قصص وعبر

من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || قطتي الصغيرة

أوقفت (هنادي) سيارتها الصغيرة في تلك الليلة الممطرة أمام باب الفيلا التي تقيم فيها مع زوجها هشام في المدينة الجديدة التي لم يكتمل إنشاء معظم مبانيها، وغمغمت في ضيق وهي تبحث في المقعد الخلفي للسيارة عن مظلتها الواقية الصغيرة:
– أين تذهب تلك اللعينة عندما أحتاج إليها؟!

كانت الأمطار تهطل في غزارة ولم تكن هي مستعدة لإتلاف تصفيفة شعرها التي كلّفتها مبلغا كبيرا، لذا فقد واصلت بحثها عن المظلة الصغيرة لدقيقة أخرى قبل أن تقول في حدة:
– أكان من الضروري أن يسافر هشام اليوم؟ لو أنه بالداخل لطلبت منه أن يخرج إليّ مع أي شيء يحمي شعري.. سأجنّ بحق لو أفسدته الأمطار.

كانت دوما تعاني من عصبية زائدة في التعامل مع كل الأمور، وكان هذا سببا مستمرا لخلافات عنيفة مع هشام، الذي يطالبها دوما بمحاولة السيطرة على أعصابها، خاصة وأنها من ذلك الطراز الذي يفقد سيطرته على عقله ولسانه في نوبات العصبية المفرطة، فيسيء إلى من أمامه إساءات بالغة لا يدرك مداها إلا بعد انتهاء النوبات..

ثم إنها كانت من ذلك النوع الذي يتعامل مع مفهوم الكرامة على نحو خاطئ، فحتى عندما تدرك ما فعلته، يمنعها كبريائها من الاعتذار لمن أساءت إليه..
ولهذا كان عدد أصدقائها قليلا..
للغاية..

ولقد جلست تفرك كفيها في عصبية بالغة داخل سيارتها في انتظار أن تهدأ الأمطار قليلا فتعود نحو الفيلا، إلا أن الأمطار ازدادت غزارة على نحو زادها عصبية فصرخت بكل قوتها:
– لن أقضي ليلتي هنا.
بحثت مرة أخرى عن أي شيء تحمي به شعرها من المطر فلم تجد سوى حقيبة أوراق جلدية، تركها زوجها بين المقعدين الخلفي والأمامي، فالتقطها وهي تغمغم في عصبية:
– أعلم أنها حقيبتك المفضلة يا هشام، ولكنها لا تساوي حتما إفساد تصفيفة شعري.
فتحت باب السيارة ووضعت الحقيبة فوق رأسها، وانطلقت تعدو نحو الفيلا..

وفي غضب لمحت تلك القطة الصغيرة التي تقف مرتجفة أمام باب الفيلا، تموء في مسكنة وانكسار، وكأنها تناشد أي مخلوق أن يحميها من الأمطار الغريزة فصرخت فيها في حدة:
– ابتعدي عن طريقي.. هيا.
ولكن القطة الصغيرة رفعت عينيها إليها، وراحت تموء مرة أخرى مستنجدة بها..
وفي عصبية وحدّة ركلت (هنادي) القطة الصغيرة بعيدا وهي تصرخ:
– قلت ابتعدي.

ماءت القطة الصغيرة في ألم في حين دسّت هي المفتاح في ثقب الباب، ودفعته في قوة ووثبت داخل الفيلا، وهي تهتف:
– أخيرا.
أبعدت الحقيبة الجلدية عن رأسها غير مبالية بالتلف الذي أصابها من جراء الأمطار الغريزة، وأسرعت تلقي نظرة على شعرها في المرآة المجاورة للباب قبل أن تقول في ارتياح:
– حمدا لله.. لم تصل الأمطار إلى شعري.
قالتها واستدارت لتغلق الباب عندما انعقد حاجباها في شدة..
ففي وضوح بدت آثار أقدام مبتلة لقطة صغيرة تمتد من الباب وحتى داخل الفيلا، فصرخت بكل عصبيتها..
– لا.. تلك اللعينة تسللت إلى الداخل.
أغلقت الباب في غضب وراحت تصرخ:
– أين أنت؟ أين ذهبت؟ هذا ليس أحد ملاجئ القطط..
كانت آثار أقدام القطة الصغيرة تنتهي عند الأرضية الخشبية لصالة الاستقبال الرئيسية، فراحت (هنادي)
تبحث عنها في المكان وهي تصرخ:
– أين أنت؟ سأقتلك عندما أراك.
بحثت بين الأثاث..

وبحثت في المطبخ وحجرة المعيشة وحتى في حمام الضيوف الصغير..
ولكن لم يكن هناك أثر للقطة الصغيرة..
أي أثر..
وفي عصبية شديدة، توقفت عن البحث وهي تهتف:
– أعلم أنك هنا، وسأجدك حتما، حتى لو قضيت الليل كله في البحث.
لم تكد تنهي هتافها حتى سمعت مواء القطة الصغيرة..
وتفجّرت عصبيتها أكثر وأكثر..

فالمواء لم يأتِ من حولها..
لقد أتى من أعلى..
من حيث حجرات النوم، والحمامات الرئيسية..
وبكل عصبيتها اندفعت إلى الطابق العلوي وهي تصرخ:
– إذن فقد جرؤت!!
توقفت في الصالة الصغيرة تدور بعينيها بين حجرتي النوم الرئيسيتين قبل أن تقول في عصبية:
– لو تصوّرت أنك أكثر ذكاء مني فأنتِ واهمة.. قلت لك إنني سأجدك مهما طال الوقت..
وضعت خطة سريعة ثم اتجهت أولا إلى حجرة النوم الرئيسية وأغلقت بابها خلفها، ثم راحت تبحث في كل ركن منها حتى تيّقنت من أن القطة الصغيرة لا تختبئ هناك، لا بين الأثاث ولا في الحمام الملحق بالحجرة..
ثم غادرت الحجرة الرئيسية وأغلقتها في إحكام، واتجهت إلى حجرة النوم الثانية واتبعت في تفتيشها الأسلوب نفسه..

وأدهشها أن الحجرة الثانية كانت خالية أيضا فهتفت في عصبية زائدة:
– أين ذهبت تلك اللعينة إذن؟!
لم يتبقّ أمامها في الطابق العلوي سوى الحمام العام فاتجهت نحوه لتفحصه عندما انبعث مواء القطة الصغيرة مرة أخرى..
واستشاطت (هنادي) غضبا..
فالمواء كان ينبعث من الطابق السفلي هذه المرة..
على نحو مستفزّ..

ومع عصبيتها التي بلغت ذروتها صرخت (هنادي) :
– إذن فأنت تستمتعين باللعبة.. جذبتِني إلى الطابق العلوي واستغللتِ انشغالي بالبحث عنك وهبطت إلى أسفل.
أغلقت الحمام العام في عصبية، وأسرعت تهبط إلى أسفل وهي تصرخ:
– ستخسرين اللعبة أيتها الحقيرة.. أنا سأنتصر في النهاية.. إنها فيلتي أنا.
بدأت بالبحث في المطبخ ثم أغلقته في إحكام بعد أن تأكدت من عدم وجودها فيه، حتى تضيّق دائرة البحث، ثم فعلت المثل في حمام الضيوف، ثم في حجرة المعيشة..

لم يكن للقطة الصغيرة أي وجود في الأماكن التي تبحث فيها وأغلقتها، فوقفت تلهث في صالة الفيلا الرئيسية وهي تقول في عصبية:
– هل كان من الضروري أن تسافر الليلة يا هشام؟؟ دوما تتركني وحدي عندما أكون في أمسّ الحاجة إليك.
كانت تدير عينيها فيما حولها وهي تقول عبارتها الأخيرة عندما توقفت فجأة وانعقد حاجباها بمنتهى الشدة والعصبية..
فهناك عند مدخل الفيلا رأت تلك القطة الصغيرة السوداء..
كانت تستند بقائميها الأماميين على حقيبة هشام، وتلعق قطرات المطر التي غطت سطحها.. وبكل عصبيتها صرخت (هنادي) :
– قلت لك إنني سأنتصر في النهاية أيتها الحقيرة.

اندفعت بكل انفعالها وعصبيتها نحو القطة الصغيرة، وهي تطلق صرخة غاضبة أفزعت القطة، فوثبت من مكانها، وانطلقت محاولة الفرار، ولكن (هنادي) كان تحول بينها وبين الداخل فتراجعت وهي تطلق مواءً مذعورا، ثم وثبت فجأة إلى رفّ صغير أسفل مرآة المدخل وأسقطت ذلك التمثال الأنيق فوقه، وهي تثب مرة أخرى متجاوزة (هنادي) إلى داخل الفيلا..
ومع سقوط التمثال وتحطمه عند المدخل صرخت (هنادي) :
– أيتها الحقيرة..
واستدارت لتطارد القطة الصغيرة داخل الفيلا..
ثم توقفت في دهشة عصبية..
فالقطة الصغيرة قد اختفت مرة أخرى..
اختفت تماما..
وكان هذا يعني أن تعاود (هنادي) البحث عنها مرة أخرى..
ولقد أورثها هذا المزيد من العصبية..
والمزيد..
والمزيد..
ومع عصبيتها راحت تقول:
– لو أن هشام هنا لساعدني في الإمساك بها على الأقل..
مع ذكر هشام انعقد حاجباها في شدة وهي تستعيد كلمات هذا الأخير..
“مع العصبية الزائدة لا يمكنك أن تربحي سوى المشادات الكلامية ولكنك ستخسرين كل ما عدا هذا..”.
“لو قاومت انفعالاتك وأعملت عقلك قليلا فربما تجدين وسائل أفضل لحل كل مشكلاتك..”.
ومع استعادتها لكلماته قالت في عصبية:
– فليكن يا هشام سأحاول اللعب بطريقتك.. وسنرى.

أخذت تلتقط أنفاسها على نحو متلاحق، في محاولة لتهدئة أعصابها الثائرة قبل أن تقول:
– إذن فأنتِ عطشى وجائعة أيتها الحقيرة!! الطعام والشراب سيجذبانك حتما ما دمت كذلك.
اتجهت إلى المطبخ وأحضرت وعاءين قديمين، وضعت في أحدهما قطعة من سمك السلمون، وفي الآخر بعض اللبن، وحملتهما إلى حمام الضيوف الصغير في الطابق السفلي، وهي تقول في تشفّ عجيب:
– ما دمت تصرّين على البقاء فستبقين حيث أريدك أنا.. حتى يعود هشام على الأقل..

وضعت الوعاءين في أبعد منطقة في حمام الضيوف عن الباب، ثم ابتعدت وجلست على أريكة صالة الانتظار وهي تغمغم في عصبية:
– هيا.. عندما تجذبك رائحة الطعام واللبن سأحبسك في حمام الضيوف.
ثم انعقد حاجباها مرة أخرى وهي تضيف في عصبية:
– إنك لن تنتظري أبدا في فيلتي.
جلست تراقب الحمام الصغير، وتنتظر..
وراحت الدقائق تمر..
وتمر..
وتمر..

ولكن تلك القطة الصغيرة لم تظهر..
كانت وكأنها قد أدركت الفخ المعد لها فلم تتجه إليه، على الرغم من رائحة السلمون واللبن التي تكاد (هنادي) تقسم إنها تشمها في وضوح..
وفي عصبية غمغمت (هنادي) :
– يبدو أنك أكثر ذكاء مما كنت أتصور.
قالت عبارتها تلك ثم شعرت بغضب شديد مع ذلك الصوت الذي انبعث من الطابق العلوي للفيلا..
صوت سقوط منفضة سجائر من فوق المنضدة الصغيرة في الصالة العلوية، وفي غضب هادر صرخت (هنادي) :
– أيتها الماكرة اللعينة!

اتجهت إلى المطبخ والتقطت عصا طويلة انتزعتها من إحدى أدوات النظافة وهي تصعد إلى الطابق العلوي قائلة في حدة:
– فليكن أنتِ أردت هذا..
وفي الطابق العلوي رأت القطة الصغيرة ترقد في هدوء على الأريكة الوثيرة في الصالة الصغيرة، فصرخت بكل عصبيتها وغضبها:
– ظفرت بك.
اندفعت نحو القطة الصغيرة التي وثبت من مكانها، وراحت تعدو في الصالة الصغيرة وهي تعدو خلفها صارخة:
– قلت لك إنك ستخسرين المعركة.

كانت تضرب بالعصا بكل قوتها ولكن القطة الصغيرة راحت تتقافز هنا وهناك فأخطأتها عصاها عدة مرات، قبل أن تتوقف القطة الصغيرة فوق قائم السلم الذي يقود إلى الطابق السفلي، فتوقفت (هنادي) بدورها لاهثة وهي تقول:
– أيتها الحقيرة.. لن يمكنك الاختباء بعد الآن.. سأراك إذا ما حاولت الهبوط إلى الطابق السفلي.. لقد خسرت المعركة.. اعترفي بهذا..
كانت تقترب منها في حذر والقطة الصغيرة كانت تموء في فزع، ثم رفعت (هنادي) العصا وهوت بها بكل قوتها..
ولكن القطة الصغيرة وثبت مرة أخرى..
وهوت ضربة (هنادي) على الهواء..

ومع الحركة العنيفة اختلّ توازن (هنادي) واندفع جسدها إلى الأمام وسقطت العصا من يدها، فتعثرت قدمها فيها، و…
وسقطت..
ومع سقطتها ارتطم رأسها بقائم السلم ثم دار جسدها حول نفسه..
وهوى..
هوى متدحرجا على السلم في الطابق العلوي إلى الطابق السفلي قبل أن يرتطم بالأرضية في عنف..
ومع كل الآلام التي امتلأ بها جسدها حاولت (هنادي) النهوض..
حاولت..
وحاولت..
وحاولت..

ثم أدركت الحقيقة البشعة..
لقد تحطم عنقها ولم تعد قادرة على الحركة..
وفي هدوء هبطت القطة الصغيرة في درجات السلم ثم وثبت عبر جسد (هنادي) الساكن، وراحت تسير في صالة الفيلا الرئيسية وكأنما أدركت أن خصمها قد صار عاجزا عن الحركة..
وفي هدوء أيضا وأمام عيني (هنادي) اتجهت القطة الصغيرة إلى حمام الضيوف، وتناولت الوجبة التي أعدتها (هنادي) ثم تهادت في مشيتها ممتلئة البطن، ووثبت فوق أريكة الصالة وألقت نظرة ناعمة هادئة على (هنادي) ، ثم أسبلت جفنيها وراحت في سُبات هادئ..

وبكل مرارة وعصبية راحت (هنادي) تراقبها عاجزة حتى عن الذهاب إليها..
وعلى الرغم من إصابتها شديدة الخطورة كان كل ما يملأ رأس (هنادي) في تلك اللحظة هو أن تلك القطة الصغيرة اللعينة قد انتصرت..
أما هي فقد صارت الهزيمة من نصيبها..
إلى الأبد.

رائج :   من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || الوسيم

مقالات ذات صلة