حتى تكون الصورة لديك واضحة .. الخليفة أبو بكر الصديق لم يأمر خالد بن الوليد بإكتساح الإمبراطورية الفارسية .. أمره فقط بالسيطرة على كامل المنطقة التى تقع غرب نهر الفرات و التى يقطنها قبائل العرب ..
أمره بالوصول إلى الحيرة عاصمة العرب فى العراق .. درة من درر التاج الفارسي ستقع فى أيدي المسلمين .. كان لابد من المقاومة .. و المقاومة تلك المرة لن تكون عادية .. صدقونى ستكون أقسى من كل ما مضى ..
جيش الفرس الرابع بقيادة بَهمَن جاذويه و الذى كان قد تحرك من العاصمة قطسيفون وصلته أنباء إبادة جيش أندرزغار بشكل شبه كامل ..
لم ينج من ذلك الجيش إلا بضع آلاف أغلبهم من العرب النصارى من قبيلة بنى بكر لأنهم هربوا إلى الصحراء و هم أدرى الناس بدروبها فاستطاعوا النجاة .. أما الفرس فلم يبقى منهم أحداً تقريباً ..
لم يتبقى إلا القليل حتى يصل خالد إلى الحيرة .. لابد من اعتراض طريقه و بسرعة .. هنا اتخذ بهمن قراره بالتوجه إلى منطقة أُلَيس على بعد عشرة أميال شمال الولجة ..
العرب الذين هربوا من الوَلَجَة تجمعوا هناك أيضاً و بدأت أخبار إنتصارات خالد تصل إلى كل قبائل العرب فى العراق .. أيها الناس .. دافعوا عن أنسابكم و مدنكم .. و الله لا تتركوا مدنكم إلى المسلمين دون قتال ..
الأمر بالنسبة إلى العرب كان مصيرى لأن الحيرة كانت بالنسبة إليهم هى كل شيء .. عزهم و كبريائهم و ثرواتهم .. جمعوا المقاتلين من أغلب القبائل المحيطة بالحيرة ..
على العكس فالفرس نظروا إلى الحيرة على أنها مدينة مهمة بالطبع لكنها فى النهاية تخص العرب أكثر لذا فالقضية بالنسبة إليهم كانت ثانوية .. العرب اعتبروا الأمر مسألة حياة أو موت ..
خالد بن الوليد كان يعي أن المعركة القادمة على الأغلب ستكون الأعنف على الإطلاق .. لكن مستوى عنفها تخطى حتى توقعات خالد .. سَتُراق دماءاً كثيرة بلا شك هذه المرة ..
لظروف مرض إمبراطور الفرس الشديد عاد بَهمَن قائد الفرس إلى العاصمة قطسيفون و ترك فى قيادة الجيش نائبه جابان الذي أمر باستمرار تقدم الجيش للوصول إلى أُلَيس قبل جيش المسلمين .. فى المقابل أمر خالد جنوده بالراحة ..
هذا الجيش هزم الفرس فى ثلاث معارك متتالية خلال أقل من شهرين .. إن لم يرتاح الجنود فلن يستطيعوا الإستمرار .. تلك الراحة أعطت الفرصة لجيش الفرس للوصول إلى أليس قبل خالد بساعات .. ساعات جعلت خالد مجبراً على أن يلاقى جيشين مرة واحدة .. المسلمون الآن فى ورطة .. خالد يجب عليه إيجاد حل و إلا فهى النهاية ..
الورطة الأكبر كانت فى نوعية جيوش المشركين .. الفرس جيش ضخم و مدرع و مسلح بشكل كامل .. العرب المتحالفين معه جيش خفيف يشبه جيش المسلمين إلى حد كبير .. لن يستطيع خالد تنفيذ تكتيكه المعتاد مع الفرس و هو اللعب بورقة خفة الحركة ..
قوة إيمان المسلمين تقابلها روح التحدي فى نفوس العرب و استبسالهم فى الدفاع عن الحيرة مصدر فخرهم و عزهم .. لماذا أشرح الظروف المحيطة بهذا الشكل .. لأن ما سيحدث لاحقاً من خالد سيكون رد فعل على ما سيلاقيه المسلمون منهم ..
ما أن وصل خالد حتى رأى الفرس و قد جهزوا أنفسهم لطعام الغذاء .. أرادوا بهذا أن يظهروا استهانتهم بالمسلمين وأنهم لا يعبأوا بهم و سيكملوا غذائهم على الرغم من وصولهم ..
خالد و على الرغم من وصوله تواً إلا أنه أمر بالهجوم فاصطف جيش المسلمين فنظم جابان جيشه بسرعة فوضع الفرس فى الوسط و وضع العرب فى الميمنة و الميسرة .. أرض المعركة إختارها الفرس بحكم وصولهم أولاً فاختاروا مكاناً يتلافوا به كل أخطاء المعارك السابقة فجعلوا أنفسهم بين نهرين نهر الفرات على يسارهم و نهر الخسف على يمينهم بتلك الطريقة لن يجد خالد أى طريقة للإلتفاف عليهم .. مهمة تعتبر مستحيلة بلا أدنى شك ..
نحن نتحدث عن أكثر من مئة و خمسين ألفاً من المشركين أمام ثمانية عشر ألفاً من المسلمين لأن خالد كان قد إستدعى كل قواته التى تركها فى المدن التي فتحها و لم يترك فيها إلا أقل القليل فزاد عدد جيشه نسبياً .. بدأ الهجوم من المسلمين لكنهم لاقوا دفاعاً عظيماً من العرب والفرس على حد سواء ..
كانوا يقاتلون بإستماتة دفاعاً عن مدينتهم و أيضاً تفاؤلاً منهم بوصول المدد الذى وعدهم به قائدهم بَهمَن قبل عودته إلى العاصمة .. ذلك المدد لن يأتي لأن الإمبراطور قد مات و انشغلوا فى العاصمة بترتيب أمور الحكم من بعده .. على كل حال هم كانوا يتوقعون النصر بالعدد الموجود ..
بدأ التعب يظهر على المسلمين .. إنهاك المعركة و إرهاق السفر و الجوع أيضاً .. طالت فترة المعركة و جرب خالد كل خدعه وتكتيكاته التي يعرفها و بالرغم من ذلك لم يتحقق النصر بشكل كامل .. بالطبع الفرس وحلفائهم قُتل منهم كثير .. لكن لازال الموجودين أكثر و لازال ثباتهم شديد .. هنا أيقن خالد أن النصر لن يأتي إلا بالدعاء فاستغل فترة من فترات الهدوء و عاد إلى مؤخرة جيشه و رفع يده إلى الله ودعاه قائلاً :
اللهم إن لك علىَّ إن منحتنا أكتافهم ألا أستبقى منهم أحداً قدرنا عليه حتى أُجرى نهرهم بدمائهم
دعاء يحمل نذراً بأن يقتل خالد كل من يقع منهم تحت يديه حتى تجرى دمائهم مجرى الماء فى النهر .. خالد لم يدعو بهذا الدعاء إلا من شدة ما لاقى من المشركين من مقاومة .. تلك المعركة كانت أصعب معركة مرت على خالد فى قتاله ضد الفرس ..
بعد الدعاء بدأت الكفة تميل لصالح المسلمين .. بدأ الضغط يزيد على الفرس و القتلى فى صفوفهم يتزايدون .. بمقاييس العدد لن يتخيل عقلك أبداً إمكانية انتصار المسلمين و لكن البطولات التى قام بها هؤلاء الأبطال لا يمكن وصفها بسهولة و اقرب وصف قد يقرب لك الصورة أن هؤلاء الأبطال كانوا يدخلون المعارك بحثاً عن الشهادة .. هؤلاء كانوا قوماً يحبون الموت كما يحب أعدائهم الحياة كما وصفهم خالد رضي الله عنه فى رسالته لهرمز .. بدأ التراجع فى صفوف الفرس .. ثم بدأ الانسحاب ..
لكن الطريق مغلق من ورائهم بإلتقاء النهرين كما قلنا .. بدأ الذعر يدب فيهم و الهروب العشوائى كان هو السمة الغالبة .. يخلعون دروعهم و يقفزون فى المياه .. كثير قتلوا .. و كثير هربوا .. أمر خالد بأسر كل من تطاله أيدي المسلمين فأسروا عشرات الآلاف .. حان الوقت لأن يَبَر خالد بيمينه .. حان الوقت لأن يجري النهر بدمائهم ..
كان هناك قناة شبه جافة متفرعة من نهر الخسف تجرى فيها المياه ببطء .. تلك القناة كانت مسرحاً لتنفيذ خالد حكم الإعدام على المشركين .. فأمر جنوده بضرب أعناقهم فى القناة حتى يجرى دمهم مع النهر و يبر بقسمه ..
قيل أن الجنود ضربوا أعناق الكافرين ليوم و ليلة من كثرتهم .. أربع و عشرين ساعة كاملة يقوم خالد و جنوده بضرب رقاب الفرس و حلفاؤهم .. لما كثر الدم فى القناة لم يجرى لضعف جريان المياه فى القناة فأشار عليه القعقاع بن عمرو التميمى بأن يزيح مانعاً كان يمنع الماء عن الجريان فيجري الدم مع المياه و يبر خالد حينها بقسمه .. فعل خالد ما أشار به القعقاع فجرت الدماء كجريان الماء فى النهر .. بسبب تلك الواقعة سميت تلك المعركة تاريخياً بإسم نهر الدم ..
الرواية السابقة شكك البعض بها نظراً لدمويتها الشديدة و لأنه من غير المعتاد هذا الإسراف فى القتل مع الأسرى و من يشكك فيها عنده من الأسباب المقنعة ما يؤيد بها كلامه .. على سبيل المثال :
- الرواية جاءت عن طريق سيف بن عمر التميمى و هو متروك الحديث و اتهم بالوضع
- لا يوجد سند لهذه القصة إلا عن طريقه و قد ذكرها الطبرى فى تاريخه نسبة إليه
عدد المسلمين فى المعركة كان 18000 مقاتل و منهم من قتل بالتأكيد فكيف بالمتبقين منهم أن يسيطروا على جيش المتبقى فيه يزيد عن 70000 مقاتل
مثل ما كان للرواية رافضين فهناك من كان مصدقاً فيها و عندهم أسبابهم أيضاً :
– الإسلام نهى عن قتل الأسير إلا أن يكون الأسير مجرم حرب له ماضٍ مع المسلمين و فى حالة الفرس و حلفاؤهم من عرب العراق فقد كانوا لهم ماضى مع المسلمين فى الثلاث معارك السابقة لأنهم كلما هربوا أو فدوا أنفسهم كانوا ينضمون إلى الفرس مرة أخرى لقتال المسلمين و بذلك يحل قتلهم درءاً لخطرهم على المسلمين لاحقاً
– بإفتراض إستطاعة أسر ذلك العدد فالسيطرة على ذلك العدد لفترة طويلة يعد خطراً شديداً على المسلمين و كان لابد من قتلهم حتى لا يغريهم عددهم على إعادة الهجوم على المسلمين
– أن قتل ذلك العدد ساهم فى إستسلام جيوش الكفار لاحقاً بأعداد كبيرة لأنهم إختبروا المسلمين و علموا أنهم لو قاتلوهم فقد يعاملوهم بالمثل و هو ما كان فى صالح المسلمين من ناحية الفتوحات و الغنائم
أخيراً و بغض النظر عن صحة الرواية من عدمها فقد نختلف فى عدد الأسرى أو طريقة قتلهم إلى آخر تلك الأمور أما الذي لا نختلف عليه هو استحقاق عرب العراق للقتل بعد موالاتهم للفرس و خذلانهم للعرب من بنى جلدتهم حتى لو كانوا على غير دينهم رغم أن المسلمين لم يعتدوا على ذمى واحد من القرى التى فتحوها و أمّنوا أهلها على أنفسهم و أموالهم و ممتلكاتهم و لم يتعرض لهم أى مسلم بأى إساءة إلا أن عرب الحيرة و ما حولها أصروا على قتال المسلمين فكان لابد من عقاب رادع يفت فى عضدهم و يظهر لهم قوة المسلمين فيتجنبوهم لاحقاً ..
وصلت الأخبار إلى المدينة فقام الخليفة أبو بكر الصديق مسروراً يخطب فى الناس قائلاً :
يا معشر قريش .. عدا أسدكم – يعنى خالداً – على أسدهم – يعنى كسرى – فغلبه على لحمه – أى على فريسته – عَقمْنّ النساء أن يلدن مثل خالد
كانت تلك أقوى إشادة بخالد بعد قول رسول الله ﷺ التى وصف فيها خالد بسيف من سيوف الله ..
- الحيرة الآن على مرمى حجر من خالد ..
- خطوة واحدة و يكمل مهمته التى ذهب إلى العراق من أجلها ..
- لا تزال رحلة خالد مع الجهاد مستمرة فالشام ينتظر خالداً بلهفة ..
- خالد بعد الحيرة سيتوجه لملاقاة ثانى أكبر إمبراطورية فى العالم ..
- تجهزوا أيها الروم فالله قد سل سيفه عليكم ..
– و لكن .. تلك قصة أخرى ..