قصص وعبر

من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || ومن الحب …

” جن ؟! …”
نطقها الشيخ (حسن) فى دهشة ، وهو يحدق فى وجه المهندس (صفوت) ، الجالس أمامه فى ذلك المسجد الصغير …
” أى سؤال هذا يا ولدى ؟…”
حملت العبارة كل دهشة الشيخ واستنكاره ، فازدرد (صفوت) لعابه فى صعوبة ، قبل أن يقول فى اضطراب :
ـ أليسوا مذكورين فى القرآن يا مولاى ؟!

أومأ الشيخ برأسه إيجابًا ، وهو يقول فى حذر :
ـ هذا صحيح يا ولدى ، ولكن ليس كل ما نعجز عن تفسيره هو جن .
بدا (صفوت) أكثر توترًا ، وهو يقول :
ـ ولكننى اختبرت هذا بنفسى يا سيدنا … اتخذت كل الاحتياطات الممكنة ، وتيقّنت من أن التفسير الوحيد المتبقى هو الجن .

ربت الشيخ (حسن) على كفه مهدئًا ، وحاول أن يبتسم مطمئنًا ، وهو يقول :
ـ اهدأ يا ولدى ، وقص علىَّ كل شىء من البداية .
تراجع المهندس (صفوت) ، والتقط نفسًا عميقًا ، قبل أن يقول فى اضطراب واضح :
ـ كل شىء بدأ من أسبوعين فحسب .. عندما كنت نائما ذات ليلة …
” استيقظ …”

تسلل الصوت الناعم الهامس إلى أذنيه ، وهو مستغرق فى النوم ، وبدا أشبه بلمحة من حلم جميل …
ولكن تلك اللمسة أيقظته …
لمسة رقيقة من أنامل أنثوية صغيرة ، على كف يده …
لمسة حقيقية ، جعلته يفتح عينيه الناعستين فى بطء ، لتطالعه تلك الابتسامة الساحرة ، لأنثى لم ير فى مثل جمالها من قبل …

لوهلة ، تصوّر أنه يواصل الحلم ، ثم لم يلبث أن أدرك أنه مستيقظ ، فوثب جالسًا على نحو عجيب ، وجف حلقه ، وهو يهتف :
ـ من أنت ؟..! وكيف دخلت إلى هنا ؟!
لم تجب الفتاة ، ولكن ابتسامتها ازدادت سحرًا وعذوبة ، وهى تتطلَّع إليه فى وله :
ـ كم أنت وسيم .
دفع جسده إلى الخلف مبتعدًا عنها ، وهو يكرر صارخًا :
ـ من أنت ؟!
جلست كالنسمة على طرف فراشه ، وبدا صوتها وكأنه قادم من الجنة ، وهى تقول :
ـ لا تخاف منى ولا تخشانى … لا يمكننى أن أؤذيك .

هتف بصوت مختنق :
ـ كيف دخلت هنا ؟..! أنا أغلق الأبواب والنوافذ جيدًا قبل نومى !!
تابعت ، وكأنها لم تسمعه :
ـ لأننى أحبك .
الكلمة الأخيرة جعلته يحدق فيها ذاهلًا ، وقلبه يخفق فى عنف …
يا لها من فاتنة !!
إنها أجمل فتاة وقعت عليها عيناه ، منذ وعى الدنيا …
كتلة من الجمال والرقة والحسن والسحر والعذوبة …
وعلى الرغم منه ، رق صوته ، وهو يغمغم :
ـ هل التقينا من قبل ؟!

همست فى رقة وعذوبة :
ـ ليس على نحو مباشر .
ثم مالت نحوه :
ـ ولكننى أحبك منذ زمن .
غمغم ، وقد خلب سحرها لبه :
ـ وكيف ؟!
ابتسمت هامسة :
ـ أراقبك منذ زمن .. أراك ولا ترانى … أحبك وإن لم تلق بى قط .

حاول أن يستوعب الأمر ، ودار ببصره على الباب والنوافذ المغلقة ، قبل أن يهز رأسه ، مغمغمًا :
ـ أنت جزء من حلمى … حلم جميل … سأستيقظ منه فى الصباح .
مالت نحوه أكثر ، وانحنت تطبع قبلة دافئة على خده ، هامسة :
ـ أنا لست حلمًا … أنا حقيقة …
واستيقظ منتفضًا …
رباه ! … لقد كان حلمًا …
كان حلمًا جميلًا …
” لا عيب فى الأحلام ، ولا إثم فيها يا ولدى …”

قالها الشيخ (حسن) ، محاولًا سحب بعض توتره ، فهز (صفوت) رأسه نفيًا فى قوة ، وهو يقول :
ـ الأحلام لا تترك هذا يا سيدنا .
قالها فى عصبية ، وهو ينزع ما بدا أنه ضمادة صغيرة ، على خده الأيسر ، فاتسعت عينا الشيخ (حسن) فى دهشة …!!
كان هناك أثر واضح لشفتين أنثويتين ، بلون وردى ناعم …
” استخدمت كل وسيلة ممكنة لمحوها ، ولم يجد أيًّا منها …”
قالها (صفوت) فى يأس ، فمد الشيخ (حسن) يده يتحسسها ، قبل أن يغمغم :
ـ تبدو وكأنها محفورة على خدك .

غمغم (صفوت) فى مرارة :
ـ إنها كذلك … شىء أشبه بالوشم ، الذى يستحيل إزالته .
تراجع الشيخ (حسن) بكل الدهشة ، وغمغم :
ـ لم نسمع أن جنية قد فعلت هذا .
تمتم (صفوت) ، فى صوت أقرب إلى البكاء :
ـ لقد فعلت ما هو أكثر من هذا .
سأله الشيخ (حسن) فى لهفة :
ـ مثل ماذا ؟!

زفر (صفوت) فى مرارة ، ورفع عينيه فى شرود ، وكأنما يستعيد ذكرى مؤلمة ، ثم أجاب :
ـ فى اليوم التالى ، أغلقت الباب والنوافذ بأقفال مزدوجة ، وفحصت كل شبر فى حجرتى ، ثم أويت إلى فراشى بعينين نصف مغمضتين ، و …
” أنا هنا .. “
أتى الصوت من خلفه رقيقًا ناعمًا ، فانتفض جسده فى عنف ، واستدار إلى مصدره …
واتسعت عيناه عن آخرهما ..
كانت اليوم أكثر سحرًا وجمالًا وعذوبة …
ابتسامتها عقدت لسانه فى حلقه ، وهى تتقدم منه فى هدوء ونعومة :
ـ هل افتقدتنى ؟!
ارتجف صوته مع جسده :
ـ ماذا أنت ؟!

ابتسمت :
ـ مخلوق فى هذا الكون … ربما أختلف عنك فى التكوين ، ولكننى مثلك … مخلوق .
تمتم مشيرًا إليها :
ـ وهذا السحر والجمال .
ـ كل بنى جنسى كذلك … ما يبدو جمالًا ساحرًا عند بنى جنسكم ، هو الهيئة الطبيعية لبنى جنسنا .
غمغم متراجعًا عنها :
ـ الأساطير تقول : إن حوريات البحر كن جميلات ساحرات .
هزَّت رأسها بابتسامة هادئة ، فاستدرك :
ـ وكن متوحشات قاسيات .

تطلَّعت إليه لحظة ، قبل أن تسأله فى رقة بالغة :
ـ وهل أبدو لك كذلك ؟!
نظر إلى جمالها الساحر الفتَّان لحظات ، قبل أن يهز رأسه نفيًا :
ـ كلا .
ازداد قربها منه ، فسألها متراجعًا :
ـ ماذا تريدين منى ؟!
واصلت قربها :
ـ أخبرتك أننى أحبك .
كرر ، وقد التصق ظهره بجدار الحجرة :
ـ نعم ، ولكن ماذا تريدين منى ؟!
واصلت قربها …
وواصلت …
وواصلت …
” الزواج ؟..!”

هتف الشيخ (حسن) بالكلمة فى استنكار ، فنظر إليه (صفوت) فى دهشة ، مغمغمًا فى عصبية :
ـ لماذا افترضت هذا ؟!
أجابه الشيخ (حسن) فى انفعال :
ـ هذا ما يحدث عادة ؟!
ثم استدرك ، فى صرامة محذرة :
ـ ولكن زواج الإنس بالجن حرام .
غمغم (صفوت) فى يأس :
ـ أعلم هذا .

ثم تابع منهارًا :
ـ ولكنها تزورنى كل ليلة … أكاد أجن يا مولانا .
صمت الشيخ (حسن) لحظات يتأمله ، ثم مال نحوه ، يسأله فى تعاطف :
ـ ماذا يمكننى أن أفعله من أجلك يا ولدى ؟!
تشبث (صفوت) بيده ، هاتفًا فى ضراعة :
ـ ساعدنى على صرفها يا مولانا … بارك منزلى … اتل فيه آيات القرآن … اقرأ بعض الأوردة … ولكن خلصنى منها .
تردَّد الشيخ (حسن) :
ـ ولكننى لم أختبر هذه الأمور أبدًا يا ولدى .
تشبث به (صفوت) أكثر :
ـ هى فرصة لتختبرها إذن … ساعدنى يا مولانا … أرجوك .. أكاد أجن … أرجوك .
تردَّد الشيخ طويلًا ، ولكن سرعان ما غلبه فضوله ، واستحثته دموع (صفوت) وضراعاته ، فغمغم :
ـ فليكن .. متى تحب أن نفعل هذا ؟ّ!
هتف (صفوت) بكل اللهفة :
ـ الليلة … أرجوك .

ووافق الشيخ …
وفى منتصف الليل ، دخل مع (صفوت) إلى منزل هذا الأخير ، وإلى حجرة نومه بالتحديد ، وجلس ينتظر …
” هل ستظهر ؟! .. “
تساءل الشيخ فى قلق ، فقال (صفوت) فى ارتياح :
ـ إنها تفعل دومًا .
غمغم الشيخ قلقًا :
ـ ربما أن وجودى …
قاطعه صوت ناعم من خلفه ، يكمل :
ـ سيشجعنى أكثر على الحضور .
التفت بدهشة مذعورة إلى مصدر الصوت ، ووقع بصره عليها ..
صورة مجسمة للجمال والفتنة والسحر …
” يسعدنى أنك قد أتيت بإرادتك …”
أسرع الشيخ يفتح حقيبته ، دون أن يرفع عينيه عن وجهها ، وهو يقول :
ـ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .
ابتسمت قائلة :
ـ أنا مخلوق مثلك يا رجل … ولكن لى طبيعة مختلفة .
مع آخر قولها ، تبدلت ملامحها ، من الفتنة الساحرة ، إلى البشاعة الهائلة ، وبرزت فى فمها أنياب طويلة حادة ، جعلت الشيخ يتراجع صارخًا :
ـ العياذ بالله .

وانقضت هى …
وأشاح (صفوت) بوجهه فى ألم …
” كل أسبوع عليك أن تحضر لى مثله … نحن نحبكم كثيرًا “
قالتها فى شراسة مخيفة ، بعد أن انتهت من التهام ضحيتها ، ومسح شفتيها بلسانها الطويل ، المشقوق من المنتصف ، فغمغم (صفوت) فى مرارة :
ـ قلت : إنها مرة واحدة .
صرخت فيه :
ـ نسيت أن أضيف كلمة (أسبوعيًا) …
ثم مالت نحوه ، وألصقت خده بلسانها البشع ، مستطردة فى وحشية :
ـ إن لم تفعل ، لن يكون أمامى سوى التهامك أنت .

كاد يبكى من القهر ، ولكنها اعتدلت مكملة :
ـ أخبرتك أننى مخلوق مثلكم ، ولكن الفارق بيننا وبينكم هو أنكم … طعامنا .
وانطلقت من حلقها ضحكة وحشية قاسية رهيبة …
ضحكة مخلوق وحشى يحب …
طعم البشر
***
(تمت بحمد الله)

رائج :   من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || الوسيم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *