أجمل رسائل بريد الجمعة

قبل البداية ‏!! .. رسالة من بريد الجمعة

من أرشيف بريد الأهرام للكاتب عبد الوهاب مطاوع (رحمه الله)

أرجو أن يتسع صدرك لما سوف أرويه لك وأطلب منك المشورة فيه فأنا فتاة في السابعة والعشرين من العمر.. وأواجه مشكلة لابد لكي تعرف جذورها أن أروي لك القصة من البداية .. أو علي الأصح من قبل البداية وقبل أن أجيء إلي الحياة,

فلقد تزوجت أمي وهي في التاسعة عشرة من عمرها من شاب من أصل ريفي كان يعمل بمدينتنا, وسعدت أمي بزواجها منه بالرغم من صغر سنها.. غير أن سعادتها به لم تطل كثيرا فلقد مضي عامان من الزواج بغير أن تنجب وراح أبي ينغص عليها حياتها ويحملها مسئولية ذلك, ثم أذن الله لها بعد ذلك بالحمل وتوقعت هي أن تنتهي متاعبها بالحمل والولادة لكن الأقدار خيبت ظنها, فلقد وضعت حملها فإذا به أنثي, وأبي يريد لنفسه ولدا يحمل اسمه ويخلد ذكره في الدنيا, كما قال لها ومن ثم فإنه لم يفرح بالمولودة الجديدة,

وازداد إساءة لأمي وتنغيصا لحياتها, وبعد عامين آخرين جئت أنا للحياة فكنت ـعلي حد قول أبي لأمي وقتهاـ المصيبة الثانية التي ابتلي بها بعد مصيبته الأولي, وكثرت مشاجراته مع أمي ومعايرته لها بعدم إنجاب الولد وتجهمت الحياة في وجه أمي.. لكنها لم تيأس ـبالرغم من ذلكـ من تكرار المحاولة علي أمل أن تحقق لزوجها أمله.. وتستقر حياتها معه بلا أكدار وحملت مرة ثالثة.. ووضعت حملها بعد عام ونصف العام من مولدي, فإذا به بنتة ثالثة.. فكان ذلك هو نهاية القصة بالنسبة لأبي.. وما إن علم بنوع المولود الجديد حتي ترك أمي في المستشفي وحيدة وأرسل إليها, وهي مازالت في ضعف الولادة, بورقة الطلاق..

فبكت حتي جف دمعها كما روت لنا.. وخرجت من المستشفي إلي بيت أهلها تحمل رضيعتها علي ذراعيها.. ولم نجد نحن من يرعانا بعد ذلك سوي أخوالي وأهل أمي.. وبعد فترة ليست طويلة راح أخوالي يضغطون علي أمي للزواج مرة أخري لأنها مازالت صغيرة السن, وقبلت أمي تحت هذا الضغط بالزواج من قريب لها.. واقترنت به بالفعل وانتقلنا للحياة معها ومعه فلم تمض بضعة شهور حتي كانت قد حملت للمرة الرابعة, ووضعت حملها فإذا به ـ ياسبحان الله ـ ولدان توءم ! بدلا من ولد واحد ..

وسعدت أمي بهذين الولدين كثيرا واختلط مرحها بهما بالأسي علي ما لقيته في حياتها السابقة من ظلم أبي لها واتهامه لها بعدم إنجاب الذكور, ومعاقبته لها علي ذلك بالطلاق, ومضت الحياة بنا وتقدمنا في مراحل العمر, وكلما روت لنا أمي شيئا جديدا عما لاقته من أبي خلال زواجها الأول, ازداد كرهنا له, خاصة أنا, حتي لقد تمنيت ذات يوم لو استطعت أن أغير اسمي في كل أوراقي الرسمية لكيلا أحمل اسمه..

وبالرغم من عطف زوج أمي علينا ورعايته الأمينة لنا إلا أن ذلك لم يعوضنا أبدا عن ذلك الشيء الجوهري الذي فقدناه ونحن صغار, حين فقدنا الأب وافتقدنا وجوده في حياتنا ونهوضه بمسئوليته عنا, ومضت بنا الأيام وتقدم لأختي الكبري شاب ناجح وتزوجته. وجاء الدور علي كما يقولون فرفضت الزواج نهائيا, لأنني قد كرهت الرجال في شخص أبي ولم أعد أتصور أن يضمني بيت واحد مع أحدهم..

ورحت أرفض الخطاب واحدا بعد الآخر دون أسباب واضحة, حتي اضطرت أمي بعد أن يئست مني إلي تزويج أختي الصغري التي كانت تؤجل زواجها إلي ما بعد زواجي, ورحت أنا أبحث عن سبب لما فعله بنا أبي فلم أجد له عذرا من الناحية الدينية ولا من الناحية العلمية, فلقد قرأت للإمام الراحل الشيخ الشعراوي أنه في الوقت الذي كانت فيه الدنيا كلها تتهم النساء بأنهن مسئولات عن إنجاب الإناث دون الذكور جاء القرآن فأكد أن الله سبحانه وتعالي قد خلق الرجال والنساء من نطفة الرجل وأنه لا دخل للمرأة في ذلك, ثم جاء العلم الحديث فأكد أن تحديد النوع يأتي من جانب الرجل وليس المرأة..

فلم أجد بعد ذلك أي عذر لأبي فيما فعل بأمنا وبنا ورحت أدعو الله عليه في صلواتي ليلا ونهارا.. وآمل أن يصيبه دعائي حيث يكون لأننا لا نعلم أين هو ولا إذا كان حيا أم ميتا.. فهل أنا مخطئة في كراهيتي هذه لأبي.. وفي كراهيتي لجنس الرجال ورفضي للزواج.. إنني أرجوك أن تناشد كل الرجال ألا يظلموا زوجاتهم وبناتهم لكيلا يحكموا عليهن بالتعاسة والشقاء طوال العمر.

رائج :   #اهديلك_تجربتي .. لما اتطلقنا بعد يوم الـ Anniversary الأول !!

ولكاتبة هــذه الرسـالة أقــــول (رد الكاتب عبد الوهاب مطاوع) :

كان الفيلسوف البريطاني برتراند راسل يقول, انه لكي تعيش سعيدا في حياتك عليك أن تحسن اختيار أجدادك, وبالرغم من السخرية الواضحة في هذه العبارة, فإن مدلولها العلمي صحيح وهو أن الكثير من سماتنا الجسدية والنفسية تحددها العوامل الوراثية التي تسجننا إلي حد كبير في سجن الجسد, الذي نولد به, وسجن الطبع الذي يتشكل من العوامل النفسية الوراثية والعوامل المكتسبة من بيئتنا العائلية وتجاربنا الشخصية ويبدو أننا مطالبون كذلك لكي نحيا حياتنا في سعادة أن نحسن أيضا اختيار آبائنا وأمهاتنا وأن نختار لأنفسنا طفولة سعيدة آمنة ترشحنا لمواجهة الحياة بتكوين نفسي سليم واستعداد طبيعي للسعادة.

ولاننا لا نستطيع للأسف اختيار أجدادنا وآبائنا وأمهاتنا وطفولتنا, فإن مسئولية الآباء والأمهات عن توفير هذه الطفولة السعيدة لابنائهم تظل دائما هي خير ما يقدمونه لابنائهم من عطايا وخير ما يرشحونهم به للحياة السوية الآمنة في المستقبل.

وحالك خير مثال علي ذلك يا آنستي, فأنت تدفعين الآن ثمنا غاليا بسوء تقدير أبيك وجهله بحقائق الحياة ونقوصه عن الرضا باقداره وتقاعسه عن تحمل مسئوليته الإنسانية عن بناته, ولقد تفتحت مداركك للحياة وأنت تنطوين في أعماقك علي أسوأ ما ينطوي عليه طفل في طفولته وهو إحساسه الباطني بأنه عبء ثقيل علي الحياة وأحد أسباب شقاء أمه أو أبيه بحياته بدلا من أن يشب وبداخله الإحساس السليم بأنه هبة الأقدار الغالية لأبويه, وموضع الاعزاز والحب الغامر من كليهما.

ولقد كان من المكن أن ينحسر أثر هذا الإحساس المؤلم عليك إلي أقصي حد ممكن لو لم تكن والدتك قد أسرفت في تنبيه هذا الإحساس لديك ولدي اختيك, والإسراف في رواية ذكريات مأساتها الشخصية مع أبيكن, وتعميق إحساسكن بأثر النوع علي تحطم حياتها الزوجية الأولي, والتركيز علي عمق الجرح الذي خلفه هذا الأب الجاحد في حياتها وحياة بناتها,

إذ تفاعلت كل هذه المؤثرات مع إحساسك المؤلم بأفتقاد الأب الراعي المسئول عن بناته في حياتك وفقدان التعبير وأثرت علي تشكيل نظرتك السلبية للرجال والزواج, وتحول الرجل في أعماقك إلي رمز لقهر الانثي وإيلامها والتخلي عنها ورغبت في عقلك الباطن في تجنب التعرض لهذا القهر الذي لمست أثره المؤلم علي حياة والدتك وحياتك وحياة أختيك فنفرت من جنس الرجال وأصبح الزواج لديك قرينا لتعرض الانثي للإيذاء المعنوي والقهر والشقاء.

ولقد علمتنا تجربة الحياة أن الابناء حين يكونون شهداء علي التعاسة الزوجية لأبويهم, فإنهم يتفاعلون مع ما يشهدون عليه من شقاء سلبا وإيجابا فيورثهم في بعض الأحيان مثل هذا الأثر السلبي, الذي يعجزون معه عن التفاعل السليم مع مؤثرات الحياة أو يورثهم في أحيان أخري الرغبة الحارة في السعادة الشخصية في حياتهم الخاصة والتمسك بما حرموا منه في طفولتهم وصباهم من أسبابها والحرص علي أن يجنبوا ابناءهم مرارة التعاسة والخوف من المستقبل التي تجرعوها هم في حياتهم.

ولقد اختارت لك الأقدار هذا الأثر السلبي دون الآثار الأخري وتعمق لديك الإحساس بالخوف من أن تتعرضي في المستقبل لقهر الرجل الذي تعرضت له أمك في الماضي مع أن تجربتها الثانية في الزواج قد نجحت وحققت لها ولكن الأمان والاستقرار, فلماذا ثبتت عيناك علي تجربتها الأولي مع أبيك وحده؟ ولماذا لم تجد تجربتها الثانية في الوفاق الزوجي ما ينبغي أن يكون لها من أثر ايجابي علي رؤيتك للرجل والزواج؟ ولماذا أيضا لا تأملين في تكرار تجربتي شقيقتيك في الزواج السعيد والتعامل مع صنف آخر من الرجال؟

إن الأمر علي أية حال لم يخرج بعد عن نطاق السيطرة ومن الممكن دائما أن يعدل الإنسان من أفكاره الخاطئة في أي مرحلة من العمر بمراجعة هذه الأفكار واختبار منطقيتها وبالحوار الهاديء العقلاني مع النفس.

فإذا سلمت بينك وبين نفسك, بأنه لا ذنب لأحد في ضيق أفق والدك ولا في تخليه عن مسئولية بناته, وأدركت أن البشر جميعا ليسوا أشباه متماثلين في أفكارهم ورؤيتهم للحياة,, واسترجعت ما قاله الأديب والشاعر الألماني جوته من أنه يندر أن تجد بين أوراق الشجر ورقتين متماثلتين تمام التماثل, ويندر أيضا أن تجد بين البشر اثنين تتفق آراؤهما وأساليب تكفيرهما تمام الاتفاق, إذن لأدركت أنه لا يمكن أبدا تعميم حكم سليم علي كل الرجال أو كل النساء اعتمادا علي تجربتنا الشخصية مع واحد منهم أو واحدة منهن, أو حتي مع بعض هؤلاء وهؤلاء.

فضعي الأمور في نصابها الصحيح, وتخلصي من خوفك المرضي من الرجال والزواج ولو تطلب ذلك الاستعانة بخبرة الطبيب النفسي, وتعاملي مع الحياة بالإيمان الصحيح بخيريتها, بالرغم مما يزعجنا من بعض مظاهر الشر فيها, ولسوف ترشحين نفسك بذلك للتفاعل الايجابي معها ولخوض تجربتك الشخصية فيها والابتهاج بها.

مقالات ذات صلة