دين و دنيا

سيرة سيف الله المسلول خالد بن الوليد (رضي الله عنه) || الجزء السادس

ولا نزال مع سيرة سيف الله المسلول خالد بن الوليد وها نحن في العام التاسع بعد هجرة النبى ﷺ .. عام الوفود كما أُطلق عليه نظراً لكثرة الوفود التى أتت للدخول فى الإسلام ..

جاء وفد بنو حنيفة الذين يقطنون  منطقة اليمامة لمبايعة رسول الله ﷺ .. كان ضمن ذلك الوفد أحد سادة بنو حنيفة و الذي سيكون محور قصتنا اليوم .. كان ضمن ذلك الوفد مسيلمة بن حبيب ..

وصل الوفد إلى المدينة و ربطوا رحالهم خارج المدينة و سارعوا إلى لقاء رسول الله ﷺ .. كلهم ذهبوا إلا شخصاً واحداً لم يكن متحمساً للإسلام فبقى لحراسة الإبل ولم يدخل ..

ذلك الرجل كان مسيلمة بالطبع .. كان من عادة النبى ﷺ أنه كلما جاءه وفداً ليبايعه على الإسلام أن يكرمهم و يهاديهم بهدايا ليؤلف قلوبهم و يحببهم فى الإسلام فلما أعطاهم قالوا له :

قد خَلّفنا صاحباً لنا فى رحالنا ليحفظها

فرد النبى ﷺ و قال :

أما إنه ليس بِشَرّكُم مكاناً

أى أنه كان كريماً معكم بحراسته لرحالكم فلما رجع القوم دخل مسيلمة إلى المدينة وكان معه أحد رجال قبيلته فقال له ألا تبايع محمداً .. فقال :

أبايعه أن يجعل لى الأمر من بعده

و كان رسول الله خلفه فسمع ما قاله و كان بيده عودٌ من جريد فقال له :

يا مسيلمة .. و الله لو سألتني هذا العود ما أعطيتك إياه و ما أراك إلا الذي أُريت فى المنام

فلما سأله الصحابة ماذا رأيت فى المنام يا رسول الله قال :

رأيت فى يدي سواران من ذهب فكرهتهما فنفختهما فطارا

فقالوا .. ماذا أوَلّتُهما يا رسول الله قال :

كذابان يقسمهما الله

هؤلاء الكذابان كانا مدعيى النبوة على عهد رسول الله ..  الأسود العُنسى و  مسيلمة بن حبيب

بعد مبايعة الوفد لرسول الله ﷺ رجعوا إلى قبيلتهم ما عدا رجلاً واحداً أراد التفقه فى الدين إسمه نَهارٌ الرَجَّال بن عُنفُوة و بالفعل تفقه فى الدين و صار من حفظة القرآن و صارت سمعته تملأ الأفاق فى الجزيرة العربية و على الأخص فى قبيلته بنو حنيفة .. فى تلك الفترة وفي أحد الأيام مر رسول الله ﷺ على بعض الصحابة وكان بينهم أبو هريرة و نهار الرجال فقال :

إن فيكم لرَجُلاً ضَرسه فى النار أعظم من أُحد

تلك كانت علامة أن واحداً منهم سيكون مصيره إلى النار ..

عاد مسيلمة إلى قومه و بدأ يدّعى أنه نبىٌ مرسلٌ مع محمد فلم يؤمن به إلا القليل و لكنه كان سيداً فى قومه و ظن أن قومه سيمنعوا محمداً عنه فتجرأ فى نهاية العام العاشر من الهجرة على إرسال رسالة إلى رسول الله ﷺ قال فيها :

من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ..

إنى قد أُشرِكت فى الأمر معك .. فلنا نصف الأرض و لكم نصف الأرض أو تجعل لى الأمر من بعدك

فرد عليه رسول الله برسالة قال فيها :

من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب ..

السلام على من اتبع الهدى .. إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين

فى تلك المرحلة كان النبى ﷺ قد عزم على تأديب مسيلمة و لكن أخَّره تجهيز جيش أسامة بن زيد للسيطرة على القبائل المتحالفة مع الروم فقرر أن يبعث إليهم رجلاً ينذرهم و يذكر بنو حنيفة بالإسلام قبل أن تصير حرباً فاختار رجلاً منهم يتميز بحفظ القرءان و فقيهاً فى الدين أيضاً .. اختار رسول الله نهارٌ الرجال ..

رائج :   أم بريطانية تحكي كيف أثر محمد صلاح في حياة طفليها

لما وصل نهار إلى بنو حنيفة كان عُشرها فقط يتبع مسيلمة و قبل أن يُخبر الناس برسالة رسول الله آوى إليه مسيلمة و عرض عليه أن يكون وزيراً له إذا ما قال للناس أنه مرسلٌ مع محمد فوافق نهار و طمع فى المنصب خاصة أنه لم يكن صاحب سطوة فى قومه فخرج على الناس فسألوه عن قول محمد ﷺ فى مسيلمه قال :

لقد أُشرك مسيلمة فى الأمر مع محمد

بعد تلك المقولة ارتد نهار و ارتد معه نصف بنو حنيفة و كادت أن تصير حرباً بين الطرفين و لكن وصلت أخبار وفاة رسول الله إليهم و معها ارتد النصف الآخر و لم يبق على الإسلام إلا قلة تركوهم و غادروا القبيلة ..

الآن قويت شوكة مسيلمة و تجمع له جيشاً من قبيلته و من القبائل المتحالفة معه وعلى رأسها تَغلُب قبيلة سجاح التي قد كان تزوجها ليأمن شرها ..

وصل عدد الجيش وقتها ما لا يقل عن أربعين ألف مقاتل و بعض التقديرات وصلت به إلى مئة ألف .. مسيلمة الآن صار أكبر خطر على الإسلام ..

مسيلمة كان يجهز جيشه لغزو الجزيرة العربية حتى يصل إلى المدينة فأراد أبو بكر الصديق أن يُجبره على التزام مكانه فأرسل إلى عكرمة بن أبى جهل يأمره بالذهاب إلى حدود اليمامة و يُعسكر قربها و لا يهاجم جيش مسيلمة

وأرسل جيشاً آخر ليدعمه هو جيش شُرحبيل بن حَسَنَة فلما رأى مسيلمة ذلك الجيش و إن كان صغيراً قرر عدم المخاطرة بالخروج خاصة و أن جيش خالد كان يتحرك تجاهه من الشمال ..

عكرمة عصى أمر الخليفة و قرر الهجوم وحده على مسيلمة فانهزم .. تبعه جيش شُرحبيل الذى عصى أوامر الخليفة أيضاً وقرر الهجوم منفرداً فانهزم هو الأخر ..

رائج :   من سلسلة (روايات مصرية للجيب) || الرجل الذي راى الغد

هزائم مثل تلك رفعت الروح المعنوية لجيش مسيلمة و زادت قناعاتهم بنبوته وهو ما صعب من مهمة خالد الذي كان قد وصل إلى حدود اليمامة ذلك الوقت و توجب عليه رفع الروح المعنوية لجنوده قبل أن يلاقي مسيلمة .. مهمة تكاد تكون مستحيلة .. لكن منذ متى و المستحيل يمثل عائقاً أمام خالد ..

أرض المعركة كانت سهل عَقرُباء حوالى 25 ميل خارج اليمامة يفصل بن الجيشين وادى حنيفة و خلف جيش مسيلمة بحوالى 2 ميل كانت هناك حديقة كبيرة لها أسوار عالية محصنة من كل الإتجاهات و لها بوابة واحدة فقط .. سميت تلك الحديقة تاريخياً يإسم  حديقة الموت ..

جيش مسيلمة فى أربعين ألفاً أو يزيد و جيش المسلمين فى عشرة آلاف أو يزيد قليلاً ..

خالد يهاجم ومسيلمة يدافع

اختار مسيلمة أن يدافع و اختار خالد الهجوم و بدأ القتال فوجد المسلمون صعوبة شديدة فى إختراق جيش المرتدين .. عددهم و تكتلهم ومعنوياتهم المرتفعة أعطوهم أفضلية نسبية ..

أيضاً أخطأ خالد حينما قسم الجيش إلى كتائب مختلفة الأنساب و لم يعتمد على القبائل فصار أفراد الكتيبة لا يعرفون بعضهم البعض ما أثر عليهم .. بعد أن فشلوا فى اختراق صفوف العدو فوجئوا بجيش المرتدين يهجم عليهم فارتبكوا و تراجعوا حتى وصلوا إلى ما وراء معسكرهم ..

الآن بدأت تظهر بوادر الهزيمة .. لكن لحظة .. من المعروف تاريخياً أن خالد لم يُهزم فى أي معركة خاضها .. فكيف استطاع أن ينتصر فى تلك المعركة ؟

بتراجعهم خلف معسكرهم انشغل المرتدين بجمع الغنائم وهو ما أعطى الفرصة لخالد بإعادة تنظيم جيشه فقسم الكتائب مرة أخرى و لكن على أساس قبلى و أمر الدعاة و حفظة القرآن بتذكير الجنود بالجنة فزاد حماس المسلمين واستطاع أن يرد جيش المرتدين إلى ما بعد معسكرهم مرة ثانية ..

أدرك خالد أن التفوق المعنوي لازال فى صالح المرتدين وكان يجب أن يفعل شيئاً يعيد به التوازن إلى جيشه مرة أخرى فخرج إلى جيش الكفار و نادى فيهم :

أنا بن الوليد .. هل من مبارز 

خرج له واحد من أبطال المرتدين فقتله .. و خرج ثانى فقتله .. و خرج ثالث فقتله .. الآن استعاد المسلمون اتزانهم النفسي مرة أخرى و معه استطاعوا قهر المرتدين وأصابوا منهم عدداً كبيراً ما أجبر مسيلمة الذي رأى هجوم المسلمين يقترب منه على الهروب فلما رأى الكفار مسيلمة يهرب أدركوا أنهم مهزومون فصرخ رجل منهم :

يا بنى حنيفة .. الحديقة .. الحديقة .. أدخلوا الحديقة و أنا أحميكم

استطاع أكثر من عشرة آلاف أن يدخلوا الحديقة أما الباقي فكانوا بين مقتول أو هارب فأمر خالد ربع جيشه بملاحقة الهاربين وقتلهم و وصل بباقي الجيش إلى الحديقة فإذا هى محاطة بسور عال و مؤمنة تماماً و لا يوجد لها غير باب واحد .. هنا احتار خالد فى طريقة الدخول و هم بأن يضرب حصاراً عليها لولا وجود بطلاً من أبطال المسلمين اسمه البراء بن مالك ..

رائج :   الأسطورة “الزبير بن العوام” .. أشرف الناس نسبا

لما رأى البراء ما أصاب المسلمين من حيرة وقف على درع فى الأرض و قال لمن حوله أقسمت عليكم أن تقذفونى فى الحديقة فرفعوه على أسنة الرماح و قذفوا به إلى الداخل فلما رأوه المرتدين أصابتهم صدمة لأنهم لم يتوقعوا حدوث ذلك فقتل منهم البراء ما استطاع حتى اقترب من الباب فتجمعوا له و حاولوا أن يقتلوه لكنه قاوم قدر استطاعته بالدرع الذي يحمله حتى وصل إلى الباب وفتحه فاندفع المسلمون إلى الداخل ..

لما بحثوا عن البراء وجدوه و قد أصابه أكثر من ثمانون جرحاً لكنه كان ما زال حياً و ظل خالد قائماً على علاجه لمدة شهر كامل ..

فى خضم هجوم المسلمين قاوم مسيلمة و اضطر أن يقاتل بنفسه .. فى تلك الأثناء كان هناك رجلاً خرج مجاهداً ليكفر عن ذنب قديم كان قد أذنبه .. ذلك الرجل هو وحشى بن حرب قاتل حمزة بن عبد المطلب ..

ظل وحشى يحمل ذنب قتله لحمزة فخرج لا يريد شيئاً سوى قتل مسيلمة عسى أن يكون كفارة عما اقترف و لما سنحت له الفرصة رفع رمحه و صوب على مسيلمة فأصابه فى مقتل وكان قريباً منه الصحابي الجليل أبو دُجانه فلما رآه أصيب رفع سيفه و أجهز عليه ..

انتهت معركة اليمامة بمقتل مسيلمة  و قد استشهد من المسلمين حوالى ألف ومائتين من المقاتلين فى حين قُتل فى صفوف المرتدين أكثر من واحد و عشرون ألفاً .. معركة اليمامة كانت هى الأصعب والأقوى فى معارك الردة .. لم يبقى إلا أن يتسلم المسلمون أمر اليمامة رسمياً ثم يبدأ بعدها فصلاً جديداً ..

  • بعد اليمامة دانت الجزيرة العربية كلها للمسلمين مرة أخرى ..
  • بعد اليمامة بدأت صفحة جديدة من جهاد خالد ..
  • ماذا لو قيل لك أنك ستهاجم أكبر قوة على الأرض وقتها ..
  • ماذا لو كان جيشك منهك و جزءٌ منه قد استشهد بالفعل ..
  • ماذا لو كان هجومك التالى على أراضى الفُرس ..
  • كما قلنا .. حتى لو أن هذا مستحيلاً .. خالد لم يكن ليهتم ..

– و لكن .. تلك قصة أخرى ..

مقالات ذات صلة