دين و دنيا

سيرة سيف الله المسلول خالد بن الوليد (رضي الله عنه) || الجزء العاشر

إنتهت معركة أُلَيس وانتصر فيها المسلمون بعد تكبيد جيش الفرس وحلفائهم من العرب خسائر لا حصر لها و هذا يعنى شيئاً واحداً .. أن  الحيرة الآن أصبحت أقرب من أى وقت مضى .. المهمة الرئيسية لخالد فى العراق قاربت على الإنتهاء ..

أقرب المدن لأُلَيس كانت مدينة  أمغيشيا .. مدينة غنية .. كبيرة .. تكاد تنافس الحيرة فى عدد سكانها وتطورها .. خالد توجه إليها متوقعاً مقاومة شديدة لمكانة المدينة فإذا به يجدها خالية تماماً من سكانها .. لم يجد فيها و لو فرد واحد يقاوم المسلمين ..

قيل أنهم خرجوا منها خشية أن يفعل بهم خالد ما فعل بالفرس فى معركة أُليس .. مدينة كاملة بطعامها و شرابها و حتى مجوهراتها .. قيل أن من شدة خوف أهلها خشوا أن يأخذوا شيئاً منها فيتبعهم المسلمون ليستعيدوه .. بعد ما سمعوه عن خالد و ما فعله فى نهر الدم صار الأمر أكثر وضوحاً .. هؤلاء قوماً لا يجب معاداتهم ..

سيطر المسلمون على أمغيشيا بلا أى مقاومة و أكملو المسير إلى الحيرة فإذا الوضع مشابه تقريباً لما رأوه سابقاً .. المدينة أبوابها مفتوحة .. ليس بها أى قوات .. لا يوجد بالمدينة رجال و سكانها من النساء و الأطفال .. ما هذا ؟ عاصمة الفرس فى غرب العراق تسقط بتلك السهولة ..

خشى خالد أن يكون فى الأمر خدعة .. بسؤالهم للأهالي اتضحت الحقيقة .. حاكم الحيرة الفارسى رأى أنه لا جدوى من المقاومة فتنحى عن الحكم وعاد إلى العاصمة قطسيفون و ترك المدينة للعرب ليدافعوا عنها فاجتمع رجال الحيرة وأجمعوا على أن عدد القوات فى صالح المسلمين لأن أغلب رجال الحيرة وما حولها قد قتلوا فى المعارك السابقة بالإضافة إلى أن المسلمين أنفسهم قد أبادوا جيوشاً تعد أضعاف أعدادهم فكيف بالمتبقين فى الحيرة أن يقاوموهم ..

الإستسلام كان خياراً بالطبع لكنهم إنتهوا إلى إستخدام أخر أسلحتهم .. اختاروا اللجوء إلى أربع قلاع كانت على أطراف المدينة فيواجهون المسلمون و هم محتمين فيها .. سلموا الحيرة لكنهم لم يستسلموا فعلياً .. الحيرة كانت تهم خالد بالطبع لكن لم يكن من عادة العرب أن يتركوا وراءهم أى أعداء بمعنى أنهم لن يتحركوا إلا بعد تأكدهم من تسوية أمر القلاع .. أرسل إليهم رسولاً و الخيارات كما هى لم تتغير ..

( إما الإسلام .. و إما الجزية .. و إما القتال )

أخطأ قادتهم بالتأكيد حين اختاروا القتال ..

قسم خالد بن الوليد جيشه إلى 4 أقسام و وجهها إلى القلاع و ضرب حصاراً عليها وأمرهم بالهجوم .. عرب الحيرة متحصنين بالقلاع و اصابتهم كانت صعبة جداً خاصة و أن جيش المسلمين تسليحه خفيف ..

رائج :   الأسطورة “الزبير بن العوام” .. أشرف الناس نسبا

إضافة لذلك فعرب الحيرة كانوا يملكون منجنيق داخل أحد القلاع كلما أراد المسلمين الهجوم عليهم كانوا يقذفونهم بكرات الطين .. رأى خالد أن تدمير المنجنيق سيكون عامل الحسم فى المعركة فجمع أمهر الرماة من الأربع جيوش و اقترب بهم لأقرب نقطة ممكنة و عند أمره انطلقت مئات السهام تجاه المنجنيق فقتلوا كل الجنود القائمين عليه ..

و كل ما اقترب منه أحد منهم قتله الرماه .. أقوى سلاح لديهم تم تعطيله فاختلت موازين القوى و بدأوا يفكروا فى وضعهم .. إلى متى سنظل نقاوم .. إما سيقتلونا جوعاً و عطشاً و إما ستصيبنا سهامهم .. فطلبوا من خالد أن يجتمعوا فيما بينهم فسمح لهم .. توصلوا إلى أن الإستسلام أولى فاستسلموا .. بإستسلامهم أصبحت الحيرة فى يد المسلمين .. خالد أنجز مهمته الرئيسية بنجاح ..

إستكمل خالد مسيرته بعد الحيرة للسيطرة على باقى المناطق التى لم تخضع للإسلام .. لم يتبقى فى الجزء الغربى لنهر الفرات إلا بعض القبائل المتفرقة و بعض الحاميات الفارسية التي كانت متواجدة بينها ..

موت إمبراطور الفرس اربكهم و انشغلوا بترتيب أمور الحكم ما يعنى أن الحاميات الفارسية لا تنتظر مدداً من قطسيفون وعليهم الاعتماد على العرب .. كانت أكبر الحاميات فى منطقة عين التمر وكان حاكمها الفارسي إسمه  مهران بن بهرام .. مهران استدعى عُقَة بن أبى عُقَة زعيم عين التمر و طلب منه المساندة فجمع له عدداً كبيراً من المقاتلين قدر بالآلاف ..

عُقَة كان مغروراً جداً و متغطرساً لأبعد حد فطلب من مهران أن يخلى له الساحة و لا يقاتل المسلمين معه فقال :

إن العرب أعلم بقتال العرب .. فدعنا و خالداً

إمعاناً فى الغرور دخل عُقَة الصحراء لملاقاة خالد و لم ينتظره ليأتيه .. عقة كان قد أذاع بين الناس أنه لا يخشى خالد و لا جيشه فعزم خالد على تأديبه و تلقينه درساً لن ينساه المتبقين من جنوده ..

هو بالفعل كان قد إنتهى من إعداد خطته .. وصلت أخبار تحركات عُقَة إلى المسلمين فأمر خالد باصطفاف الجيش و إنتظاره .. لما تلاقى الجيشان أمر خالد قلب جيشه بعدم التحرك ثم أمر جناحى الجيش بالقيام ببعض المناوشات لإشغال جناحى جيش عقة ..

استمر ثبات قلب المسلمين لدقائق لا يتحركون على الرغم من بدأهم للهجوم .. لما تأخر الهجوم تحرك عقة إلى مقدمة الجيش ليستطلع الأمر .. هذا ما كان ينتظره خالد بالضبط .. إن هى إلا ثوانى حتى تحرك مجموعة صغيرة من فرسان المسلمين على رأسهم خالد ينطلقون كالسهام تجاه قلب جيش عقة ..

لم يكن يتوقع أحداً أن يهجم المسلمون بذلك العدد الهزيل أمام جيشاً يقدر بالآلاف و فى وسط تلك الصدمة يهجم خالداً عليهم فيمسك عقة من ملابسه فيرفعه على فرسه و يعود إلى جيش المسلمين مرة أخرى هو و من معه .. لما رأى جيش عقة ما حدث لزعيمهم لاذوا جميعاً بالفرار و انتهت المعركة دون أن يقع شهيداً واحداً فى صفوف المسلمين ..

رائج :   لماذا اختار الله الغراب ليكون المعلم الأوّل للإنسان؟

أثناء معارك خالد فى العراق كان الخليفة أبو بكر الصديق قد أمر بتجهيز 4 جيوش لفتح الشام و حدد لهم مسارهم .. فى ذلك الوقت كان هرقل قد سمع عن انتصارات المسلمين على الفرس و أدرك يقيناً أن هؤلاء القوم قد طرأ عليهم تغييراً جذرياً منذ أن اعتنقوا الإسلام ..

لم يعودوا هؤلاء الهمج الذين يقتلون بعضهم البعض .. فأراد أن يأمن جانبهم و يعرض عليهم نصف خراج الشام على أن يكون له النصف الآخر و أخذ رأى وزراءه لكنهم رفضوا و على الرغم من قناعته الشخصية بالصلح مع المسلمين إلا أنه نزل على رأيهم بعد أن أقنعوه أن لديهم خطة مناسبة لهزيمة المسلمين .. هم بالطبع كان لديهم خطة .. و كانت خطة جيدة بالمناسبة ..

علم قادة هرقل أن المسلمين قد قسموا أنفسهم إلى 4 جيوش إجمالى عددهم تقريباً واحد و عشرون ألف مقاتل فى المقابل كان الجيش الرومانى الأول حوالى سبعين ألفاً و كان متمركزاً فى فلسطين فى حين كان الجيش الثانى قرابة المائتي ألف مقاتل و كان مكانه أنطاكية .. وضع قادة الروم خطتهم على شقين ..

أولاً تجميع أكبر عدد متاح من جنودهم فى جيش واحد و بالتالى ضمانهم لحسم معاركهم .. ثانياً الإنسحاب أمام المسلمين لجعلهم يتوغلوا أكثر فى أراضى الروم و كلما توغلوا كلما تباعدت صفوفهم و قلت إمكانية دعم بعضهم بعضاً فيسهل على جيش الروم القضاء عليهم منفردين ..

ذلك الإنسحاب أثار شك قادة المسلمين .. نحن نكسب الأرض فعلاً لكننا لم نقابل جيشاً كبيراً للروم حتى الآن .. كل ما قابلناه هى جيوش صغيرة فأين جيش الروم الذى يقدر بعشرات الآلاف .. راسلوا بعضهم البعض و توصلوا إلى حل قد يكون فيه نجاتهم ..

رأوا أن يتراجعوا إلى الخلف مرة أخرى و يتجمعوا عند منطقة بُصرَى و يبعثوا إلى خليفة المسلمين أبى بكر لاطلاعه بالمستجدات و يكون له الأمر .. أراد قادة الروم أن يشتتوا المسلمين فلا يتجمعوا ضدهم حتى إن قادتهم قالوا :

و الله لنشغلن أبا بكر عن أن يورد الخيول إلى أرضنا

إنتشرت الكلمة فوصلت إلى قادة المسلمين الذين أوصلوها بدورهم إلى أبى بكر فما كان منه إلا أن قال جملة شهيرة فيها من الثناء على خالد – رضى الله عنه – ما فيها .. قال :

و الله لأَشفِينَّ وساوسهم بخالد

وسط إنتصارات خالد فى العراق جائته رسالة الخليفة أبو بكر الصديق و كان فى جزء منها :

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله عتيق بن أبى قحافة إلى خالد بن الوليد

سلام عليك

أما بعد

إذا جاءك كتابى هذا فدع العراق و خلف فيه أهله الذين قدمت عليهم و امض متخففاً فى أهل القوة من أصحابك الذين قدموا العراق معك من اليمامة حتى تأتى الشام فتلقى أبا عبيدة بن الجراح و من معه من المسلمين

فإذا التقيتم فأنت أمير الجماعة و السلام عليك

أبو بكر الصديق – رضى الله عنه – كان من عادته أنه يحدد السياسة العامة ثم يترك الحرية لكل قائد فى إتخاذ ما يراه مناسباً لتحقيق الهدف النهائى الذى حدده .. أبو بكر أكد ضمن باقى رسالته على شيئين ..

رائج :   نبيذ وفحم .. || من كتابات د : أحمد خالد توفيق

أولاً أن يقسم الجيش بين خالد و بين المُثنى بن حارثة الشيبانى و ثانياً أكد على سرعة التحرك لأن جيوش المسلمين و إن كانت تجمعت إلا أنها مقارنة بجيوش الروم لازالت أقل كثيراً ..

الروم كانوا يجهزون جيوشاً يتخطى تعدادها المائتان و أربعون ألفاً و المسلمون لا يتخطى عددهم الثلاثون ألفاً إذا أضفنا إليهم جيش خالد .. السرعة كانت أكثر النقاط التى ركز عليها أبى بكر – رضى الله عنه – و خالد سينفذ ذلك الأمر بلا أدنى شك .. سينفذه حرفياً ..

فى ذلك الوقت كان أمام خالد طريقان يمكنه السير من خلالهما .. أولهما و أيسرهما هو الطريق الجنوبى الذى يمر عبر دومة الجندل .. طريق آمن و يعرفه العرب جيداً و فيه ماء وفير و لا يوجد به أى تهديدات لكنه بالمقابل كان أبعد الطرق المتاحة ..

ثانى الطرق كان الطريق الشمالى على طول نهر الفرات إلى شمال شرق الشام .. ذلك الطريق كان ملائماً جداً أيضاً ففيه ماء وفير و كان أيضاً معروفاً للعرب لكن بالمقابل كان الطريق مليء بالحاميات الرومانية التى ستؤخر وصولهم إلى بُصرَى ..

هذان الطريقان و إن كانا الأنسب إلا أنهم اشتركا فى شيء يرفضه خالد ألا وهو الوصول متأخراً على أبو عبيدة بن الجراح .. هذا يمثل خطورة شديدة على المسلمين فى الشام و ما كان خالد ليقبل بذلك .. كان عليه أن يجد حلاً شرط أن يكون سريعاً .. حلاً يجعله يصل إلى بُصرَى بأسرع ما يمكن .. خالد سينجح فى الوصول إلى هناك فى ثمان أيام و فى بعض الروايات قيل خمسة أيام فقط ..

  • خالد اتخذ قراراً لو لم يصيب لكان فيه هلاك الجيش ..
  • خالد كان أجرأ رجل بين المسلمين وقتها ..
  • خالد صنع معجرة بلا أدنى شك ..
  • كيف فعل هذا ؟!!

– تلك قصة أخرى كما تعلمون ..

مقالات ذات صلة