دين و دنيا

سيرة الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) || الجزء الثاني

عمر ذلك الشاب الشديد على المسلمين المجاهر بعداوته لهم بدأ يختلى بنفسه كثيراً تلك الأيام ..

بدأ يتبع محمد ﷺ كثيراً أيضاً .. دون أن يشعر بدأ يستمع للقرآن .. فى أحد الأيام تبع رسول الله وكان ذاهباً للصلاة عند الحرم فجلس خلفه يستمع إليه فإذا هو يقرأ آيات من سورة الحاقة فتعجب عمر من القرآن المعجز ..

كان العرب أصحاب لغة و لم يكن ليفوتهم أبداً أن القرآن ليس كلام بشر .. كانوا جميعاً متأكدين أنه ليس شعراً و لا نثراً و لا سجعاً و لا شبيهاً بأى مما يعرفونه .. و إن كان العرب أصحاب لغة فكيف عمر وهو الخبير بفنون الشعر ..

بدأ محمد ﷺ قراءة سورة الحاقة و كلما قرأ رد عمر فى نفسه بشىء يثبته فقال لعله قول شاعر .. فى تلك اللحظة وصل رسول الله ﷺ إلى قوله تعالى :

(وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ )

فتعجب عمر من هذا .. فقال :

– لعله إذاً قول كاهن

فأكمل رسول الله الآيات :

( وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ )

لم يقف الأمر عند ذلك الحد فقد سمع عمر رسول الله ﷺ أكثر من مرة يقرأ القرءان و فى كل مرة يسمعه كان القرءان يرد على ما فى نفسه فيروى أنه فى جاهليته تبع رسول الله حتى بدأ يصلى و يقرأ القرءان قائلاً :

( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ )

و على الفور بدأ عمر بالتفكير .. ربما كان محمد على حق .. لما لا و هو أمياً لا يقرأ و لا يكتب فمن أين أتى بهذا القرآن المعجز !!.. لم لا وهو الصادق الأمين و لم يعرف عنه أبداً أنه كذب .. لما لا و هذا القرءان لا يشبه ما ألفناه و تعلمناه أبداً .. لم لا و قد تحمل الناس العذاب والهوان من أجل هذا الدين ..

كان عمر يخطو دون أن يشعر إلى الإسلام و لكن كان يصده خوفه على مكة وتأثر مكانتها بين العرب بسبب هذا الدين .. النظام القبلي كله قد ينهار و يتساوى السادة بالعبيد و تصبح قريش معيرة بين العرب ..

رائج :   المسيح الدجال … معلومات وحقائق

كان عمر يخطو للأمام خطوة ثم يتراجع عنها مجدداً .. كان تحديداً لا يعرف ماذا يفعل أو إلى أين يتجه فتارة تجده رقيق القلب هادىء الطباع وتارة أخرى تجده فى شدة الغضب .. تارة تغشاه سكينة الإسلام و تارة أخرى تأخذه حمية الجاهلية

و لا يوجد أدل على تلك الحالة مما روته ليلى أم عبد الله بنت أبي حثمة زوجة عامر بن ربيعة العنزي حينما كانت تتجهز للهجرة إلى الحبشة و كان عمر شديد البطش بهما فلما رأته آتياً نحوها خافت و كانت وحدها حيث كان زوجها يقضى حاجة لهما فسابقها عمر بقوله :

( إنه الإنطلاق يا أم عبد الله ؟ )

فاستجمعت قوتها ثم ردت قائلة :

( نعم .. و الله لنخرجن فى أرض الله .. آذيتمونا و قهرتمونا .. حتى يجعل الله لنا فرجا )

فنظر لها عمر لحظة ثم قال :

( صحبكم الله )

فلما عاد زوجها قصت عليه ما رأت من عمر و كيف أنها شعرت منه بلين لم تعتاده منه فقال لها :

( كأنك قد طمعت فى إسلام عمر .. إنه لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب )

كانت ليلى على حق و عامر أيضاً كان له عذره .. فهى رأت منه رقة غريبة عليه أما عامر فلم يره وقتها .. فى الواقع عامر بن ربيعة لم يكن يعلم بدعاء رسول الله ﷺ بعد ..

فى ذلك الوقت و فى مكان أخر كان رسول الله ﷺ يرفع يديه بالدعاء إلى الله ليعز الإسلام و المسلمين خاصة بعد ما لاقاه المسلمين من أذى على يد مشركى قريش فقال :

( اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك .. بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب )

لم تمر فترة طويلة حتى سمع عمر بخبر إسلام أسد الله حمزة بن عبدالمطلب فاغتاظ من هذا وعزم على إنهاء أمر الدعوة الوليدة قبل أن تفرق بين سادات مكة فقرر فى نفسه أن يقتل محمد ليريح قريش من دعوته فإن قتله قام بتسليم نفسه إلى بنى هاشم ليقتلوه قصاصاً لمحمد و ينتهى الأمر .. قرر عمر أن يفعل ذلك دون أن يعلم أنه كان أحب الرجلين إلى الله ..

رائج :   فتح القسطنطينية .. عندما تفوق محمد الفاتح على الاسكندر الاكبر

ذهب عمر إلى بيته فاستل سيفه و خرج من داره قاصداً محمد ﷺ .. كل من رآه ذلك الوقت أيقن أن عمر يضمر فى نفسه شراً .. و هكذا تفاوتت الحالة النفسية لعمر بين هدوء و سكينة مع أم عبد الله و بين شدة وغلظة فى مسألة قتل محمد ﷺ .. و هو فى طريقه يبحث عن رسول الله لقيه نُعيم بن عبد الله فعلم أنه ينوي شراً وكان أحد الذين أسلموا و أخفوا إسلامهم فقال له :

( أين تريد يا عمر ؟ )

فرد عمر قائلاً :

( أريد محمداً .. أريد أن أقتل هذا الصابىء الذى فرق أمر قريش و سفه أحلامها و عاب دينها و سب ألهتها )

فخاف نُعيم على رسول الله ﷺ فأراد أن يثنيه عما يريد فقال له :

( و الله لقد غرتك نفسك يا عمر .. أترى بنو عبد مناف تاركيك تمشى على الأرض و قد قتلت محمداً .. أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم أولاً .. أختك فاطمة و زوجها سعيد بن زيد قد و الله أسلما وتابعا محمد على دينه فعليك بهما )

ما أن سمع عمر كلام نُعيم حتى وصل غضبه إلى الذروة .. و إن يكن .. فليقتل فاطمة و سعيد أولاً قبل أن يقتل محمداً .. هنا رأى نُعيم أن التضحية بـ فاطمة و سعيد أولى من ذهاب عمر إلى رسول الله ﷺ فحول تفكيره ناحيتهم وهو بهذا اختار أخف الضررين .. فى الواقع نُعيم لم يكن يعلم أن الله قد سخره لخير عظيم سيعود على الإسلام و المسلمين لاحقاً ..

انطلق عمر مسرعاً نحو بيت ابن عمه و زوج أخته سعيد بن زيد وكان عندهما الصحابى خباب بن الأرت يعلمهما القرآن فلما سمعوا طرقه للباب اختبأ خباب رضي الله عنه بسرعة قبل أن يفتح له سعيد الباب فلما رآه أمسكه عمر بقسوة و قال له :

( أراك صبأت )

فرد عليه سعيد رضى الله عنه بخوف قائلاً :

( أرأيت إن كان الحق فى غير دينك ؟ )

فانقض عليه عمر يضربه بعنف فلما حاولت فاطمة منعه أمسكها هى الأخرى و قال لها :

( أراكى صبأتى )

فردت عليه قائلة :

( يا عمر .. أرأيت إن كان الحق فى غير دينك ؟ )

فلم يتمالك عمر نفسه فلطمها لطمة شقت وجهها فسال منه الدم .. من قوة الضربة وقعت على الأرض و كانت ممسكة فى يدها صحيفة بالقرآن فلما رآها قال لها :

( ناولينى تلك الصحيفة )

فأبت رضى الله عنها و ردت عليه :

( أنت نجس .. و هذا كلام الله لا يمسه إلا المطهرون .. إذهب فاغتسل ثم تعال فأقرأها )

الدم على وجه أخته و الفوضى التي أحدثها فى البيت و قبل ذلك فضوله لقراءة ما فى الصحيفة جعله يسمع كلام أخته فذهب و اغتسل وخلال ذلك الوقت هدأت نفسه قليلاً .. أمسك الصحيفة ثم شرع يقرأ ما فيها فإذا بها ما تيسر من سورة طه :

( طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ * إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ * تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ )

فما أن إنتهى من القراءة حتى اهتزت نفسه و بدأ شريط الأحداث يمر أمام عينه ..

رائج :   سيرة الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) || الجزء الثالث

– صوت المنادى ( يا جليح .. يا جليح )
– صبر محمد و من تبعه من المسلمين على الأذى
– ما سمع من القرآن و هو خلف محمد
– هجرة المسلمين و فرارهم بدينهم
– و أخيراً كلام الله فى يده

فنظر لهما ثم قال بهدوء :

( و الله ما هذا بكلام بشر .. أين محمد .. أين رسول الله )

فاستبشروا بإسلامه و أخبراه بوجوده فى دار الأرقم بن أبى الأرقم فخرج إليه مسرعاً لا يلوى على شيء ..

لم يبق بين عمر و الإسلام إلا دقائق معدودة ..
لم يبقى بين المسلمين و العزة إلا دقائق أيضاً ..
حال المسلمين سيتغير تماماً خلال دقائق ..

– و لكن .. تلك قصة أخرى ..

مقالات ذات صلة