إنتهت معركة ذات السلاسل و كانت أول مواجهة بين جيش المسلمين و الفُرس .. مخطىء من يظن أن الفرس سيتركوا الأمر يمر مرور الكرام .. ليعلمن العرب أى خطأ قد ارتكبوا .. خالد بن الوليد كان يعلم أن تلك هى البداية فقط .. القادم أصعب و لا شك ..
على صعيد الغنائم كانت تلك أكبر غنائم قد رآها المسلمون يوماً .. قيل أن نصيب كل مقاتل حوالى 1000 درهم .. دروع و أسلحة لم يروا لها مثيلاً من قبل .. أيضاً غنم المسلمون يومها فيلاً و كان الفرس يستخدمون الأفيال كأسلحة ..
بإختصار الغنائم أوضحت الصورة أكثر لخالد .. هزمنا جيشاً يقدر بأكثر من أربعين ألفاً و لازلنا على أطراف أرض الفرس .. نحن لا نتحدث عن حروب العرب السابقة .. نحن نتحدث عن إمبراطورية .. إمبراطورية كتلك يلزم لها تكتيكات عسكرية جديدة .. جديدة حتى علينا نحن المسلمين .. كان هذا لسان حال خالد وقتها ..
قبل أن يُهزم هرمز كان إمبراطور الفرس أردشير و قائد جيوشه رستم قد أمروا جيشاً إضافياً للتحرك لدعم جيش هرمز .. أرسلوه إحتياطاً لا قناعة أن المسلمين سيستطيعون المقاومة .. هم كانوا متأكدين من النصر ..
عينوا على ذلك الجيش قارن بن قريانس أحد قادة الفرس العظام .. وصل خبر هزيمة هرمز إلى قارن و هو فى طريقه إلى الأُبُلة فخشى التقدم فيقابله المسلمون فى الصحراء و فضل أن يختار هو مكان المعركة ..
إختار منطقة الثَنْى وعسكر فيها و جعل ظهر جيشه إلى النهر حتى لا يستطيع خالد الإلتفاف عليه و زيادة فى التأمين أرسى سفنه فى النهر لإستخدامها فى حالة اضطراره للتراجع .. قارن أعد العدة لاستقبال خالد و هذا صعب المهمة أكثر على المسلمين ..
مع تخييم الفرس فى تلك المنطقة انضم له فلول جيش هرمز الذين فروا من المعركة .. وانضم له باقى قوات الفرس فى الأبلة بالإضافة للقبائل العربية المتحالفة مع الفرس فتجمع لقارن جيشاً يعادل ضعف جيش هرمز ..
هنا رأى خالد عدم الذهاب للأبلة لأن دخولها سيوجب عليه ترتيب أمورها الإدارية و حمايتها و بالتالي خسارة جزء من جيشه فرأى أنه يجب الخلاص من مقاومة الفرس أولاً و عليه توجه مباشرة إلى منطقة الثنى ..
تقابل الجيشان و نظموا صفوفهم وكان قادة الميمنة و الميسرة هم نفس الأسماء فى المعركة الأولى قباذ و أنوشَجّان اللذان فرا مع الفارين من جيش هرمز ..
قارن وضع نفسه فى قلب جيشه و خالد بن الوليد رضى الله عنه كان فى قلب جيش المسلمين و كما جرت العادة يخرج بعض الأبطال من الطرفين للمبارزة قبل القتال الفعلى فخرج من جيش الفرس قارن نفسه مع قباذ و أنوشجان ..
غرورهم و محاولتهم إثبات أن ما حدث مع هرمز هو صدفة و سوء حظ لا أكثر جعلهم يُخرجوا قادة الجيش الثلاث مرة واحدة لمبارزة أبطال المسلمين .. تلك النقطة تحديداً كانت السبب فى ما سيحدث لاحقاً ..
المسلمين كانت قلوبهم متعلقة بالله و أن النصر من الممكن أن يتحقق بأى أشخاص طالما كان الجهاد فى سبيل الله و لو سقط أحداً من أبطال المسلمين فإن ذلك لا يؤثر فى سير المعركة بنسبة كبيرة ..
على العكس جنود الفرس يولون أهمية كبرى لقادتهم و قتلهم فى المبارزات يعنى هزيمة نفسية كبيرة لأن قلوبهم متعلقة بهم كأفراد .. ومن رحمة الله بالمسلمين أنه سلط غرور قادة الفرس على أنفسهم ..
بعد نزول قادة الفرس تحرك لنزالهم ثلاثة من أبطال المسلمين هم قادة الميمنة و الميسرة عدى بن حاتم الطائى و عاصم بن عمرو التميمى و نزل معهم بطلاً ثالثاً طلب من خالد – رضى الله عنه – إعطائه الفرصة لمنازلة قارن هو معقل بن الأعشى فسمح له خالد ..
ما هى إلا دقائق حتى صار قادة الفرس جثثاً ملقاة على الأرض .. هزة نفسية كبيرة أصابت جيش الفرس و بتدابير الله لم يكن فى ذلك الجيش قادة احتياطيين على نفس كفاءة من قتلوا و ما هى إلا ساعات قليلة حتى أصاب الفرس الفوضى و روح الانهزام فهربوا إلى السفن بعد أن قتل منهم قرابة الثلاثين ألف جندي ..
لولا وجود السفن على ضفة النهر لكان الجيش أُبيد بالكامل لأن إختيار موقعهم لم يجعل لهم مفراً للهروب سوى النهر ..
وصلت الأخبار إلى أردشير و القائد الأعلى للجيش رستم بهزيمة جيش قارن فثارت ثورتهما و قرر أردشير فوراً تشكيل جيشين لهزيمة المسلمين أولهما بقيادة أندرزغار وكان الجيش الأقرب فى المسافة لملاقاة خالد و الجيش الثاني بقيادة بَهمَن جادويه و ذلك الجيش كان الأكبر والأعلى تسليحاً نظراً لأن الفرس لتجهيزه جمعوا المقاتلين من الأصقاع القريبة من العراق ..
ذلك ليس حباً فى بهمن و لكن لأن جيش المسلمين قد إقترب من قطسيفون أو كما يطلق علبها العرب المدائن عاصمة بلاد فارس و المكان الذى يدير منه كسرى دفة شؤون إمبراطوريته ..
جيش أندرزغار لم يكن صغيراً فهو كان على الأقل 3 أضعاف جيش المسلمين لكن خطة الفرس كانت هى تجميع الجيشين و الهجوم على المسلمين مرة واحدة بعدداً يفوق المسلمين بأضعاف فلا يستطيعون مقاومتهم ..
لو تجمع الجيشان فعددهم لن يقل بأى حال من الأحوال عن 150000 مقاتل .. هذا يمثل عشر أضعاف جيش المسلمين على أقل تقدير .. كان لابد من سرعة التصرف .. حسن التقدير و التوقيت مطلوب من خالد .. و هو ما كان بالفعل ..
فى مواقف مثل تلك تظهر عبقرية خالد بن الوليد الفذة .. فى جيش المسلمين كان موجوداً من يملك الحنكة العسكرية والتكتيك الجيد لكن خالد كان مستوى آخر من التكتيك و حسن تقدير الأمور خاصة أنها أموراً تمر عليه لأول مرة ولا يوجد بجواره من مر بتلك الظروف مسبقاً فيستشيره ..
العبقرية الفذة لم تكن متوفرة سوى فى خالد .. عيون خالد أخبروه بتحركات الفرس فاستشف منها خطتهم و تأكد أنه لو التحق جيش بهمن بجيش أندرزغار فى منطقة الوَلَجَة لصار المسلمين فى خطر محدق ..
حينها قرر أن يواجه جيش أندرزغار أولاً و بسرعة .. و ليس مواجهته فحسب بل أراد إبادته بالكامل لأنه رأى أنه كلما هزم جيشاً تتجمع فلوله مرة أخرى لمساندة جيشاً جديداً و قوات خالد شبه ثابتة بل و تتناقص لأن الأراضي التي يفتحها كانت أراض يسكنها نصارى العرب و بالتالى لن يستطيع طلب مشاركتهم فى الحرب ..
من هنا جائته فكرة الإبادة .. لكن كيف تُبيد جيشاً حجمه ثلاثة أضعاف حجم جيشك .. تلك هى عبقرية حالد الفذة التى أتحدث عنها ..
وصل خالد إلى جنوب شرق الوَلَجَة و عسكر فيها استعداداً للمعركة فى اليوم التالى .. خالد قضى الليل فى دراسة أرض المعركة و بدأ يضع الرتوش النهائية لها ..
أرض المعركة – و التى اختارها الفرس بالمناسبة – كانت عبارة عن سهل عرضه حوالى 2 ميل يقع بين تلتين ارتفاعهما 30 قدم .. المسلمون فى جهة و خلفهم صحراء و جيش الفرس فى الناحية الأخرى و خلفهم نهر يسمى نهر الخسف أحد روافد نهر الفرات استخدمه الفرس لحمايتهم ومنع الماء عن المسلمين
ويبدو أن غرورهم و توقعهم بوصول جيش بَهمَن قبل خالد جعلهم لا يأتوا بسفنهم إلى تلك النقطة .. أخطأوا أيضاً عندما تركوا مسافة بينهم و بين النهر تقدر بكيلو متر واحد .. كان هذا هو كل ما يحتاجه خالد ..
اصطف الجيشان .. جيش المسلمين عدده أقل كثيراً .. منهكين لأنهم وصلوا فى الليلة السابقة .. تسليحهم خفيف مقارنة بالفرس .. نظر إليهم أندرزغار و استعجب .. هذا جيشاً يكاد يُقارب العشرة آلاف مقاتل .. فرسانهم قليلة .. أغلب الجيش من المشاة ..
هل هذا الجيش هو من انتصر على هرمز و قارن .. لابد و أن من سبقوه كانوا أغبياء لدرجة أنهم لم يستطيعوا إدارة المعركة .. أيها المسلمون .. جاءكم أندرزغار فاستعدوا للموت ..
بدأت المعركة بهجوم المسلمين و بدأت الملاحم تسطر بيد جنود الإسلام .. مواقف بطولية تقشعر لها الأبدان .. أندرزغار كان داهية أيضاً ..
أعاد مقدمة الجيش التى تعبت من القتال إلى الخلف و بدلهم بجنود أخرى غير متعبة .. قام بتبديل مقدمة جيشه أكثر من مرة .. فى المقابل استُهلكت قوى المسلمين و بدأ الإنهاك يظهر عليهم ..
لمح أندرزغار ذلك فأمر جيشه بالهجوم فبدأ جيش المسلمين بالتراجع .. يتراجعون و خالد أيضاً يتراجع لكن اللافت للنظر أن التراجع كان منظماً .. هل تفكرون فيما أفكر فيه ؟
عاد جيش المسلمين إلى الخلف مسافة ليست بالقليلة و عند نقطة محددة رفع خالد رايته وأشار إشارة متفق عليها فإذا بكتيبتين من فرسان المسلمين كان قد أمرهم بالاختباء خلف التلال المحيطة بأرض المعركة ينطلقون كالسهام و يحاصرون جيش الفرس من الخلف ..
فوجىء الفرس بما حدث و وجدوا أنفسهم محاصرين من الناحيتين فدبت الفوضى فى صفوفهم و صار القتل يأتيهم من كل مكان ..
لم يجد الفرس مكاناً يذهبوا إليه ففي الشمال و الجنوب جيش المسلمين و من الشرق والغرب التلتين اللاتى أشرنا إليها و لم يبقى إلا مخرج وحيد يلقى بالهاربين إلى الصحراء .. أغلب الجيش قتل و لم يستطع الهرب إلا بضع آلاف منهم ..
أندرزغار نفسه حاول الهروب ناحية النهر و لكن لم يستطع فهرب تجاه الصحراء .. بعد أيام وجدوه هو و مجموعة من جنوده و قد ماتوا عطشاً ..
هزيمة نكراء أخرى لحقت بجيش الفرس .. ما فعله خالد بهم يعد بمقاييس ذلك الزمان إعجاز لا يمكن وصفه بالكلمات حتى تلك التى تقرأونها الآن لا توفى خالد و باقى أبطال المسلمين و لو جزء بسيط من حقهم ..
- فترة قصيرة و تحدث مواجهة أخرى ..
- خالد سيلاقى الفرس عند نهر الدم ..
- ثم بعدها ستكون الحيرة على الأبواب ..
- قلب العرب النابض فى غرب الفرات سيصير للمسلمين ..
– و لكن .. تلك قصة أخرى ..