قضايا وأراءكتابات د : أحمد خالد توفيقوعي

فراسة .. || من كتابات د : أحمد خالد توفيق

في الكتاب الممتع (يوميات نائب في الأرياف) لتوفيق الحكيم، يحكي لنا المؤلف عن ذكرياته عندما كان نائباً في بلدة ريفية.

كان من ضمن أساليب التحقيق العرض القانوني؛ حيث يوقفون المتهم وسط مجموعة من الأشخاص العاديين، ويمر عليهم الضحية ليعرف من الذي آذاه ويخرجه من الصف.

يقول توفيق الحكيم إنه أجرى عرضاً قانونياً ذات مرة بمساعدة وكيل نيابة شاب متوتر، فأوقف متهماً بقتل زوج امرأة مسنة وسط مجموعة من الأشخاص العاديين، ثم أتى بالمرأة التي أكل الرمد الصديدي عينيها، وطلب منها أن تتعرف على من قتل زوجها.

رآها تمشي بعينين لا تريان وسط الواقفين غير متأكدة، وسمعها تهمس لواحد
منهم: 
ـ «مش اسمك ادلعدي حسين ؟»

فهي كانت تعرف أن اسم القاتل هو حسين غالباً.

قال لها النائب توفيق الحكيم في غيظ: 
ـ «كل الواقفين هنا اسمهم حسين» .
ـ «قطيعة !» 
ثم راحت تتفحص الوجوه حتى مرت بالصف كله ثم انهالت بقبضة قاتلة على صدر وكيل النيابة الشاب، وأمسكت بخناقه وهي تصيح: 
ـ «غريمي !»

رائج :   علامات الخطر ! ..رسالة من بريد الجمعة

احتاج الأمر إلى عدة رجال ليبعدوها عن وكيل النيابة المذعور المتهم بالقتل.

هكذا توصل توفيق الحكيم منذ زمن إلى أن الفراسة فن لا يجيده الناس، وأن العروض القانونية تضييع وقت.

في تسعينيات القرن الماضي وقعت جريمة اغتيال لشخصية سياسية مهمة وفر القتلة على دراجة نارية. قام رجال الشرطة بجمع المعلومات عن الجناة من شهود العيان، ثم قام رسام الشرطة بتكوين صورة من الأوصاف ونشرت في الصحف. كان المتهمون شقراً طوال الشعور زرق العيون، كأنهم فرقة روك سويدية. واستنتجت الصحف أن هذا يعني أن الجناة من دولة أجنبية. بعد عام تم القبض على الفاعلين فوجدناهم صعايدة جداً. سمر البشرة جداً. مجعدي الشعر جداً. لهم شوارب كثة، ولا علاقة لهم ولو بعيدة بالوصف الذي أدلى به الشهود لرسام
الشرطة.

الناس لا تستعمل عيونها جيداً. هذا مؤكد. يعرفون الشخص طالما هو أمامهم فإذا انصرف عجزوا عن وصفه أو تذكر كيف يبدو.
مر عليّ أحد معارفي في المكتب ولم يجدني فانصرف ولم يخبرهم باسمه. 
هذه القصة حقيقية على فكرة.
لما عدت قال لي زميل مثقف فيلسوف يجلس جوار مكتبي إن شخصاً سأل علي وانصرف لما لم يجدني .
ـ «وكيف يبدو ؟» 

رائج :   البداية السيئة ‏! .. رسالة من بريد الجمعة

قال مفكراً: 
ـ « يبدو كمن يحمل هماً ثقيلاً لكنه يتظاهر بالمرح والقوة» 
ـ «أفهم .. لكن كيف يبدو ؟»
ـ «يبدو كأنه يتظاهر بالثقة لكنه متآكل من الداخل، ويشك في قدراته بشدة» 
هنا فاض بي فصحت: 
ـ «هل هو بدين أم نحيل ؟ » 
فكر قليلاً ثم قال:
ـ «بصراحة لا أذكر» 
ـ «هل له شارب أم لا ؟ هل يضع عوينات ؟ هل هو ملتح ؟ هل عيناه ملونتان ؟» 
قال في تأمل فلسفي: 
ـ «لا أذكر هذا كله .. لكني أعرف يقيناً أنه يطمح في شيء لا يستطيع الوصول له.. وهو معقد لكنه يتظاهر بالمرح» 
هكذا ضاقت الدائرة فعلاً.
كل ما علي هو تذكر أي واحد من أصدقائي يطمح في شيء لا يستطيع الوصول له. وهو معقد لكنه يتظاهر بالمرح والثقة مع أنه متآكل من الداخل، ويشك في قدراته بشدة.

رائج :   الكلام المسموم .. رسالة من بريد الجمعة

دعك من أنه يحمل همًا ثقيلاً لكنه يتظاهر بالقوة.

يمكن أن ينطبق هذا الوصف على كل أصدقائي بل ينطبق علي أنا نفسي !.
لم أكن بحاجة إلى تحليل نفسي كالذي قدمه لي. كان يكفيني أن أعرف هل هذا الصديق المجهول بشارب أم لا.

على كل حال عندما قابلت صديقي فيما بعد، قال لي إنه سأل عني موظفاً ملتحياً أصلع الرأس. بالطبع كان موظف المكتب الفيلسوف المذكور حليق الوجه ينحدر شعره الأسود الناعم على عينيه .
على أن الوصف المحايد أكثر رحمة ورفقاً بأعصابك من الأوصاف المؤكدة.
قال لي البواب ذات مرة إن رجلاً نحيلاً أبيض البشرة له عينان ملونتان سأل عني.. بما أعرفه عن فراسة الناس صار بوسعي بسهولة أن أعرف صفات هذا الذي سأل :
أسمر كالباذنجان.
بدين جداً .
له عين تالفة والأخرى سوداء.
إن الحياة معقدة بما يكفي. لهذا لا يمكن أن نزيدها تعقيداً بالتعامل مع الأشخاص ذوي الفراسة هؤلاء.. وإن كنت أتمنى أن يكون هناك الكثير منهم عندما أرتكب أول جريمة في حياتي.

مقالات ذات صلة