لا زالت قصتنا مع خالد بن الوليد ولازالت الردة منتشرة في الجزيرة العربية ولكن من بين كل تلك القبائل لم يبقى منها إلا ثلاث قوى هى الأكبر والأقوى أولهم قبيلة بنو يربوع و زعيمهم مالك بن نويرة يليها قبيلة تَغلُب و زعيمتها سَجَاح بنت الحارث الدجالة مدعية النبوة و أخرهم و أقواهم بنو حنيفة و زعيمهم مدعي النبوة مسيلمة بن حبيب أو مسيلمة الكذاب كما نعته رسول الله ﷺ ..
ولكى تعرف قصة خالد مع مالك بن نويرة و التي هى إحدى الطُعون التي توجه لسيرة فارسنا خالد فيجب عليك أن ترى الصورة كاملة فى ذلك الوقت ..
مالك كان زعيماً أصله عريق و كان كريماً و فارساً و شاعراً .. مالك كان لديه كل صفات القادة العظام بين العرب وقتها .. زوجته اسمها ليلى و كُنيتها أم تميم إحدى أجمل نساء العرب وقتها ..
أسلم مالك فى العام التاسع للهجرة و لمكانته فقد عينه النبى ﷺ لجمع الزكاة من كل فروع قبيلة بنى تميم فلما مات النبى ﷺ و وصل الخبر إلى مالك وكان قد جمع مبلغ الزكاة تراجع عن يمين الولاء الذي أقسمه وأعاد الأموال إلى القبائل مرة أخرى منكراً فرض الزكاة .. ذلك كان أول دليل على ردة مالك ..
فى نفس الوقت كانت هناك امرأة من قبيلة تَغلُب وهي سَجَاح بنت الحارث و التى كانت تجمع جيشاً من القبائل المجاورة لها لتغزو به الجزيرة العربية حتى تصل إلى المدينة لتقضى به على المسلمين ..
سجاح و مالك بن نويرة بينهم صلة قرابة فنزلت به وعرضت عليه أن يتحالف معها فوافق مالك و بالفعل نجحوا فى السيطرة على المنطقة كلها تقريباً .. ذلك ثانى دليل على ردة مالك ..
حتى تلك اللحظة و لكى ترى الصورة أكثر وضوحاً كان لدينا ثلاث قوى رئيسية هم جيش سجاح و مالك و جيش مسيلمة و جيش المسلمين .. أما باقى القوى فى الجزيرة فكانت متفرقة و يقابلها جيوش المسلمين التي قسمها الخليفة أبو بكر الصديق فى بداية الحرب على المرتدين ..
وقتها قررت سجاح الإنطلاق إلى اليمامة معقل مسيلمة لتقضى عليه أولاً لتملك منطقتها بالكامل قبل أن تنطلق إلى المدينة لغزو المسلمين .. كل هذا حدث و مالك يشارك بجيشه معها فى معاركها ..
مسيلمة كان ذكياً و كان يرى أنه يجب أن يأمن شر أحد القوتان اللتان تخططان للهجوم عليه ورأى أن أقربهم إليه هو جيش سجاح فأرسل يطلب لقاءها و تم اللقاء فى خيمة وسط جيشيهما و تقابلا فى وفد من أربعين مقاتل وتمت المفاوضات بينهما
عرض مسيلمة على سجاح الزواج منها على أن يصيبها نصيب من حصاد اليمامة وهي منطقة كانت مشهورة بالخير الوفير الذي لم يتوفر مثله لباقي مناطق الجزيرة فوافقت سجاح على الزواج منه وبذلك انضمت قواتها إلى قوات مسيلمة .. الموقف تغير الآن .. مالك بن نويرة أصبح وحيداً فى مواجهة جيش خالد ..
فى ذلك الوقت خالد كان يخطط للقضاء على جيش مالك لأنه الأقرب ثم بعدها يتوجه للقضاء على مسيلمة الذى تجمع له أكبر جيش فى الجزيرة وقتها من تحالفه مع القبائل المحيطة به .. حين هم خالد بالتوجه إلى البُطاح منطقة مالك رفض الأنصار الذهاب معه و قالوا له :
( ما عهد إلينا خليفة رسول الله ﷺ بقتال مالك أو مسيلمة فقد أمرنا بالسيطرة على بُزاخة و هزيمة جيش طليحة ثم انتظار أوامره )
– فرد عليهم خالد فقال :
( إن يكن الخليفة عهد إليكم هذا فقد عهد إلى أن أقاتل المرتدين .. و أنا الأمير و إلى تنتهى الأخبار .. و حتى لو لم يأتنى كتاب ثم رأيت فرصة لو أخبرت الخليفة بها فاتتنى فلن أنتظر حتى أخبره )
– فأصر كل طرف على رأيه .. فقال لهم خالد بن الوليد :
( هذا مالك بن نويرة حيالنا .. كيف أتركه .. لو انتظرت تجمعت له القوات حتى يصعب قتاله أما لو قاتلته الآن فقتاله أسهل )
– فأصر الأنصار مرة أخرى على موقفهم .. فقال لهم خالد بن الوليد :
( إنى قاصدٌ إلى مالك بن نويرة و من معى من المهاجرين و التابعين بإحسان و لست أُكْرِهكُم )
– تحرك بعدها خالد و تجمع الأنصار يتشاورون حتى قال أحدهم :
( يا قوم .. هذا الجيش الذى تركناه لو انتصر فهو خير حُرمتم منه فى الدنيا و الآخرة و أذا أصابتهم مصيبة سيقول الناس أنتم من خذلتموهم و تركتوهم فهلموا نلحق بهم )
فى تلك الأثناء مالك كان أدرك أنه وحيداً و ليس له قوة لمواجهة خالد و أنه قادم إليه فقرر أن يستسلم و خشي ألا يستجاب لطلبه بعد ما فعله .. هو كان يعلم أنه ارتد و منع الزكاة و تحالف مع مدعية للنبوة و حارب معها .. هو كان يعلم مدى سوء موقفه .. قام بتجميع قومه و قال لهم :
( يا بنى يربوع .. إنا كنا قد عصينا أمرائنا إذ دَعونا إلى الدين و بَطّئنا الناس عنهم فلم نفلح و لم ننجح .. و إني قد نظرت فى هذا الأمر فوجدت أن هذا الأمر لا يسوسه الناس و إنما يُؤتَى بغير سياسة .. فإياكم و مناوئة قوم صُنع لهم .. فتفرقوا إلى دياركم و من أراد أن يرجع إلى الإسلام فليرجع )
( يقصد أنهم تأخروا فى الدخول للإسلام و أن هناك من يُدبر للمسلمين و أنها ليست أفعال بشر )
أراد مالك إظهار حسن نواياه فأمر بجمع الزكاة من أهل مدينته و أرسلها إلى خالد قبل دخوله المدينة و حين رآها خالد اندهش .. كيف بمالك الذي هو قبل يومين فقط كان يستعد ليحاربه يبعث له بالزكاة ..
فدخل المدينة متحفزاً يبحث عن أهلها و على رأسهم مالك .. بعد أن عسكر جيشه أرسل بعض فرسانه لتمشيط المنطقة الجبلية المحيطة طبقاً لقواعد الإشتباك وقتها ..
- القواعد وقتها كانت تنص على أن يؤذّن المسلمين فى تجمع المرتدين فإن ردوا الآذان بآذان فيُفهم أنهم قد عادوا إلى الإسلام مرة أخرى و يأمنوا على أنفسهم وأموالهم أما لو لم يردوا فحينها يتم الهجوم عليهم ..
مالك بن نويرة كان له منزلاً خارج المدينة و حين ذهب إليه فرسان المسلمين بقيادة ضِرار بن الأزور أذنوا فيه فلم يسمعوا رداً ما عدا أبو قتادة الصحابي الجليل الذي قال سمعت منهم آذاناً لكن باقى الصحابة أنكروا فقرروا الهجوم على المنزل و تم أسر مالك و أهله و تم اقتياده إلى خالد ..
من وجهة نظر خالد بن الوليد هذا رجلاً منع الزكاة و تحالف مع سجاح وكان يهم على قتال المسلمين و لم يرد الآذان كل تلك العوامل جعلته يتشدد فى التعامل معه و مالك كان زعيماً ويملك من الكبرياء ما جعله يرد ردوداً جافة على خالد – رضى الله عنه – وزاد الأمر سوءاً حين ذكر رسول الله ﷺ بألفاظ من نوعية ( صاحبكم ) حين قال له خالد :
– هل أسلمت ؟
– رد فقال : أنا آتى بالصلاة دون الزكاة
– قال خالد : أما علمت أن الصلاة و الزكاة معاً .. لا تقبل واحدة دون أخرى
– رد مالك : قد كان صاحبكم يقول ذلك
– أو ما تراه صاحباً لك .. و الله لقد هممت أن أضرب عنقك بهذه الكلمة ؟
فاشتد الكلام بينهما و رد مالك ردود استفزت خالد فقال له :
– إنى قاتلك
– فرد مالك : أو بذلك أمرك صاحبك ؟
هنا تأكد لخالد أنه لم يُسلم حقاً فما من مسلم يأتي بالصلاة دون الزكاة و يذكر رسول الله ﷺ بتلك الألفاظ فأمر ضِرار بن الأزور بقتلِه فقَتَله بالفعل ..
الخلاف بعد ذلك لم يكن على ردة مالك فهذا أمر مفروغ منه و لكن الخلاف كان على عودته للإسلام مرة أخرى .. خالد رأى بعينه أن مالك بن نويرة أظهر أفعالاً لا تتسق مع كونه مسلماً فقتله و فوق ذلك تزوج إمرأته ليلى .. أموراً مثل تلك دفعت مُتمم بن نويرة أخ مالك إلى الذهاب للمدينة ليشتكى خالداً للخليفة أبو بكر الصديق ..
انتشر الخبر و صارت أزمة كبيرة و سمع بها عمر بن الخطاب فقال لأبي بكر :
أَمَّرت رجلاً يقتُل المسلمين و يُحرِّق الناس أحياءاً .. إن فى سيف خالد رهقاً
رأى أبو بكر أن الأمر يحتاج لتحقيق فاستدعى خالد و قال لعمر :
ارفع لسانك عن خالد .. لم أكن لأشيم سيفاً سله الله على الكافرين بِشُبهَه
حينما وصل خالد إلى المدينة دخل المسجد و كان يرتدى ثياباً يعلوها بعض الصدأ من أثر المعركة و كان يرتدى عمامة يخترقها بعض سهام العدو و كانت الجنود تتركها تبركاً فى تلك الآيام فما أن رآه عمر حتى قام غاضباً و قال له :
رياءاً .. و قد قتلت إمرؤ من المسلمين و أخذت إمرأته .. و الله لأرجمنك و قام إليه و كسر الأسهم التى فى عمامته
فلم يرد خالد إحتراماً له و دخل إلى الخليفة أبو بكر الصديق فسأله :
– لماذا أسرته ؟
= قال : لم نسمع آذاناً
– لماذا قتلته ؟
= قال : لم يعلن إسلامه وما زال مصراً على رفض الدية
– كيف أخذت زوجته
= قال : أخذتها بعد عدتها
فأمره بالعودة إلى مهمته دون أن يعاقبه و لو كانت جريمة قتل أو زنى فما كان أبو بكر الصديق أو باقى الصحابة و على رأسهم عمر نفسه و هو أكثر معارضيه كانوا تركوه دون عقاب و حاشاهم رضوان الله عليهم أن يجاملوا خالد – رضى الله عنه – فى حد من حدود الله .. خالد إجتهد من وجهة نظره فإن أصاب فله أجران و إن أخطأ فله أجرٌ واحد ..
- – إلى هنا انتهت قصة خالد مع مالك بن نويرة ..
- – الآن يبدأ التجهيز لأهم معركة فى معارك الردة كلها ..
- – الآن يبدأ التجهيز لمسيلمة الكذاب ..
– و لكن .. تلك قصة أخرى