دين و دنيا

سيرة الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) || الجزء الثالث

ما أن انتهى عمر بن الخطاب من قراءة الصحيفة حتى اهتزت نفسه و وقع الإسلام فى قلبه و طلب أن يذهبوا به إلى رسول الله ﷺ

فخرج و وراءه الصحابى خباب بن الأرت يجرى ليلحق به و كان يجرى لأن عمر رضى الله عنه كان طويلاً بائن الطول سريع المشية فإن هو أسرع فحق على من يسير جواره أن يجرى ليلحق به .. تخيلوا عمر الذى كان يسرع منذ دقائق لقتل محمد هو الآن يسرع للشهادة بوحدانية الله و بنبوة رسوله ..

ما أن وصل عمر إلى دار الأرقم حتى طرق الباب فذهب الصحابى بلال بن رباح فنظر بين شقوق الباب فإذا هو عمر متوشحاً سيفه ففزع من فى المنزل من مقدمه و اختبىء ضعاف المسلمين فى أحد أركان الدار فقال لهم حمزة بن عبد المطلب :

لا عليكم .. افتحوا له فإن يرد الله به خيراً يسلم و إن يرد غير ذلك يكن قتله علينا هيناً فنقتله بسيفه

ما فات يظهر لكم قيمة عمر و قوته حيث أنه كان من الصعب أن يُقتل عمر فى مواجهة منفردة .. من قال تلك العبارة هو حمزة أسد الله الذى ضرب أبى جهل بالقوس على رأسه وسط عشيرته بنو مخزوم و لم يجرؤ أحداً منهم على مواجهته .. هنا تتضح قيمة عمر ..

لما فتحوا له دخل عمر متوجهاً ببطء صوب رسول الله ﷺ فأمسك به حمزة من الخلف فقال له رسول الله ﷺ :

أتركه يا حمزة

ثم أقبل عليه فأمسكه من مجمع ثيابه ( صدره ) و نتره نترة شديدة ( أى هزه هزة شديدة ) ثم قال :

ما جاء بك يا بن الخطاب .. فو الله ما أرى أن تنتهى حتى ينزل الله بك قارعة .. ما أنت بمنته يا عمر حتى ينزل الله بك ما أنزل بالوليد بن المغيرة

فلم يتمالك عمر نفسه فسقط على ركبتيه أمام رسول الله ﷺ .. فأكمل ﷺ قائلاً :

أما آن الآوان يا بن الخطاب ؟ .. أما آن لك أن تُسلم ؟

فرد عمر رضى الله عنه بصوت خفيض :

يا رسول الله .. جئت لأؤمن بالله و برسوله و بما جاء من عند الله .. و إنى أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمد رسول الله

فما أن نطقها حتى تهلل وجه رسول الله ﷺ و كبر المسلمون فى نفس اللحظة فسمع دوى التكبيرة فى طرقات مكة .. لم لا و هو عمر و كل من فى مكة يعلم منزلته و أى استفادة سيجنيها الإسلام بدخول عمر فيه ..

رائج :   العمل المدمر || من كتابات د : أحمد خالد توفيق

عمر رضى الله عنه كان حاسماً صريحاً .. كل من أسلم تقريباً كان يخفى أمر إسلامه إلا عمر و نفر قليل و حتى من أعلن إسلامه لم يعلنه فى صورة المواجهة مع سادة قريش .. إلا عمر .. فما أن أسلم إلا و كانت تجتاحه رغبه فى تعويض ما قام به فى جاهليته فانتظر حتى يصبح الصباح ثم خرج أولاً إلى بيت أبو جهل فلما فتح له أبو جهل الباب قال له :

مرحباً بابن أخت – حيث أن والدة عمر من بنى مخزوم – ما الذى أتى بك فى تلك الساعة ؟

فرد عمر قائلاً :

أيا عدو الله .. جئت أخبرك أنى قد أسلمت

فصدم أبو جهل مما قاله عمر فضرب الباب فى وجهه و قال :

قبحك الله و قبح ما جئت به

فتركه عمر و أنصرف و فعل ذلك مع كل سادة قريش حتى أنتهى منهم و على الرغم من السعادة التى شعر بها لتسببه فى غيظ كبار المشركين إلا أنه لم يشعر بأنه اكتفى بعد .. كان يريد مزيداً من المواجهة رضى الله عنه .. كان عزاً للإسلام و المسلمين بحق ..

ذهب عمر إلى الجميل بن معمر و كان أنقل أهل مكة للحديث فما كان الرجل يكاد يستمع إلى حديث حتى ينشره بين الناس فاقترب منه عمر و قال :

يا جميل .. أأكتمك خبراً و لا تحدث به أحد

فقال جميل :

نعم يا عمر

قال :

أشهد ان لا أله الآ الله و أن محمداً رسول الله

فما أن سمع جميل الخبر إلا و انطلق دون أن يرد عليه .. حتى ما انتظر أن يتأكد من عمر فهو يعلم يقيناً أن عمر لا يكذب فأسرع إلى الكعبة – و عمر خلفه – و وقف أمامها منادياً بأعلى صوته :

يا قوم .. صبأ عمر

فما أن سمعه عمر حتى ضربه على ظهره و قال :

كذبت .. بل قل أسلم عمر

فوقف عمر مكان جميل و صاح فى الناس :

أيها الناس .. اعلموا أنى قد أسلمت و أمنت بالله و صدقت رسوله

فلما سمع الناس ما قاله هجموا عليه فقاتلهم حتى ركدت الشمس على رؤوسهم – أى من الصباح إلى المساء تقريباً – و كلما تعب عمر من قتالهم أمسك بزعيم لهم و وضع إصبعيه على عينيه قائلاً له :

أفقع عينيك إن لم تبعدهم عنى

عشرات الرجال تقاتل عمر وحده من الصباح إلى المساء حتى أنهك تماماً فجلس على الأرض قائلاً :

افعلوا ما بدا لكم .. فوالله لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركتموها لنا أو تركناها لكم .. ” يقصد مكة “

و بينما عمر فى تلك الحالة من الإرهاق مر بالناس العاص بن وائل أحد سادات قريش فوجد ما وجد فلما قالوا له إن ابن الخطاب صبأ قال :

فمه – أى و ماذا فى ذلك – امرؤ إختار ديناً لنفسه .. أتظنون أن بنى عدى تسلم إليكم صاحبهم ؟

فما أن قال الرجل مقالته حتى انفضوا عن عمر .. كان عمر رضى الله عنه شجاعاً مقاتلاً لا يداهن أحد بدأ يومه الأول فى الإسلام بجهاد و سيستمر ذلك الجهاد حتى وفاته ..

رائج :   سيرة الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) || الجزء السادس

لم يكتفى عمر بما سبق ففى اليوم التالى خرج إلى قومه بنى عدى و قال :

يا بنى عدى .. اعلموا أنى أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله و لا أقهركم على الأمر مثلما قهرتكم على الباطل من قبل

ثم رجع إلى بيته فجمع أولاده و أخبرهم بأمر إسلامه و أمرهم بأن يؤمنوا بالله وحده فإذا بإبنه الأكبر عبد الله يقول له :

يا أبت أنا مسلم منذ عُمْر

فاحمر وجه عمر رضى الله عنه و قال له :

و تترك أباك يدخل جهنم .. و الله لأوجعنك ضرباً

و بخلاف أهل بيته و قومه بنى عدى استمر عمر فى مبادرته بالمواجهة فقد كان رضى الله عنه عزيزاً شجاعاً لا يقبل بالتخفى فذهب إلى رسول الله ﷺ و قال :

يا رسول الله .. ألسنا على الحق ..

فأجابه : نعم .. فأكمل عمر :

أليسوا على الباطل

فأجابه : نعم .. فأكمل عمر :

ففيم الخفية ؟

قال النبى ﷺ :

فما ترى يا عمر ؟

فرد عمر :

نخرج فنطوف بالكعبة

فقال النبى ﷺ :

نعم يا عمر

و هنا يجب توضيح أمر مهم و هو أن عمر ليس أشجع من رسول الله ﷺ بل أن النبى ﷺ كان أشجع الناس و لم يكن ليخاف من قريش أبداً فقد كان ﷺ يصلى وحده فى الحرم و لكن فقه المرحلة و كون المسلمين فى مرحلة ضعف كان يوجب عليهم عدم المواجهة المباشرة مع المشركين قبل أن يمتلكوا وسائل التمكين و كان عمر رضى الله عنه أحد تلك الوسائل فما أن إمتلكها المسلمين حتى أذن لهم رسول الله بالظهور ..

رائج :   الديكتاتورية .. نماذج من الطغاه (الجزء 1)

كان المسلمين قبل إسلام عمر تسعة و ثلاثون رجل و أكملهم عمر أربعين .. خرجوا جميعاً فى صفان .. عمر على رأس أحدهما و على رأس الآخر حمزة بن عبد المطلب و بينهم يمشى رسول الله ﷺ فمازالوا يمشون حتى دخلوا الكعبة ..

مشهد عظيم لو أنك تخيلته .. مجموعة صغيرة من المؤمنين تشق الصفوف متوجهة إلى الكعبة لا يجرؤ أحداً ممن رآهم أن يعترضهم فقط لأن بينهم عمر و حمزة .. منذ ذلك اليوم أطلق رسول الله ﷺ على عمر لقب الفاروق كونه فرق بين الحق و الباطل .. كان إسلام عمر و من قبله حمزة عزاً أفاض الله به على أمة الإسلام ..

يقول صهيب الرومى :

لما أسلم عمر ظهر الإسلام و دُعى إليه علانية .. و جلسنا حول البيت حلقاً .. و طفنا بالبيت .. و انتصفنا ممن غلظ علينا .. و رددنا عليه بعض مما يأتى به

يقول عبد الله بن مسعود :

إن إسلام عمر كان فتحاً .. و إن هجرته كانت نصراً .. و إن إمارته كانت رحمة .. و لقد كنا ما نصلى عند الكعبة حتى أسلم عمر .. فلما أسلم قاتل قريشاً حتى صلى بها و صلينا معه

قال ابن مسعود أيضاً :

ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر

  • فترة قصيرة حتى يأمر رسول الله أصحابه بالهجرة ..
  • كل المسلمين سيهاجرون متخفين إلا واحداً ..
  • جميعهم سيتجنبون المواجهة فى تلك المرحلة إلا واحداً ..

– و لكن .. تلك قصة أخرى ..

مقالات ذات صلة