أجمل رسائل بريد الجمعة

في المنفى ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

أعرف أنك لا تحب مثيلاتي لكني رغم ذلك أريد أن أعرف رأيك فى مشكلتي .. فأنا يا سيدي مهندسة في الرابعة والثلاثين من عمري .. نشأت في أسرة طيبة بمدينة من مدن الوجه البحري .. وحصلت على شهادتي الدراسية من جامعة عين شمس بالقاهرة وعدت للإقامة في مدينتي انتظارًا للعمل .. ثم تقدمت للعمل في مكتب مهندس استشاري معروف في المدينة .. فعملت معه وأولاني رعايته ودربني وعلمني الكثير من أسرار العمل ..

فوجدت نفسي بعد أقل من ستة شهور غارقة في حبه بغير أن أعبر له عن مشاعري وساعدتني ظروفي على الاستغراق في حبه رغم أنه متزوج فقد كان أول رجل أتعامل معه عن قرب في حياتي .. حيث لم أتعامل قبله مع أي شاب طوال دراستي بالكلية ، وقد جذبني برقته وخبرته بالحياة .. وبشخصيته القوية .. وكنت أظن أن سرِّي سيظل خافيًا عليه إلى أن فاجأني ذات يوم بأنه يعرف أنني أحبه .. وبأنه يحبني ويعرض عليَّ الزواج بشرط عدم المساس بزوجته وبيته ..

وأقسم لك أني ما حاولت أن أخطفه من زوجته .. بل لقد كنت على وشك أن أترك العمل بمكتبه حتى أهيئ نفسي لأن أنسى هذا الحلم المستحيل .. لكنه فاجأني بهتك سرِّي 
وبرغبته في أن يتزوجني لأنه ليس مستريحًا في حياته الزوجية مع زوجته .. وأقنعني بأن زواجي منه لن يؤثر على حياته الأخرى بل ربما أنقذها من الفشل نهائيًا لأنه سيجد سعادته عندي فيستطيع الصبر على تعاسته مع زوجته .. ويحمي أبناءه من الضياع .

وترددت قليلًا في قبول عرضه .. لكني اعترفت لنفسي بأني أريده وأني سأشقى إذا لم أتزوجه فوافقت وتقدم لأسرتي يخطبني منها فعارض أبي وأمي وقرر أبي أن أتوقف عن العمل معه إلى أن تأتيني فرصة العمل بالقطاع العام أو الحكومة واستجبت لرغبة أبي .. واعتكفت في البيت لعدة أيام .. وتحدثت مع أمي طويلاً .. وأقنعتها بأني لم أرغب فيخطف رئيسي من زوجته لكنه أول رجل دخل حياتي .. ولن يكون سهلاً عليَّ أن أنساه .. 
وعاجلاً أو آجلاً سوف أعمل بالحكومة أو القطاع العام وسيجمعني معه مجال العمل في مناسبات مختلفة .. لهذا فمن الأوفق أن ألتقي به وأنا زوجته على سنة الله ورسوله .. واقتنعت أمي وبدأت محاولاتها لإقناع أبي ، وكان “رجل” أحلامي من ناحية أخرى قد وسَّط كثيرين لديه .. فوافق وتم الزواج .. وأثث لي شقة جميلة في أحد أطراف المدينة ..

وتوقفت عن العمل معه في مكتبه وسعى زوجي حتى نجح في تعييني في فرع هيئة عامة بنفس المدينة وغرقنا معًا في بحر السعادة .. وأنجبت طفلة بعد عام من زواجي سعد بها زوجي كثيرًا رغم أنه له من زوجته الأولى ولدًا في سن المراهقة وفتاة تصغره بعام ، وفي قمة هذه السعادة فوجئت بزوجي يسعى لنقلي من المدينة التي نعيش فيها إلى فرع الهيئة بمدينة الإسكندرية . وحين ناقشته في ذلك اعترف لي بأن زوجته الأولى تضغط عليه بشدة لكي يطلقني وأنه يرفض الاستجابة لها ويتمسك بي لهذا فمن الأوفق أن أنتقل إلى مدينة أخرى حتى يخف ضغطها عليه ،

واستسلمت لرغبته وانتقلت بطفلتي للإقامة في سكن الهيئة بضواحي مدينة الإسكندرية لمدة عامين كان يزورني خلالها أيامًا كل شهر ثم انتهى المشروع هناك فعدت إلى مدينتي بالوجه البحري ومضت أسابيع فإذا بزوجي الحبيب يعدّ لي مفاجأة جديدة هي أنه نقلني لفرع الهيئة بالقاهرة ويريدني أن أستفيد من وجودي بالعاصمة في الحصول على دبلوم من كلية الهندسة .. وأنه قد قدم لي طلبًا للكلية ونجح بطرقه الخاصة في قبول طلبي ولابد من سفري للقاهرة للإقامة في بيت للمغتربات مع طفلتي الصغيرة حتى أحصل على الدبلوم .. وسوف يزورني كل أسبوع .. فكدت أرفض هذه المرة خاصة وأنه لم يستشرني في شيء من ذلك .

لكني قررت فجأة أن أقبل التحدي .. وانتقلت إلى القاهرة فعلا وأقمت في غرفة غير مريحة ببيت للمغتربات .. وأصبحت أترك طفلتي كل صباح في دار للحضانة وأذهب للعمل ثم يجيئني كل أسبوعين أو ثلاثة .. فنقيم معًا في فندق صغير ليلتين ، وحصلت على الدبلوم ولم يعد هناك مبرر لوجودي في القاهرة بعيدة عن أسرتي وشقتي فطلبت نقلي لمدينتي وعدت إليها ..

فلم تمضِ شهور حتى فوجئت بزوجي العزيز وقد قدَّم لي طلبًا آخر للعمل بدولة عربية .. وراح يقنعني بضرورة السفر لكي أدخر بعض النقود لطفلتي مع أنه ثري ولا يحتاج إلى نقود .. وبكيت واتهمته بأنه لا يريد سوى إبعادي عن أسرتي ومدينتي بسبب زوجته .. وقلت له أني لم أطلب الزواج منه .. ولم أسع لأستأثر به .. ورضيت بوضع الزوجة الثانية لأني أحبه .. فلماذا هذا التشريد .. وأين حقوقي وحقوق ابنته عليه ..

فراح يقنعني بكلامه المعسول بأنه لا يريد سوى مصلحتي ومصلحة ابنته وأنه يحبني .. إلى آخره .. فسلمت أمري لله ووافقته على كل ما طلب ونفذت الإجراءات والاختبارات المطلوبة ودعوت الله في صلاتي كل يوم أن ترفض جهة العمل طلبي لكن تأتي الريح بما لا تشتهي السفن .. فقد قبلوا طلبي بكل أسف .. وسافرت مع طفلتي وأمضيت في تلك الدولة عامًا ذقت خلاله الأمرَّين من الكفيل الذي يأكل حقوقي بلا حياء وشعرت بذل وهوان لم أشعر بهما طوال حياتي فأنهيت عقدي قبل موعده وتنازلت للكفيل عن مبلغ كبير من مستحقاتي لكي أنجو بنفسي ..

وعدت إلى بلدي وبيتي .. وكان أول ما طلبته من زوجي هو ألا أسافر مرة أخرى مهما كانت الظروف خاصة وأننا لسنا في حاجة إلى شيء .. وافقني زوجي على ذلك .. واستراح قلبي وعشت شهورًا في هدوء وسعادة .. ثم بدأ القلق يساورني حين لاحظت فجأة أنه يهتم بقراءة إعلانات الوظائف في الصحف ويراسل جهات مختلفة في الدول العربية فنبهته إلى أني لن أغادر مدينتي وبيتي مرة أخرى .. فلم يعلّق وبعد أسابيع فوجئت به وقد أوجد لي عملاً آخر في دولة أخرى وبدأ يقنعني بقبوله .. بحجة أنها ستكون آخر مرة .. وأنها فرصة لتحقيق كل الأحلام فبكيت ..

وتوسلت إليه ألا يجبرني على السفر .. وطلبت منه الطلاق إذا كان عاجزًا عن مقاومة ضغط زوجته عليه لإبعادي .. لكنه رفض أن يطلقني وأكّد لي أنه لا يجد سعادته إلا معي .. فلما رأيته مصرًا بهذا الشكل الواضح على إبعادي اضطررت للموافقة ليس عن رغبة في السفر أو في جمع المال وإنما حفاظًا على كرامتي من أن أعيش مع رجل يحاول بشتى الطرق أن يبعدني عنه ، وأنهيت الإجراءات وأنا حزينة وسافرت منذ ستة شهور وأنا في قمة التعاسة ومازلت أقيم هناك إلى الآن لا أعرف لماذا جئت ولا لماذا أعمل وأعيش مغتربة وحيدة بعيدًا عن أسرتي وزوجي وأهلي ، لقد بقي عام ونصف العام من عقدي مع الجهة التي أعمل بها ..

ولست أظن بأني سوف أستطيع استكمالها لكني أسأل نفسي كلما اشتد ضيقي .. وإذا عدت فإلى أين يا ترى ستكون “الترحيلة” القادمة التي يخبئها لي زوجي الحبيب وأسألك يا سيدي .. أليس للزوجة الثانية حقوق على زوجها كحقوق الزوجة الأولى ؟ .. إنني أعرف من قراءاتي لردودك أنك لا تحب الزوجة الثانية .. لكن هب أنه قد حدث وانتهى الأمر وأصبحت زوجة ثانية هل يجردني ذلك من حقوقي الإنسانية على زوجي ؟

أوليس من حقي أن أحسّ بالراحة والأمان في كنف زوجي كما تفعل زوجته الأولى .. وهل من العدل أن أظل شريدة ومغتربة بلا هدف خاصة وأني لا أسعى لجمع النقود ولا أطمع إلا في حياة بسيطة معقولة في حين يستمتع هو في مصر مع زوجته الأولى ولا يفكر إلا في راحتها هي فقط .. وهل يجوز له أن يجرح كرامتي هكذا ويبعدني ليس فقط عن مدينتي وإنما عن مصر كلها .. إنني أحترق حينما أتذكر أنني تزوجته منذ 8 سنوات فلم أهنأ بالحياة في بيتي خلالها إلا لأقل من عامين .. فهل هذا عدل يا سيدي ؟ إنني أرجوك أن تنسى كراهيتك للزوجة الثانية وأن تجيبني بأمانة عن هذه الأسئلة ؟ وشكرًا لك ..

رائج :   أحزان المساء .. رسالة من بريد الجمعة

ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

لم تعد القضية .. قضية كراهية أو استحباب فلقد حدث ما حدث وقُضي الأمر ، وما دمتِ قد أصبحت زوجته ، فلك مثل ما لزوجته الأولى من الحقوق وأبسطها أن تعيشي في كنفه وفي رعايته بغير أن تفصل بينكما بحار ومحيطات ، وعلى زوجك أن يعدل بينكما في نفسه وماله ووقته ..

فإن لم يفعل ومال في ميزان عدالته إلى إحداكما على حساب الأخرى “جاء يوم القيامة وشقه مائل” كما جاء في الحديث الشريف ، أما أن يتحايل زوجك لإبعادك عن مدينتك وأهلك وبلدك بهذه الطريقة المؤسفة 4 مرات خلال 8 سنوات فأمر لا يقره شرع ولا دين ، ومع إشفاقي عليكِ مما تعانين فإني لا أعفيك من اللوم ليس لأنك قبلت وضع الزوجة الثانية فقد فات أوان اللوم في ذلك وإنما لأنك قبلت أوضاعًا لا تليق بك ولم يكن لك أن تقبلي بها مهما حدث إذ ما معنى أن يشرِّدكِ زوجك بين المدن والدول بغير حاجة أو ضرورة تبرر ذلك ، وما معنى أن يشحنك إلى دولة عربية لتسافري إليها وحيدة بدونه وتعاني فيها ما عانيتِ ، وهو الثري الذي لا يحتاج إلى مال .

الحق أنكِ مغلوبة على أمرك معه إلى حد مذهل .. ولست أفهم أن يصل ضعفك العاطفي معه إلى هذا الحد الذي تفقدين معه حتى قربك منه .. وهو غاية كل محب ناهيك عن مسألة الكرامة واحترام آدمية المحب نفسه ، فتماسكي قليلاً يا سيدتي – فإني أخشى أن تكوني مغلوبة معه ليس فقط بمشاعرك تجاهه وإنما أيضًا بما يسمى في علم النفس بنزعة جبر التكرار ، وهي حالة يكون فيها المرء رافضًا لما يفعل لكنه يجد نفسه يكرره بنفس الطريقة وبغض النظر عن النتائج التي يعلم مسبقًا أنه سوف يعاني منها وبهذه النزعة يفسر العلماء حالات الأخطاء الشخصية المتكررة بنفس الطريقة رغم سوء العواقب .. فأنت في كل مرة تكرهين السفر والاغتراب عن بيتك وأهلك لكنك لا تبدين إلا مقاومة واهية سرعان ما تنهار ثم تستجيبين لقرارات النفي والإبعاد التي يتخذها زوجك بأعصاب باردة 

.. مع أنه لا شيء يرغمك على قبولها .. ولا حاجة فعلية لك بها اللهم إلا خوفك المبالغ فيه من أن تفقدي زوجك إذا تمسكت بالرفض فإذا سألتني المشورة قلت لك بلا تردد : عودي يا سيدتي إلى بلدك ووظيفتك وقَري في بيتك واطلبي من زوجك أن يواجه نفسه ويرى إن كان يستطيع أن يواجه زوجته الأولى بوجودك معه في نفس المدينة أم لا .. فإن كان عاجزًا عن ذلك فليعترف به وليطلق سراحك .

أما إذا كان قادرًا عليه بشيء من التضحيات من جانبه فليفعل وليتحمل من أجل سعادتك بعض ما تحملت أنتِ حرصًا عليه وأملاً فيه فإذا حاول بعد هدنة قصيرة أن يدبر لك منفى جديدًا فتشبثي بالأرض التي تقفين فوقها .. واحتمي بأسرتك واطلبي الإنفصال وتمسكي به إلى أن يكف عن تدبيره .. أو يسرحك بإحسان .. ولا تقدمي أي تنازل جديد بل احفظي لنفسك قدرها يا سيدتي بعد أن أهنتها طويلاً وآن الأوان لأن تنصفيها من ضعفك تجاه زوجك ، فمن لا يكرم نفسه لا يكرمه الآخرون ومن يعتد التفريط في حقوقه يعتاد البعض منه هذا التفريط ويعتبرونه حقًا لهم عليه !

أما آخر ما أقوله لك في هذا المجال فهو ما قاله الإمام علي بن أبي طالب منذ 14 قرنًا : إذا وضعت أحدًا فوق قدره فتوقع منه أن يضعك دون قدرك !
ولا أزيد عن ذلك كلمة أخرى .. وشكرًا

مقالات ذات صلة