقدمين في إحكام..
فتح عينيه في حركة سريعة، لينتفض جسده مرة أخرى..
كان وجه زميله يطل عليه، من ارتفاع كبير، وهو يمسك ذلك الجاروف الكبير، ويستند به على الأرض..
وكان هو يرقد في قاع ذلك القبر الذي حفره..

حاول أن يصرخ، أو يقول شيئا، ولكن كمامة فمه منعته، في حين قال زميله في قسوة:
ـ كنت أتمنى أن تستعيد وعيك، قبل أن أبدأ.
لم يفهم ما يعنيه هذا، ولكن زميله واصل بنفس القسوة :
ـ أردت أن تقتلني، ولكن ضربتك لم تكن بالقوة الكافية لهذا.. لقد استعدت وعيي بعد بضع ساعات.. وسيدهشك أنني رحت أراقبك، وأنت تعدّ العدة لدفني.. وأود حقا أن أشكرك، لأنك قمت بكل العمل الشاق، ووفرت عليّ الكثير..

قاوم قيوده في عنف دون جدوى، في حين بدأ زميله يحمل تراب الحفر بالجاروف، وهو يتابع:
ـ انظر، كم هي صادقة تلك الحكمة التي تقول: من حفر حفرة لأخيه، وقع فيها!
قالها، وراح يلقي التراب على جسده ووجهه، في قوة وسرعة، قبل مطلع الشمس.. 
ومع كل مقاومته، لم يستطع هو الإفلات، وتثاقلت أنفاسه أكثر، وأكثر وأكثر..
ومع مطلع الشمس، كان زميله يضع آخر شريحة من النجيل الطبيعي على موقع الحفر، ثم نهض يلقي نظرة على نتائج عمله في إعجاب..
أما هو، فقد كان يرقد على عمق ستة أمتار من الأتربة..
في العمق.

بقلم : د. نبيل فاروق

رائج :   قصة الرجل السافل: تحفة أدبية تستحق القراءة لعزيز نيسين

مقالات ذات صلة