قصص وعبر

من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || قطرات الماء

“إنت قتلتني”.

قالتها سلوى وهي تقترب سابحة في الهواء من زوجها عامر، الذي التصق بجدار ذلك المنزل القديم صارخا:

– ابتعدي عني.

كانت صرخته تحمل ذلك الارتجاف الشديد الذي شمل جسده كله وهو يحدق في شبح زوجته، الذي واصل سباحته في الهواء نحوه، وهي تواصل دون أن تفتح شفتيها:

– خدعتني بنزهة رومانسية على نيل القاهرة، ثم ربطت ذلك الحجر الكبير في ساقي بعد أن هاجمتني وكبلت حركتي.

أخفى وجهه بذراعيه وهو يهتف في صراخ مرتجف أقرب إلى البكاء:

– إليك عني.. أتوسل إليك.

كانت تقترب أكثر وأكثر متابعة حديثها وكأنها لا تسمعه:

– توسلت إليك أن ترحمني.. رجوتك أن تتركني أحيا.. تضرعت إليك أن تبقي على حياتي من أجل ابنتي الوحيدة، ولكنك صممت أذنيك وحملتني قسرا وألقيت بي في النيل.

انهار على ركبتيه وهو يقول:

– الرحمة.. كنت أدافع عن نفسي.. أنتِ قلت: “إنك ستبلغين الشرطة، ولم يكن أمامي سوى…”.

قاطعته وهي تدنو حتى صار وجهها الشبحي المائل إلى الزرقة في مواجهته مباشرة وهي تتمتم:

– امتلأ صدري بالماء ورحت أغرق.. وأغرق.. وأغرق..

صرخ وهو يضرب ذراعيه في الهواء:

– ابتعدي.

ثم استيقظ دفعة واحدة..

كان العرق يغمر جسده القوي على الرغم من برودة الطقس، وراح يلهث في شدة وهو يتلفت حوله في ذعر، قبل أن يغلق عينيه مغمغما في ارتجاف:

– ذلك الكابوس اللعين مرة أخرى.

هز رأسه في قوة وكأنما ينفض عنه ذلك الكابوس الذي يؤرق نومه، واعتدل يجلس على طرف الفراش ويواصل لهاثه بعض الوقت قبل أن يغمغم بكل توتره:

– ألن يفارقني أبدا؟!

تأمل الأثاث الرث من حوله والجدران المتشققة التي بدت آثار الرطوبة فيها واضحة، ورفع عينيه إلى السقف الخشبي القديم قبل أن يضيف:

– لقد تركت كل شيء وعدت إلى حيث بدأت، فلماذا يطاردني الكابوس نفسه؟! لماذا؟!

نهض في تباطؤ يشعل ذلك الموقد القديم ويضع فوقه إناء من الألومنيوم وضع فيه بعض الماء، وتراجع يسترجع ذكرياته..

من هنا بدأ..

من هذا المنزل المتهالك الذي نشأ وترعرع فيه مع أبوين يجدان قوت يومهما بالكاد وبعذاب جعله يكره فقره منذ نعومة أظفاره ويسعى إلى الخلاص منه..

وبأي ثمن..

وفي الخامسة عشرة بدأ في تحقيق ما يصبو إليه واحترف سرقة الملابس التي يضعها أصحابها لتجف في منازل الطوابق السفلى، ثم سرعان ما انتقل إلى سرقة المنازل نفسها عندما يغيب عنها أصحابها، قبل أن يبدأ مع سن العشرين في احتراف مهنة أقل خطورة من وجهة نظره..

النصب والاحتيال..

استعان بالثياب الأنيقة التي سرقها من قبل ليمنح نفسه مظهرا لا يشف عن أصله، وراح يرتاد الأماكن الفاخرة مع رصيد سرقاته المنزلية ويتعامل على النحو الذي يبعث في نفسك الثقة، شأن أي نصاب محترف..

وفي الخامسة والعشرين استحق عن جدارة لقب “نصاب محترف”، بعد أن نجح في الاحتيال على مواطنين عاديين، والاستيلاء على مدخرات عمرهم ثم على رجال أعمال صغار، ليصعد إلى مرتبة النصب على رجال أعمال كبار نسبيا، و…

وهنا التقى بزوجته سلوى..

منذ اللحظة الأولى أدرك أنها صيد ثمين للغاية، فهي أقل من متوسطة في مستوى الجمال، تميل إلى البدانة، وأرملة لواحد من كبار المقاولين، ولديها منه ابنة واحدة في السادسة من عمرها..

في البداية وضع خطة للاحتيال عليها وإيهامها بأنه رجل أعمال جديد في محاولة للاستيلاء على مبلغ ذي ستة أصفار منها..

ولكن سلوى لم تكن بالصيد السهل..

كانت سيدة أعمال ذكية متمرسة وليست من النوع الذي يسهل الإيقاع به..

ولكنه كأي نصاب لا يستسلم في سهولة، ثم أنه يتمتع بوسامة طبيعية تؤهله لتحويل دفة العملية إلى جانب آخر..

وهكذا بدأ الاحتيال عليها على نحو بطيء، بحيث أوهمها بأنه واقع في غرامها، وأوحى إليها بأنه عاجز عن مفاتحتها في هذا..

وخلال عام كامل من الصبر أدى دوره على خير ما يرام..

زهور تصلها في عيد مولدها..

صورتها تسقط من جيبه أمامها بمصادفة ملفقة، ويستعيدها في سرعة متصنعا الخجل بعد أن يثق تماما في أنها قد لمحتها..

كلمات حانية رقيقة كلما التقيا..

ثم أخيرا بعد أن أيقن من أنها قد التقطت الطعم، توجه إليها وكله خجل وحياء يطلب منها قبول دعوته إلى عشاء متواضع..

كانت تلك هي المرة الأولى التي لمس فيها يدها ثم تراجع كمن صعقه تيار كهربي، وراح يلهث بالاعتذار والأسف..

وابتسمت هي..

ابتسامتها جعلته يشعر بالظفر والانتصار..

وبعد شهر واحد تم زفافهما..

وخلال عام كامل بدا لها مثالا للزوج الحنون، يعاملها بكل رقة ويفاجأها بهداياه كل حين وآخر في مناسبات خاصة أو حتى دون مناسبات، ويداعب ابنتها الوحيدة ويلاعبها طوال الوقت، حتى شعرت سلوى بأن القدر قد أنعم عليها بالزوج الذي تحلم به كل امرأة..

حتى كان ذلك اليوم الذي كشفت فيه أمره..

كان يستغل ثقتها الشديدة ويستولى على كل ما يقع تحت يديه من أموالها ومن قطع مجوهراتها، ثم يكون أول من يقف إلى جوارها، ويصر على إبلاغ الشرطة واتهام سفرجي أو خادمة..

ولكن حياته السابقة لم تكن لتتركه يواصل لعبته القذرة..

ذات يوم اصطدم بأحد عملاء شركتها ممن كانت له معه قصة احتيال سابقة..

ومنه عرفت سلوى حقيقته لأول مرة..

في البداية لم تصدق، ثم بدأت في ترتيب الأحداث والوقائع، وبعدها واجهته وطالبته بإعادة كل ما سرقه منها، وإلا أبلغت الشرطة بأمره..

ولأنه محتال محترف نجح في تهدئتها وطلب منها أن يخرجا في نزهة رومانسية أخيرة تذكرهما بشهر عسلهما، وبعدها سيعيد إليها كل شيء ويختفي من حياتها تماما..

ولكنه لم يفِ بوعده ولم يختف من حياتها..

هي التي اختفت من حياته..

وإلى الأبد..

قتلها بدم بارد وعاد وحده إلى منزل الزوجية، واستولى على كل ما استطاع الوصول إليه من الأموال والمجوهرات قبل أن يختفي تماما..

كان يعلم أنه أول من ستتجه إليه أصابع الاتهام وأن الشرطة ستبحث عنه حتما، ولكنه كان بلا سوابق، وكل الأوراق التي استخدمها للزواج منها كانت مزورة، والشرطة لن تعثر على الزوج القاتل أبدا..

ثم من سيبحث عنه هنا في تلك المنطقة العشوائية الفقيرة التي نشأ وتربى فيها؟!

من؟!

صب الماء بعد غليانه على قليل من الشاي وتناوله على مهل، وألقى نظرة على ساعته التي أشارت عقاربها إلى الثالثة صباحا، وتطلع لحظات إلى فراشه ثم قرر العودة إلى النوم من جديد..

“إنت قتلتني”.

في هذه المرة كانت سلوى تقترب منه سابحة في الهواء والماء يقطر من شعرها القصير.. تراجع وهو يهتف:

– اتركيني لحالي.. ماذا تريدين مني؟!

بدا له وكأنه يسمع صوت الرعد من بعيد وصوت المطر ينهمر ويغمر شعرها القصير المتلبد وهي تزداد قربا قائلة:

– الجزاء دوما من جنس العمل.

صرخ:

– أنتِ أجبرتني.. لو لم تهددي بإبلاغ الشرطة لصار كل شيء على ما يرام لكلينا.

تقاطر الماء من شعرها أكثر وأكثر وجسدها الشبحي يسبح في الهواء مقتربا منه مكررا:

– سألتك أن ترحمني فلم تفعل.. أنت قاتل.. قاتل..

ضرب ذراعيه في الهواء وهو يصرخ:

– وأنتِ لست هنا.. أنت مجرد شبح.

اقترب شبحها منه أكثر وأكثر، فحدق في وجهها الأزرق في رعب وبدا له وكأن الماء قد صار يسيل من رأسها في غزارة وهي تكرر:

– الجزاء لا بد أن يكون من جنس العمل..

كان وجهها الذي يزداد زرقه يبدو مخيفا إلى حد جعله يرتجف من قمة رأسه وحتى أخمص قدميه، وتمنى أن يخرج من هذا الكابوس الرهيب ففتح فمه ليقول شيئا..

أي شيء..

ولكن حرفا واحدا لم يخرج من بين شفتيه..

وكما يحدث في الكوابيس، خيّل إليه أن جسده كله قد تخشب ولم يعد يستطيع تحريك إصبع واحد منه..

حتى فمه الذي انفتح لم يستطع إغلاقه مرة أخرى..

واقترب شبحها منه أكثر..

وأكثر..

وأكثر..

وبصوت بدا وكأنه يخرج من أعماق قبر قديم، قالت:

– أغرقتني وعليك أن تدفع الثمن..

أصبح وجهها الآن فوقه مباشرة، وعيناه تحدقان في عينيها اللتين بدتا كجمرتين من لهب وسط وجه شديد الزرقة..

وسال الماء غزيرا من شعرها على وجهه..

شعر به يغمره..

ثم شعر به يتساقط عبر فمه المفتوح..

ويملأ حلقه..

حاول أن يسعل..

أو حتى يغلق فمه..

ولكنه لم يستطع..

والماء يسيل في حلقه..

ويسيل..

ويسيل..

“هذه أول حالة أراها في حياتي”.

غمغم طبيب الصحة بالعبارة بكل دهشته، وهو يرفع عينيه إلى السقف المبتل، الذي ما زالت بقايا أمطار الأمس تتساقط منه، قبل أن يضيف:

– لم أر في حياتي من قبل شخصا يموت غرقا في فراشه.. الماء تساقط من السقف في حلقه مباشرة.

التفت ثلاثة من رجال تلك المنطقة العشوائية حول فراش عامر الذي حمل جثته مفتوحة العينين عن آخرهما وفمه الذي يسيل منه ماء المطر وغمغم أحدهم في خشوع:

– هكذا عثرنا عليه.

 

رائج :   من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || الخلود

رائج :   الهباء || د : أحمد خالد توفيق

وافقه الطبيب بإيماءة من رأسه، وهو يقول:

– هذا يبدو واضحا، لكنني ما زلت أتساءل: كيف بقي في هذا الوضع والماء يملأ فمه؟!

في الحالات الطبيعية، يسعل المرء، ويدير رأسه بعيدا عن الماء المتساقط.. أو حتى يستيقظ، ولكنه بقي على موضعه حتى مات غرقا.

وهز رأسه في قوة وهو يضيف مخرجا قلمه لتوقيع شهادة الوفاة:

– أظن أن هذا سيبقى لغزا.. لغز بلا حل.. على الإطلاق.

ووقّع شهادة الوفاة.

Related Articles